Fatimah Az-Zahra dan Fatimiyun
فاطمة الزهراء والفاطميون
Genre-genre
تمهيد
القسم الأول: فاطمة الزهراء
1 - أم الزهراء
2 - نشأتها
3 - زواجها
4 - بلاغتها
5 - في الحياة العامة
6 - وفاتها
7 - شخصية الزهراء
8 - الذرية الفاطمية
Halaman tidak diketahui
القسم الثاني: ... والفاطميون
9 - الفاطميون
10 - النسب
11 - الباطنية
12 - الباطنية الفاطمية
13 - حسن بن الصباح
14 - السرية الباطنية
15 - بناة وهدامون ومهدومون
16 - المعز لدين الله
17 - حضارة متحضرة
Halaman tidak diketahui
تمهيد
القسم الأول: فاطمة الزهراء
1 - أم الزهراء
2 - نشأتها
3 - زواجها
4 - بلاغتها
5 - في الحياة العامة
6 - وفاتها
7 - شخصية الزهراء
8 - الذرية الفاطمية
Halaman tidak diketahui
القسم الثاني: ... والفاطميون
9 - الفاطميون
10 - النسب
11 - الباطنية
12 - الباطنية الفاطمية
13 - حسن بن الصباح
14 - السرية الباطنية
15 - بناة وهدامون ومهدومون
16 - المعز لدين الله
17 - حضارة متحضرة
Halaman tidak diketahui
فاطمة الزهراء والفاطميون
فاطمة الزهراء والفاطميون
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
ترد الإشارة إلى الوراثة في مواضع شتى من هذه الصفحات التالية، ونعول عليها في مناسبات شتى لتفسير بعض الأطوار. ومنها أطوار الجماعات أو أطوار الحركات التاريخية.
وأراني أهم بأن أضرب المثل فأبدأ بنفسي وبأثر الوراثة في كتابة هذه الصفحات وكتابة كثير من الصفحات في الموضوعات الإسلامية، وما اتصل منها بالعترة
1
النبوية على التخصيص، ومن أمثالنا في الصعيد الأعلى ما معناه: أن البيت إذا احتاج إلى الخبز فهو أولى به من الجامع.
ولدت لأبوين من أهل السنة: أبي على مذهب الشافعي وأمي على مذهب أبي حنيفة، وفتحت عيني على الدنيا وأنا أراهما يصليان ويتيقظان قبل الفجر لأداء صلاة الصبح حاضرة، وربما زارنا أحد أخوالي في تلك الساعات المبكرة ذاهبا إلى المسجد القريب أو عائدا منه إلى داره.
Halaman tidak diketahui
وفتحت أذني كما فتحت عيني على عبارات الحب الشديد للنبي عليه السلام وآله، فمولد النبي حفلة سنوية في البيت نترقبها نحن الصغار ونفرح بها؛ لأننا نحن القائمون بالخدمة فيها. وأسماء النبي وآله تتردد بين جوانب البيت ليل نهار؛ لأنها أسماء إخوتي أجمعين: محمد وإبراهيم والمختار ومصطفى وأحمد والطاهر ويس، وشقيقتي الوحيدة اسمها فاطمة، واسمي أنا منسوب إلى عم النبي لا إلى الأمير الأسبق: عباس حلمي الثاني كما كان يتوهم بعض معارفي؛ لأنني ولدت قبل ولايته، وأبيت في المدرسة أن ألقب بلقب «حلمي» جريا على ما تعودته المدارس في تلك الحقبة، وبقيت منسوبا إلى اسم «محمود » وهو كذلك من أسماء النبي، ولم يكن لأبي إخوة، وإنما كانت أختاه الشقيقتان تسميان باسم نفيسة واسم زينب، وأولادهم ينادون بالأسماء التي تغلب عليها هذه النسبة الشريفة.
ورثت هذا الحب الشديد للنبي وآله عليهم سلام الله ورضوانه، وليس هذا الحب الشديد بالمستغرب من أهل السنة؛ لأنهم يدينون بدستور السنة النبوية، ولكنه كان في بيتنا أشبه بالعاطفة النفسية منه بالآداب المذهبية، فاستفدت منه كثيرا في دراسة تاريخ الإسلام.
استفدت منه أنني كنت شديد التريث في سماع كل دعوى من دعاوى السياسة القديمة التي كانت تقوم على إنكار حق، أو إنكار فضل؛ أو إنكار نسب، أو إنكار ما من ضروب الإنكار التي تمس تواريخ أهل البيت النبوي من بعيد أو قريب.
ولم أستفد منه بحمد الله كراهية أحد ذي حق أو ذي فضل؛ لأن قداسة العظمة الإنسانية تحجب عندي جميع هذه الصغائر التي تمس تواريخ العظماء أجمعين، وولعي بدراسة تواريخ العظماء من طفولتي الباكرة عصمني بحمد الله من غوائل
2
هذا الصغار.
3
ومن أثر هذه الوراثة في ذهني أنني لم أصدق ما كان في حكم الواقع المقرر عن سياسة الإمام، وأنه لم يكن له في السياسة نصيب، فبحثتها بحث الإشاعات، ولم أعطها من بادئ الرأي شأنا أكبر من الإشاعات التي تسري على الأفواه بغير دليل، أو يجيئها الدليل المختلق من صنع أصحاب المنافع والمآرب في سياسة الحاكم الغالب، فهم مدافعون عن أنفسهم باتهام الآخرين. •••
ومن أثر هذه الوراثة في ذهني أنني قارنت سير العظماء الإسلاميين و«النبويين» لأرضي ذهني، ولم يقنعني أن أرضى بها عاطفة لا أستمد من ذهني شواهدها وآياتها؛ فعظماء الإسلام عندي أعلام إنسانية باذخة تخولها مكان العظمة مناقب يكبرها المسلم وغير المسلم، وليست غاية الأمر فيهم أنهم أضرحة للتبرك وتلاوة الفاتحة والسلام.
وبهذه النزعة الموروثة أطرق باب الكلام في حياة الزهراء؛ فإنها - سلام الله عليها - قد تكتب لها ترجمة لأنها بنت محمد، أو تكتب لها ترجمة لأنها زوج علي، أو تكتب لها ترجمة لأنها أم الحسن والحسين وبنيهما الشهداء، ولكنها مع هذه الكرامة قد تكتب لها ترجمة لأنها هي فاطمة؛ ولأنها هي مصدر من مصادر القوة التاريخية التي تتابعت آثارها في دعوات الخلافة من صدر الإسلام إلى الزمن الأخير. •••
Halaman tidak diketahui
وهذا الذي قصدت إليه بكتابة هذه السيرة، وبالبحث عن مكان الصلة بينها وبين المنتسبين إلى فاطمة، وعلى قلة الأخبار التي حفظت عن شخص فاطمة - عليها السلام - أرجو أن أكون على نهج التوفيق فيما أمكنني أن أستخلصه من ملامح هذه السيرة المباركة ومعالمها.
ونعود إلى الوراثة فنقول: إن أول ما نضيفه إلى بيان قوة اليقين، أو بيان القوة الإيمانية في نفس الزهراء، أنها ورثتها من أم وأب، وقد غطى ميراثها من أبيها على كل ميراث، ولكنه إذا اقترن بالميراث من أمها فقد بلغت أصالته مدى متصل الآثار فيما ورثته هي، وفيما توارثه الأعقاب من بعدها، وما أخلده من ميراث!
القسم الأول
فاطمة الزهراء
الفصل الأول
أم الزهراء
حفظ التاريخ لنا قليلا من أخبار السيدة خديجة - أم الزهراء - رضي الله عنهما، ولكن هذا القليل كاف للتعريف بها، وبما يمكن أن تورثه بنيها من الخلائق والسجايا؛ لأنه يعطينا منها صورة كاملة لا تزيدها الإفاضة في الأخبار إلا في التفصيل.
ومن جملة الأخبار القليلة التي حفظت لنا نعلم أن الزهراء أنجبتها أم ذات فطنة ورجاحة، وأنها رضي الله عنها كانت غنية اليد غنية النفس بأكرم العواطف الأنثوية: عاطفة المحبة الزوجية، وعاطفة الأمومة، وعاطفة الإيمان.
كانت تسمى في الجاهلية بالطاهرة وسيدة نساء قريش؛ لأنها جمعت إلى مكانة النسب العريق مكانة الثروة الوافرة ومكانة الخلائق الموقرة، وأهلها جميعا لم يحفظ التاريخ سيرة أحد منهم إلا كان علما في الحكمة والدراية، أو في الشجاعة والشمم، كورقة بن نوفل وأسرة الزبير بن العوام.
ولدت لأبوين كلاهما من أعرق الأسر في الجزيرة العربية، وكلاهما ينتهي نسبه إلى لؤي بن غالب بن فهر؛ بل كانت أمها تنتسب من ناحية أمها كذلك إلى هذا النسب المعرق في النبل والسيادة، فهي فاطمة بنت هالة التي ينتهي نسبها كذلك إلى لؤي بن غالب، وهالة بنت قلابة التي ينتهي نسبها إلى ذلك الجد الأعلى، وقد اجتمع لها مع النبل مكانة الثروة الوافرة كما تقدم، فكانت قافلتها إلى الشام تعدل قوافل قريش أجمعين في كثير من الأعوام.
Halaman tidak diketahui
وأهم من هذا جميعه بالنسبة إلى زوجة نبي، وإلى جدة الأئمة من بيت النبوة، أنها كانت مفطورة على التدين وراثة وتربية.
فأبوها خويلد هو الذي نازع تبعا الآخر حين أراد أن يحتمل الركن الأسود معه إلى اليمن، فتصدى له ولم يرهب بأسه غيرة على هذا المنسك
1
من مناسك دينه. وقال السهيلي في الروض الأنف: «إن تبعا روع في منامه ترويعا شديدا حتى ترك ذلك وانصرف عنه» فلا يبعد أن روعة خويلد ومرآه وهو ينذر العاهل بالغضب الإلهي إذا أقدم على فعلته قد شغل قلب التبع فتراءى له من المخوفات في منامه ما أرهبه وثناه عن عمله.
وابن عم السيد خديجة هو ورقة بن نوفل الذي رجعت إليه حين بدا لها من اضطراب النبي عليه السلام عند مفاجأته بالوحي ما أزعجها، فركبت إلى ورقة تسأله لعلمه بالدين وعكوفه على دراسة كتب النصارى واليهود، ولم تكن الكهانة الدينية وظيفة ينتفع بها صاحبها؛ إذ لم يكن في مكة مسيحيون يرجعون بأمرهم إلى كاهن أو كنيسة، وإنما كان عكوف الرجل على دراسة الدين لطبيعة فيه توحي إليه الشك في عبادة الأصنام، وتجنح به إلى البحث والمراجعة عسى أن يهتدي إلى عقيدة أفضل من هذه العقيدة. وينسب إليه شعر كان يقوله في الجاهلية يشبه شعر أمية بن أبي الصلت، ويروي كتاب السيرة أنه استغرب علم السيدة خديجة باسم جبريل حين ذكرته له، وقال لها: «إنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا يتسمى باسمه.»
وقد جاء حديث ورقة مع السيدة خديجة على روايات مختلفة، لا يعنينا أن نستقصيها؛ لأن المهم في الأمر هو وجود هذا الشغف بمدارسة الأديان بين بني عم السيدة الأقربين، فهذا وانفراد أبيها بين زعماء مكة بالوقوف لعاهل اليمن والمخاطرة بنفسه غيرة منه على مناسك الكعبة كافيان للإبانة عن طبيعة التدين التي ورثتها الأسرة، من كان منهم على الجاهلية، ومن تحول عنها إلى النصرانية.
ويؤخذ من أخبار السيدة خديجة الأخرى أنها كانت على علم بكل من يطالع كتب المسيحية والإسرائيلية؛ لأنها لم تكتف بسؤال ابن عمها بل سألت غيره ممن كانت لهم شهرة بالاطلاع على التوراة وكتب الأديان.
وقد روي عنها كلام قالته للنبي عليه السلام حين فاجأه الوحي فعاد إليها، وقال لها: «لقد خشيت على نفسي!» فكان كلامها - الذي أرادت أن تسري به عنه وتثبت به جنانه - آية على العلم بلباب الدين علما يستكثر على الناشئين في أديان الجاهلية، فإن الدين لا يعدو أن يكون عندهم كهانة وسحرا، ولكنها أدركت من حقيقة الدين ما لا يدركه عامة قومها، فعلمت أنه فضيلة، وأن النبي الجدير أن يندب له هو الرجل الذي اتسم بالفضيلة، وقالت للنبي وقد آمنت أنه وحي وليس بعارض من عوارض الجنة: «كلا! والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل،
2
وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة.»
Halaman tidak diketahui
علامات للنبوة لا يدركها كل من يسمع بالدين، ولولا أنها عرفت من أبناء عمومتها من كان يفهم النبوة هذا الفهم لما كانت هذه علاماتها لتصديق الدعوة وصرف الوجل والخشية عن نفس زوجها الكريم.
وهي على هذا طبيعة مميزة، وليست طبيعة منساقة إلى السماع والتقليد، فمما نقل عنها أنها طلبت إلى النبي عليه السلام أن يخبرها إذا جاءه جبريل، فلما أخبرها قالت له: «قم فاجلس على فخذي اليسري» ففعل، فقالت: «هل تراه؟» قال: «نعم». قالت: «فتحول إلى فخذي اليمنى» وسألته: «هل تراه؟» قال: «نعم». فألقت خمارها
3
وسألته، فقال: «الآن لا أراه». قالت: «يا ابن العم اثبت وأبشر، فإنه ملك وما هو بشيطان.»
وهذا الاختبار غاية ما كان ينتظر من سيدة في عصرها أن تمتحن به حقيقة الوحي. ولا غرابة فيه عند المسلم وعند غير المسلم في العصر الحاضر، فإن البديهة لا تشتغل بالوحي الديني والنظر إلى جسد الأنثى في وقت واحد، ولا سيما بعد الحوار وإعادة السؤال مرة بعد مرة، فلا موجب إذن لشك المتشككين من المتحذلقين في صحة هذه الأحاديث.
وقد رزقت هذه السيدة البارة صباحة الوجه مع ما رزقته من الخلق الجميل والحسب الأثيل
4
والمال الجزيل، وصدق من قال: إن السعادة لا تتم، فإن هذه السيدة التي تم لها غاية ما تتمناه المرأة لم تتم لها نعمة السعادة في حياتها الزوجية، فإنها تزوجت في صباها برجل من هامات
5
مكة هو أبو هالة بن زرارة، فمات ولها منه ولد صغير سمي باسم هند (لعله دفعا لأذى الحسد)، وهو الذي تربى مع السيدة فاطمة وقتل في جيش الإمام في وقعة الجمل على أرجح الأقوال، ويؤثر عنه أوفى وصف للنبي رواه سبطه الحسن عليهما صلوات الله.
Halaman tidak diketahui
ثم بنى بها عتيق بن عائذ بن عبد الله المخزومي، واختلفوا في أي زوجيها كان الأول، ولكنه على كل حال زواج لم يكتب له الدوام، وقد أعرضت عن الزواج بعد هذين الزوجين حتى عرض لها في حياتها الرجل الذي أصبحت بفضله علما من أعلام النساء في التاريخ، ولا شيء أدل على رجاحة لبها من أناتها
6
في اختيار زوجها، مع تهافت الخطاب عليها ورجوع الأمر إليها فيما تختار.
أما كيف اتصل النبي عليه السلام بالعمل في تجارتها، فتكاد الأقوال تتفق على أنه كان بمشورة من عمه أبي طالب، وأن أبا طالب قال له في سنة من السنين: «يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرها فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك.» وقد تردد النبي في مفاتحتها بهذا الطلب فذهب إليها أبو طالب، فأجابته على رضى وكرامة، وقالت له: «لو سألت ذلك لبعيد بغيض لأجبناك، فكيف وقد سألت لقريب حبيب؟»
وقد سافر النبي إلى الشام وباع واشترى وربح لها أضعاف ما كانت تربح في كل عام، وأعجبها منه أنه حين عاد من السفر وكل إلى غلامها ميسرة - الذي كان بصحبته - أن يسبقه ليبشرها بعودة القافلة ووفرة كسبها، فأكبرت منه مروءته وأمانته وحذقه، وأحبته وودت لو يخطبها مع الخطاب، وعرضت له بذلك في حديث أقرب إلى التلميح منه إلى التصريح.
وأحجم النبي حياء، وأحجمت هي عن التصريح، ثم أوعزت إلى صديقة لها - هي نفيسة بنت منية - أن تشجعه على الخطبة، فسألته نفيسة ذات يوم: «ما يمنعك أن تتزوج؟» قال: «قلة المال». قالت: «فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟» قال: «ومن تكون؟» قالت: «خديجة!» قال: «فاذهبي فاخطبيها.»
وروى الزهري صاحب أقدم السير أن «رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لشريكه الذي كان يتجر معه في مال خديجة: «هلم فلنتحدث عند خديجة»، وكانت تكرمهما وتتحفهما، فلما قاما من عندها جاءت امرأة مستنشئة
7 - هي الكاهنة - فقالت له: جئت خاطبا يا محمد؟ فقال: «كلا». فقالت: ولم؟ فوالله ما في قريش امرأة - وإن كانت خديجة - إلا تراك كفؤا لها.»
Halaman tidak diketahui
وأشبه الأشياء بأن يكون - بين الروايات المتعددة - أن النبي عليه السلام كاشف رئيس أسرته أن يتقدم لخطبتها ففعل وخطبها خطبة عزيز قوم لعزيزة قوم، وقال وهو يفاتح عمها في الأمر: «إن محمدا ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قلا فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك» فقال عمها عمرو، أو ابن عمها ورقة بن نوفل في رواية أخرى: «هو الفحل الذي لا يقدع أنفه».
8
وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله، ولم يتزوج عليها في حياتها إلى أن قارب الخمسين.
ومن خديجة ولد للنبي جميع أبنائه ما عدا إبراهيم ابنه من مارية القبطية، وهم: القاسم، والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، أصغرهم باتفاق معظم الأقوال.
وكان النبي عليه السلام عند زواجه بالسيدة خديجة في نحو الخامسة والعشرين من عمره، أما السيدة خديجة فمن كتاب السيرة من يقول: إنها كانت في الأربعين أو الخامسة وأربعين، ومنهم ابن عباس يقول : «إنها كانت في الثامنة والعشرين ولم تجاوزها». وأحرى بهذه الرواية أن تكون أقرب الروايات إلى الصحة؛ لأن ابن عباس كان أولى الناس أن يعلم حقيقة عمرها، ولأن المرأة في بلاد كجزيرة العرب يبكر فيها النمو ويبكر فيها الكبر لا تتصدى للزواج بعد الأربعين، ولا يعهد في الأغلب الأعم أن تلد بعدها سبعة أولاد، عدا من جاء في بعض الروايات أنهم ولدوا مع من ذكرنا أسماءهم.
وقد يرجح تقدير ابن عباس غير هذا أن مثل خديجة تتزوج في نحو الخامسة عشرة أو قبلها لجمالها ومالها وعراقة بيتها وطمأنينة أهلها، فلا تتجاوز الخامسة والعشرين بعد زواجين لم يكتب لهما طول الأمد، وإن كنا لا نعرف على التحقيق كم من السنين دام زواجها من أبي هالة ومن عتيق بن عائذ، فمن الكلام عن ذريتها منهما يبدو أن أيامها معهما لم تزد على بضعة أعوام.
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
وأمامنا ألف مصداق على هذه الآية في سيرة الرسول العظيم الذي تنزلت عليه تلك الحكمة الإلهية.
لقد تأخرت به قلة المال فلم يتزوج قبل العشرين، خلافا لما جرى عليه العرف بين علية القوم، وهو من تلك العلية في الذؤابة
9
Halaman tidak diketahui
العليا.
ولقد عزت الهناءة الزوجية على السيدة الغنية الوضيئة
10
الذكية، فتأيمت
11
في نحو الثلاثين.
ولو كثر مال محمد لعله كان يبني قبل العشرين بكريمة معشر تصغره ببضع سنين، وكان هذا هو الحظ السعيد في عرف كل إنسان عاقل رشيد.
ولو تيسرت الهناءة الزوجية لخديجة لعلها كانت في غنى عمن يتجر لها ويؤتمن على قوافلها بين الحجاز والشام، ولكان لها من مالها ومال زوجها عون في الرحلة والمقام، وكان هذا هو الحظ السعيد في عرف كل إنسان عاقل رشيد.
أيهما كان خيرا؟
هذا الذي كان كما كان، أو ذاك الذي كان يحسبه كل عاقل رشيد صفوة الحظ الحسن الرشيد؟!
Halaman tidak diketahui
لم تمض سنوات على هذه الآصرة
12
القدسية التي جمعت بين الزوجين الكريمين حتى طرأ طارئ لم يدخل لهما في حساب، واستجاش الغيب نفس رسوله فتحفزت لأداء الأمانة الجلى التي جاشت بها جوانح الدنيا مئات السنين.
فلم يجد محمد إلى جانبه فتاة غريرة تفزع ولا تدري ما تصنع، بل وجد إلى جانبه قلبا كريما وروحا عظيما وسكنا تهدأ عنده جائشة ضميره وتطمئن إليه خشية فؤاده، ولم يكن قصارى الأمان عند حليلته التي سكن إليها أنها حنكة السن وحنان الأمومة، ولكنه أمان الذي يعرف من نشأته ونشأة آله ما الرسالة وما أمانة الحق والفضيلة، وما عاقبة الصبر على العرواء
13
التي تندك لها عزائم وتطيش لها أحلام، ولا يتلقاها كما يتلقى البشارة المفرحة إلا من هو كفؤ لها من بني آدم وحواء.
وكل ما علمناه من سيرة خديجة عليها الرضوان خليق على قلته أن يجعلها بحق سيدة نساء قريش، ولكن هذا القليل الذي علمناه لو ذهب كله ولم يبق منه إلا أيام حضانتها لبشائر النبوة في طلعتها لضمن لها أن تتبوأ مقام السيادة بين نساء العالمين.
وقد بقي محمد يذكر لها تلك الأيام إلى مختتم أيامه، وظل يتفقدها ويتفقد مواطن ذكراها أعواما بعد أعوام، لقد كان فيها الشغل الشاغل عن أطيب الأيام وأصعب الأيام. وإن وفاء كهذا لهو وحده كفاية المستقصي في التعريف بحقها من زوجة بارة وأم رءوم، فما من شهادة لإنسانة هي أصدق من دوام الوفاء لها في قلب إنسان عظيم.
الفصل الثاني
نشأتها
Halaman tidak diketahui
إذا وصفت نشأة الزهراء بكلمة واحدة تغني عن كلمات فالجد هو تلك الكلمة الواحدة.
درجت في دار أبويها، والدار يومئذ مقبلة على أمر جلل لم تتجمع بوادره في غير تلك الدار، وغار حراء.
أمر جلل لا تقف جلالته عند جدران الدار، ولا عند أبواب المدينة التي اشتملت عليها، ولا عند حدود الجزيرة العربية بعمارها وقفارها، بل هو الأمر الجلل الذي يطبق العالم بأسره عصورا وراء عصور؛ لأنه هو أمر الدعوة الإسلامية التي كانت يومئذ تختلج في صدر واحد، هو صدر أبي الزهراء عليه السلام.
ما هذه الصلوات والتسبيحات؟ ما هذه الهينمة
1
بين الأبوين؟ ما هذا الوجل وما هذا القنوت؟
2
أكبر الظن أن الطفلة الصغيرة لم تستغرب شيئا من هذا؛ لأن الطفل لا يستغرب الأمر إلا إذا رأى ما يخالفه، وهي لم تفتح عينيها على غير هذه البوادر والمقدمات.
أكبر الظن أن الزهراء الصغيرة لم تستغرب شيئا مما كان يحيط بها وهي تدرج في مهدها، ولكن الطفل الذي يحسب هذه المشاهد من مألوفاته ينفرد بمألوفات لا تتكرر من حوله، ويتخذ له قياسا للألفة والغرابة منفردا بين أقيسة النفوس.
وأكبر الظن أنه ينشأ منطويا على نفسه، مستخفا بما يخف له الناس من حوله، متطلبا من عادات النفوس وطبائعها غير ما يتطلبون.
Halaman tidak diketahui
وقد أوشكت الزهراء أن تنشأ نشأة الطفل الوحيد في دار أبويها؛ لأنها لم تجد معها غير أخت واحدة ليست من سنها، وغير أخيها هند، وهو أكبر منها ومن أختها، ولم يكن من عادة الطفولة العربية أن يلعب البنات لعب الصبيان.
وأوشكت عزلة الطفلة الوحيدة أن تكبر معها؛ لأنها لم تكن تسمع عن ذكريات إخوتها الكبار إلا ما يحزن ويشغل؛ ماتوا صغارا وخلفوا في نفوس الأبوين لوعة كامنة وصبرا مريرا، أو تزوج من الأخوات الأحياء من تزوج وخطب من خطب، ثم لم تلبث الخطبة أن ردت إلى أختين؛ لأنهما خطبتا إلى ولدي أبي لهب، ثم أصبح أبو لهب عدوا للأبوين يمقتهما ويمقتانه، فانتهت خطبة الأختين الشقيقتين بهذا العداء.
جد من كل جانب تركن إليه، وانطواء على النفس لا تستغربه ولا تحب أن تتبدله، ملاذها في كل هذا حنان أبوين لا كالآباء: حنان جاد رصين، ونكاد نقول: بل حنان صابر حزين، يشملها به الأب الذي مات أبناؤه ولا عزاء له من بعدهم غير عبء النبوة الذي تأهب له زمنا ونهض به زمنا، ولا يزال يعاني من حمله ما تنوء به الجبال، وتشملها به الأم التي جاوزت الأربعين وبقيت لها في خدرها هذه البنية الدارجة صغرى ذريتها، والحنان على الصغرى من الذرية بعد فراق الذرية كلها بالموت أو بالرحلة حنان لعمر الحق صابر حزين.
ولقد نعمت الزهراء بهذا الحنان من قلبين كبيرين: حنان أحرى به أن يعلم الوقار ولا يعلم الخفة والمرح والانطلاق.
وتعلمت الزهراء في دار أبويها ما لم تتعلمه طفلة غيرها في مكة: آيات من القرآن وعادات يأباها من حولهم العابدون وغير العابدين.
ولكنها قد تعلمت كذلك كل ما يتعلمه غيرها من البنات في حاضرة الجزيرة العربية، فلا عجب أن نسمع عنها بعد ذلك أنها كانت تضمد جراح أبيها في غزوة أحد، وأنها كانت تقوم وحدها بصنيع بيتها ولا يعينها أحد في أكثر أيامها.
ويبدو لنا انطواء الزهراء على نفسها من الأحاديث المروية عنها، فلم تعرض قط لشيء غير شأنها وشأن بيتها، ولم تتحدث قط في غير ما تسأل عنه أو يلجئها إليه حادث لا ملجأ منه، فلا فضول هنالك في عمل ولا في مقال.
وسواء صح ما جاء في الأنباء عن محاجتها للصديق بالقرآن الكريم أو كان فيه مجال للمراجعة، فالصحيح الذي لا مراجعة فيه أنها سمعت القرآن الكريم من النبي وسمعته من علي، وأنها صلت به ووعت أحكام فرائضه، وأنها وعت كل ما وعته فتاة عربية أصيلة العرق والنسب، وزادت عليه ما لا يعيه غيرها من الأصيلات المعرقات.
لقد نشأت نشأة جد واعتكاف:
3
Halaman tidak diketahui
نشأة وقار واكتفاء، وعلمت مع السنين أنها سليلة شرف لا منازع لها فيه من واحدة من بنات حواء فيمن تراه، فوثقت بكفاية هذا الشرف الذي لا يدانى، وشبت بين انطوائها على نفسها واكتفائها بشرفها كأنها في عزلة بين أبناء آدم وحواء.
سكنت هذه النفس القوية جثمانا يضيق بقوتها، وقلما رزق الراحة من اجتمع له النفس القوية والجثمان الضعيف، فإنهما مزيج متعب للنفس والجسم معا، لا قوام له بغير راحة واحدة: هي راحة الإيمان، وهذا هو التوفيق الأكبر في نشأة الزهراء، فإنها نشأت في مهد الإيمان؛ إذ هو ألزم ما يكون لها بين قوة نفسها ونحول جثمانها.
الفصل الثالث
زواجها
قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية: «إن عبد الله بن حسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله: يا أبا محمد! كم بلغت فاطمة من السن؟ قال: ثلاثين سنة. فقال الكلبي: خمسا وثلاثين. فقال هشام: اسمع ما يقول، وقد عني بهذا الشأن. فقال: يا أمير المؤمنين: سلني عن أمي وسل الكلبي عن أمه.»
وتوافق هذه الرواية روايات متعددة، اتفقت على أن الزهراء ولدت في سنة بناء الكعبة قبل البعثة المحمدية ببضع سنوات، فأصح الأقوال بين الأخبار المتضاربة أنها عليها السلام قد تزوجت وهي في نحو الثامنة عشرة.
ومن جملة الأخبار يتضح أن النبي عليه السلام كان يبقيها لعلي رضي الله عنه؛ فقد خطبها أبو بكر وعمر، فردهما وقال لكل منهما: أنتظر بها القضاء، أو قال: إنها صغيرة كما جاء في سنن النسائي.
وفي أسد الغابة أنها لما خطبها أبو بكر وعمر وأبى رسول الله قال عمر: «أنت لها يا علي!» فقال علي: «ما لي من شيء إلا درعي أرهنها»، فزوجه رسول الله فاطمة، فلما بلغ ذلك فاطمة بكت، ثم دخل عليها رسول الله فقال: «مالك تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما وأفضلهم حلما وأولهم سلما.»
وفي رواية أن عليا لما سأله النبي: «هل عندك من شيء؟» قال: «كلا». فقال له: «وأين درعك الحطمية؟» أي التي تحطم السيوف، وكان النبي قد أهداه إياها، فباعها وباع أشياء غيرها كانت عنده، فاجتمع له منها أربعمائة درهم.
جاء في أنساب الأشراف للبلاذري: «فباع بعيرا له ومتاعا فبلغ من ذلك أربعمائة وثمانين درهما، ويقال: أربعمائة درهم، فأمره أن يجعل ثلثها في الطيب وثلثها في المتاع ففعل.»
Halaman tidak diketahui
ثم استطرد صاحب الأنساب إلى رواية أخرى، يرتفع سندها إلى علي نفسه قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: «أردت أن أخطب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ابنته، فقلت: والله ما لي شيء، ثم ذكرت صلته وعائدته فخطبتها إليه». فقال: «وهل عندك من شيء؟» قلت: «لا» قال: «فأين درعك يوم كذا؟ فقلت: هي عندي! قال: فأعطها إياها.»
وفي طبقات ابن سعد أن رسول الله قال لما خطب أبو بكر وعمر فاطمة: «هي لك يا علي! لست بدجال» يعني لست بكذاب. وذلك أنه كان وعد عليا بها قبل أن يخطبها.
ويروى عن النبي أنه قال لفاطمة: «ما أليت
1
أن أزوجك خير أهلي.»
وجهزت وما كان لها من جهاز غير سرير مشروط ووسادة من أدم حشوها ليف ونورة من أدم (إناء يغسل فيه) وسقاء ومنخل ومنشفة وقدح ورحاءان وجرتان.
وعن أنس بن مالك أن النبي قال له: انطلق وادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم، فلما أخذوا مجالسهم قال
صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع لسلطانه، المهروب إليه من عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد
Halaman tidak diketahui
صلى الله عليه وسلم . إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا لا حقا ولا أمرا مفترضا وحكما عادلا وخيرا جامعا، أوشج
2
بها الأرحام، وألزمها الأنام. فقال الله عز وجل:
وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ، وأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي، وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي، على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة، فجمع شملهما وبارك لهما وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة وأمن الأمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.»
قال أنس: «وكان علي عليه السلام غائبا في حاجة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد بعثه فيها. ثم أمر لنا بطبق فيه تمر فوضع بين أيدينا، فقال: انتبهوا. فبينما نحن كذلك إذ أقبل علي فتبسم إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقال: «يا علي! إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، وإني زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة»، فقال علي: رضيت يا رسول الله! ثم إن عليا خر ساجدا شكرا لله، فلما رفع رأسه قال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «بارك الله لكما وعليكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب».»
Halaman tidak diketahui
قال أنس: «والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب.»
ومن المرجح جدا أن الزهراء قد استشيرت في زواجها على عادة النبي عليه السلام في تزويج كل بنت من بناته كما جاء في مسند ابن حنبل، فيقول لها: فلان يذكرك، فإن سكتت أمضى الزواج، وإن نقرت الستر علم أنها تأباه، وفي زواج الزهراء قال لها: يا فاطمة! إن عليا يذكرك. فسكتت، وفي روايات أخرى أنه وجدها باكية، فذاك حيث قال رسول الله: «ما لك تبكين تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما، وأفضلهم حلما، وأولهم سلما.»
ولم يجمع كتاب السيرة على الوقت الذي تم فيه الزواج، ولكنهم قالوا: إنه كان بعد الهجرة، وبعد غزوة بدر. وأرجح الأقوال كما قدمنا أنها كانت في نحو الثامنة عشرة، وزوجها أكبر منها ببضع سنوات.
توخينا في اقتباس هذه الأخبار أن نرجح منها الأوسط الأمثل بين أقوال الرواة والمحدثين، فما من خبر من هذه الأخبار وصل إلينا في كتب السيرة على رواية واحدة، وقد يبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالزمن خمس سنوات أو أكثر، ويبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالأقوال والأعمال أن تتناقض مناقضة القبول والإباء والرضى والإنكار، فلا مناص من الأخذ بالأوسط الأمثل بين جميع هذه الأقوال.
ونحن نعني بالأوسط الأمثال أن يكون الترجيح قائما على المقابلة والموازنة والرجوع إلى حوادث الزمن وعادات أهله، وإلى الأحرى أن يصدر ممن أسند إليهم القول أو نسب إليهم العمل؛ فإن الأخبار إذا تساوت رجح بينها ما هو أشبه بالزمن وأهله وأصحاب السيرة فيه.
فمن المعقول مثلا أن يؤثر النبي عليا بفاطمة وهما ربيبان في بيئة واحدة، ومن المعقول أن يؤثر زواجها من علي على مشاركتها في بيت أبي بكر وعمر لزوجات الشيخين، ومن المعقول أن يتردد علي في خطبتها لفقره. ولا يخالف المعقول ولا المألوف أن يقدم بعد تردد، لشعوره بأنه مخصوص بها وأنه ينبغي عليه أن يقطع الشك باليقين ويعمل من عنده ما لا بد له من عمله ، ولا يخالف المعقول ولا المألوف كذلك أن يتأخر الزواج إلى ما بعد الهجرة؛ لأن حياة المسلمين في مكة - قبل الهجرة إلى المدينة - لم تكن حياة أمن ولا استقرار، ولم يكن من النادر أن يهاجر المسلمون بزوجاتهم إلى بلد بعيد كالحبشة كلما ملكوا وسائل الهجرة، فمن كان متزوجا قبل اشتداد العنت على المسلمين فلا حيلة له في الزواج، ومن لم يكن فليس أخلق به من إرجاء الزواج إلى حين.
ذلك كله هو المعقول المألوف، وهو الأوسط الأمثل إذا تساوت الأخبار ووجبت الموازنة والترجيح.
إلا أن التاريخ يكتب للاعتبار، ولا يقصد من الاعتبار به شيء أهم من تصحيح النظر إلى الحوادث والناس، واستخلاص الحقيقة عما يقع ولا يقع وعما يجوز ولا يجوز.
وها هنا محل لعبرتين كأهم العبر في كتابة التاريخ: كتابته في الأزمنة الغابرة، وكتابته في الزمن الحديث.
فأهم العبر التي تستخلص من تواريخ عصر البعثة المحمدية أن يقتصد ذوو الأحكام التاريخية في المسائل الكبرى، فلا يرتبوا حكما قاطعا في مسألة كبيرة على أرقام السنين وألفاظ الروايات، فما كان من الأخبار مجمعا عليه أو مقاربا للإجماع فهو جدير باتخاذ الأحكام الجازمة فيه، وما كان ميزان الحكم فيه كلمة تقابلها كلمات، أو فرضا تقابله فروض، أو رقما ويوما تقابله أرقام وأيام بل أعوام، فليس من القصد أن يعطى فوق معياره من الجزم واليقين، وبخاصة حين ينبني عليه اتهام أو قضاء لا يقوم في مسائل كل يوم بغير بينة تنفي كل شبهة وتبطل كل محال.
Halaman tidak diketahui
أما العبرة في تاريخنا العصري فمرجعها إلى كتابة طائفة من العصريين يزعمون أنهم يطبقون روح العصر على تاريخنا القديم وأنهم يصححونه بهذا التطبيق، وليس أعجز منهم عن تحقيق هذه الدعوى؛ لأنهم أثبتوا فيما كتبوه أنهم يزنون بميزانين وينظرون بعينين، ويختلقون أسباب التشويه والتحريف.
أولئك هم طائفة المستشرقين الذين يجمعون بين الاستشراق والتبشير، فمن هؤلاء من يطالع في الكتب الدينية التي يصدقها، فيقرأ فيها من أخبار الدعاة والأدعياء أمورا لا شك في أنها من العيوب فلا يحسبها عيوبا، ولا يتأفف منها، بل يعنت فكره ويعنتها تخريجا وتعويجا حتى يقبلها، ويفرض قبولها على الناس.
فإذا طالع كتبا عن أصحاب دين غير دينه لم يأخذ نفسه بمثل هذا التحسين والتزيين، بل أخذها على النقيض من ذلك بالمسخ والتشويه وتحويل المحاسن إلى عيوب، أو بالتنقيب في كل مكان عما يعاب إن لم يجد ما يعيبه في ظاهر السطور والحروف.
وما من شيء يمسخ الدين ويمسخ العلم معا كما يمسخهما هذا الخلق الذميم، فإن الدين لا يعلم الإنسان شيئا إن لم يعلمه حب الصدق واجتناب التمحل
3
والافتراء، وإن العلم شر من الجهل إن كان يسوم الإنسان أن يغمض عينيه لكيلا يرى ويوصد أذنيه لكيلا يسمع، فليس هذا جهلا يزول بكشف الحقيقة، ولكنه مرض يتعمد حجب الحقيقة عن صاحبه وهي مكشوفة لديه، فهو شر من الجهل بلا مراء.
وفي تاريخ الزهراء مثال للعبرة التي تستخلص من كتب هؤلاء «العلماء» الذين هم شر من الجهلاء، وأحدهم قد خصص كتابا لتاريخ الزهراء يحاول فيه جهده أن «يطبق» ذلك العلم العصري المقلوب، فإذا هو منقلب عليه.
يؤلف رجل من رجال الدين المستشرقين الذين عاشوا زمنا في الشرق - كتابا عن الزهراء ليرضي فيه ذلك «العلم العصري» المقلوب، ويبحث عن العيوب حيث لا عيوب، فإذا العيب هو في الإسفاف، وكم في الإسفاف من عيوب، بل من ذنوب!
ومن تفاهاته وسفاسفه
4
Halaman tidak diketahui