Fath Arab untuk Mesir
فتح العرب لمصر
Genre-genre
16
وليس ثمة ما يدل على تلك الرحلة إلا ما روي من أن هرقل حمل معه الصليب وهو عائد إلى القسطنطينية. ولا شك في أنه فعل ذلك، غير أنه لم ينقذه بأن ذهب إلى بيت المقدس، ولا يمكن أن نتخذ من قول «قدرينوس» وأمثاله ممن يسوقون القول جزافا لا يتحرون فيه الدقة دليلا يقوم لحظة واحدة في وجه رواية «سبيوس»، وهي رواية واضحة دقيقة؛ فإن «سبيوس» يقول إن العرب بعد وقعة اليرموك جازوا نهر الأردن، وكانت هيبتهم تسبقهم فتقع في قلوب أهل تلك البلاد، فكانوا يذعنون لهم خاضعين، وقال: «وفي تلك الليلة (يقصد الليلة التي أعقبت بلوغ أنباء قدوم العرب إليهم) أخذ أهل بيت المقدس الصليب الأعظم وكل ما كان في الكنائس من الآنية، وجعلوا كل ذلك عند الساحل، ثم وضعوها في سفينة، وبعثوا بها إلى دار الملك بالقسطنطينية.» ولم يذكر في روايته كلمة واحدة عن هرقل، ولكن لا شك أن تلك السفينة التي كانت تحمل الكنوز المقدسة سارت إلى الشمال ولحقت بالإمبراطور، وكان لحوقها به إما في بعض الثغور التي مر بها في طريقه إلى عاصمته إذا كان سفره بحرا، وإما لحقته بقصره في «هيبيريا» على مقربة من خلقيدونية، وكان قد أقام بها مدة من الزمن وهو في اضطراب ومرض
17
يفتت عليه الأكباد. فلما سار إلى العاصمة حمل معه الصليب فأعاده إلى كنيسة القديسة صوفيا. وكان الناس قد فرحوا من قبل أشد الفرح بذلك الصليب، ورحبوا بمقدمه ظافرا، ورأوا فيه سر نجاح هرقل، ثم عاد إليهم بعد ذلك والحزن مخيم على الناس، وهم يرون في عودته إليهم رمزا لإخفاق مليكهم وخيبته. ويقيننا أن الأقدار لم تسخر من هرقل سخرا أقطع حدا ولا أمر مذاقا من هذا على كثرة ما أنزلته به من النكبات.
إذن تتضح لنا الحقيقة، وهي أن الصليب لم ينزع نزعا من يد صاحبه البطريق صفرونيوس، بل إنه أرسله مختارا مع سائر تحف الكنيسة، نزل عنها للإمبراطور لكي يحفظها عنده، ولم تكن ثمة وسيلة لحفظها غير هذه؛ فقد كان بالإسكندرية عدوه قيرس لا يزال على ولايته، وكانت مصر فوق ذلك قريبة العهد بغزو الفرس، وكان يتهددها الخطر من فتح العرب، ولكن القسطنطينية صمدت لكل عواصف الحدثان في الحروب الماضية، ولم يستطع عدو أن ينال منها؛ فكانت على ذلك هي البلد الذي لا يقهر، فوق أنها كانت عاصمة الدولة.
وإذا صح أن إرسال الصليب والتحف كان عملا يقصد به صفرونيوس أن يدل على ولائه لهرقل، لكان ذلك آخر ما قدمه له في حياته من الولاء؛ فإن مدينة بيت المقدس كانت عند ذلك يحاصرها خالد، ثم جاء له أبو عبيدة بعد بضعة أيام ممدا، وكان بالمدينة شيء كثير من المئونة، وكانت أسوارها قد أصلحت وحصنت بعد خروج الفرس منها. فلما جاء العرب إليها ظلوا حولها عدة أشهر يحيطون بأسوارها، ويرامون جندها بالسهام، ويقاتلون من خرج إليهم منهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يرزءوها إلا يسيرا؛ لأنهم كانوا لا عهد لهم بالحصار في حروبهم، ولم تكن لهم عدة لصدع الأسوار، ولم يستغرق الفرس في فتحها من قبل أكثر من ثمانية عشر يوما، وأما عند ذلك فقد ظل خالد بن الوليد نفسه مقيما حولها وهو يحرق الأرم غيظا لا يستطيع شيئا إذ يتطلع إلى حصونها وآطامها. وقد اختلف الرواة في مدة حصاره، والظاهر أنها استطالت مدة الشتاء كله؛ شتاء سنة 636-637، ولعلها كانت أطول من ذلك، ولكن لم يكن عند أحد شك في نهاية الأمر؛ فإن العرب إن عجزوا عن فتح المدينة عنوة بالهجوم، فإن أهل المدينة لم تكن لهم قوة على رفع حصارهم عنها، ولم تأت من قبل الرومان أنباء تجعلهم يؤملون في النجدة، بل كانت الأنباء تترى بالمصائب والنكبات، فحل في قلوب أهل بيت المقدس من الخيبة واليأس مثل ما حل من قبل في قلب هرقل.
فلما أن صار الأمر إلى ذلك فاوض البطريق الشيخ صفرونيوس
18
قواد العرب من فوق الأسوار. ولعله كان يحس عند ذلك أن المدينة لن تستطيع المقاومة بعد ذلك طويلا؛ لنفاد المئونة وقرب وقوع المجاعة بها. واتفق على أن يسلم المدينة على شرط أن يأتي الخليفة عمر بنفسه ليكتب عهدها.
ولا حاجة بنا أن نعيد هنا القصة المعروفة قصة مجيء عمر إلى الشام على جمل، وكان أشعث أغبر خشن الملبس والهيئة، حتى اقتحمته عيون مترفي الروم، ثم ختم العهد وزار الأماكن المقدسة يصحبه صفرونيوس، فالتفت ذلك البطريق إلى أصحابه، وقال لهم باللغة اليونانية: «حقا إن هذا هو الرجس الآتي من القفر الذي ذكره النبي دانيال.» وكانت هذه آخر مقولة وردت عن ذلك البطريق «صاحب اللسان المعسول في الدفاع عن الدين».
Halaman tidak diketahui