بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد المقر له، بالقصور عن حق حمده. العائذ به من التقصير دون بلوغ جهده، الراغب من فضله في المزيد، المستجير به عن التنكر والنكير وصلواته على الصادح بما أمر، القاطع لمن كفر، محمد المختار، وآله الأبرار.
سألت أنالك الله سولك، ويسر لك مأمولك أن أتتبع شعر أبي الطيب المتنبي، فأستخرج منه الأبيات الغامضة وأشرحها شرحًا يأتي على إغرابه وإعرابه، حتى تكون لمعانيها متصورًا، وعلى حل عقدها مقتدرًا. وها أني شمرت لإسعافك بما سألت. إن كان ظنك بعلمي صادقًا، والقدر على ما أرومه موافقًا. وبالله استعين. وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل. فأقول:
إن ما يستبهم معانيه على الأذهان من الشعر ثلاثة أضرب. وفي كلها يضرب هذا الديوان بسهم، ويأخذ منه بقسم. وأنا أضع في كتابي هذا لكل نوع منها مثالًا تعرفه. وأدلك على مثله من شعر هذا الفاضل، لتتدرج به إلى ما ترومه، وتتخذه سلمًا إلى ما تعطوا له، ويكون لك
1 / 35
عونًا على ما تتوخاه وتتلمسه، فلا شيء أفتق للخواطر في استنباط المعاني من مهاجسها، ولا أبعث للقرائح من استثارتها من مكامنها، من طول مرامها، وعد أنفاسها. والله موفقك ومرشدك.
فأول نوع منه هو الذي صدك جهل غريبة عن تصور غرضه وهذا النوع ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها ما لا يتضمن غير كلام مهجور، ولفظ مستشنع. وهو كقول الراجز:
أما تريني في الوقار والعَلة ... قاربت أمشي القَعَولي والفيجَلة
وتارة انبث نبثًا نعثله ... خزعلة الضبعان راح الهنبلة
يخاطب امرأة ازدرته وعيرته شيبه. والعلة: التحير والتبلد. يقال: عَلَة يعله علهًا. والقعولي: نوع من المشي. يقلب الرجل فيه رجليه كأنه من عرج يقال: مرَّ يقعول. والفيجلة: مشي فيه تقارب. والنبث: إثارة التراب. كأنه لضعفه لا يملك
رجليه. فهو يجرها جرًا، ويثير التراب. والنفثلة: أيضًا نوه من المشي يسفي فيه التراب ماشيه برجله. ومثلها النعثله وبه سُمي الرجل نعثلا. والخزعلة والخذعلة بالذال: أيضًا هما نوع من المشي يثير ماشية التراب. ومنه ناقة خزعال، إذا كانت تثير التراب إذا سارت. وليس في كلام العرب فعلال عينه عينه غير لامه غير هذه الكلمة. يقال: مرَّ يُخَزعِلُ ويُخذعِلُ. والهنبلة: نوع من المشي في توأدةٍ.
1 / 36
فهذا وأمثاله لا يفيد إلا معرفة الغريب. فإذا عرف انكشف عن معنى ظاهر. وعامة شعر أبي حزام العكلي من هذا الجنس. ولا تكاد تجد من هذا يقال وبه الثقة. وهذا القسم تجد منه الكثير في شعر أبي تمام كقوله:
أمحمد بن سعيد ادخر الأسى ... فيها رواء الحريوم ظمائه
يقول: اجعل الأسى - وهو من التأسي - ذخرك، واصبر في هذه الرزية فإن الحر يروي يوم عطشه. أي يصبر على محنته حتى يحصل له الثواب والثناء. وفي هذا البيت من التبعيد. إن الألف واللام في الأسى هي التي بمعنى الذي. وتحتاج إلى صلة. يعني: ادخر الأسى التي فيها رواء الحر. وهذا كقولك: ضربت الرجل ضربك، يعني الرجل الذي ضربك. ومثل ذلك أيضًا من شعره كقوله:
أتت النوى دون الهوى فأتى الأسى ... دون الأسى بحرارة لم تبرد
أي حالت النوى بيني وبين من أهواه، وأتى الحزن دون العزاء
1 / 37
أي حال دونه بحرارة وجد لم تبرد. وقوله: دون الهوى، يريد من أهواه. يقال: فلان هواي يريد من أهواه، كأنه سمي بالمصدر أي هو ذو هواي. كما يقال:
فلان معرفتي وودي أي ذو معرفتي وذو ودي.
فأما في شعر أبي الطيب فهذا القسم أيضًا موجود. وأظنه كان يتعمد إلى ذلك تصديقًا لقوله:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد
أحاد وسداس معدولتان عن واحد. وقوله: لييلتنا تصغير ليله.
أراد بذلك تصغير التعظيم كقوله:
دويهية تصفر منها الأنامل
وقوله في أحاد. في: بمعنى التوعية. وليس بمعنى بها ضرب ستة في واحد. كقول القائل: كم ستة في خمسة، بل كقولك: خمسة دراهم في الكيس يريد: واحدة هذه الليلة أم ستة جمعهنَّ في واحدة وخصَّ ستة ولم يقل عشرة، وهي أكثر لأنه أراد الأسبوع لأن ستة إذا جمعت في واحدة صارت سبعة وهي ليالي الأسبوع وكان ذلك أولى لأنه زمان معلوم كالشهر والسنة وما شاكل ذلك. ولو قال: عشرة لقال المتعنت: فهلا قال مائة وهي أكثر، وأدى ذلك إلى ما لا نهاية له.
1 / 38
وقد ذكر الشيخ أبو الفتح في كتاب له فسر فيه أبياتًا انتزعها من جملة ديوانه فقال: خص ستة لان الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فكان ذكرها أولى لأنها العدد الذي فرغ الله تعالى فيه من هذا الخلق العظيم، وليس ذلك بممتنع إلا أن تلك الستة أيضًا إذا جمعت في واحدة صارت سبعة. فإذا قال قائل: إن قوله في أحاد حينئذ يكون بمعنى الضرب. وستة في واحدة فهو لعمري كذلك. ويكون فيه تعسف غير مفيد. وستأتي أخوات هذا البيت، وما جرى مجراه في عويص معانيه في موضوعها من هذا الكتاب إن شاء الله:
القسم الرابع هو الإلغاز الصريح كقول الشاعر:
وصادرة معًا والوردُ شتى ... على أدبارها أصلًا حدوتُ
وعاريةٍ لها ذنبٌ طويل ... رددت بمضغة مما اشتهيت
1 / 39
يعني بقوله: وصادرة معًا والورد شتى: سهامًا رماها فوردت متفرقة يعني وردت الرمية فلما التقطها من مساقطها صدرت عن مواردها مجتمعة، وحدا على أدبارها يعني: ارتجز حين رماها على عادتهم في الحروب. وعارية لها ذنب طويل يعني
نارًا لا تكون إلا عارية، وردها بمضغة يعني كبَّ عليها مضغة مما اشتهى من اللحوم فكأنه ردَّ المضغة على وجهها.
وهذا الجنس في أشعارها أكثر من أن يحصى. وفي شعر أبي الطيب من هذا الباب قوله:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها
أشد عصف الرياح يسبقه ... تحتي من خطوها نأيدها
يعني نعلة، وهي ناقته التي يمتطيها. وقد كرر هذا المعنى في شعره فقال في قصيدة اخرى:
وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارشٍ فغدوت امشي راكبًا
يعني خفة، أو تمشكه المتخذ من الدارش الأسود. وه من الجلود غير الأدم كالارندج فهو راكبه، وهو مع ذلك ماشٍ. وشبه الشراك بالكور لأنه فوق النعل، كما أن الكور فوق الناقة ومشفر النعل كالزمام لأنه يستمسك بأصابع الرجل،
1 / 40
وشسعه بالمقود لأنه يشد إلى الشراك في مشفر النعل، فكأنه مقود يقاد به. وزعم أن تأييده فيها يسبق أشد عصف الرياح. يريد بذلك قول الناس: فلان يباري الريح جودًا، أي يسابقها إلى الجود. لا أنه يسبق الريح على الحقيقة. ومثله قوله:
وقد طرقت فتاة الحي مرتديًا ... بصاحب غير عز هاة ولا غزل
العزهاة: الذي لا يحب اللهو ولا النساء. والغزل: الذي يحب ذلك. يعني سيفه الذي ارتداه وهو قليل في الشعر:
النوع الثالث ولا أقسام له وهو ما عماه إعرابه لمجاز فيه، أو حذف من اللفظ أو تقديم وتأخير سوغه الإعراب. وذلك كأبيات الإلقاء التي منها:
محمد زيدًا واقتل ابني فإنه ... أحب إلى قلبي من السمع والبصر
وهكذا ينشد من يغالط، فلا يفهم كيف أمر بقتل ابنه وهو أحب إليه من سمعه وبصره. ولم يجر محمدًا وهو منادى علم. وإنما يريد: أقت لابني، أي أخدم له. والقتو: الخدمة. والمقتو:
1 / 41
الخادم، من قول الشاعر:
متى كنا لامك مقتوينا
ومحم: منادى مرخم. ثم قال: زيدًا. من الدية. ومنه قول ذي الرمة:
كأنما عينها منها وقد ضمرت ... وضمها السير ضمًا في الأضاميم
أضا: جمع اضاة: غدير الماء. وميم هذا الحرف المكتوب موضعه الرفع، لأنه خبر كأنما ومثله للفرزدق:
يعلق ها من لم تنله سيوفنا ... بأسيافنا هام الملوك الخضارم
يريد (ها) للتنبيه من الذي لم تنله سيوفنا. وهام الثانية مفعول مطلق ومثله:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... بَردّيِهِ تصادفيه سخينا
1 / 42
هكذا ينشده المغالط، وإنما يريد: بل رديه، فادغم اللام بالراء لقرب مخرجيهما.
يريد: قلنا لإبلنا: ردي فقد مضى الشتاء، وسخن الماء. وهذا باب يتسع وتكثر شعبه. وفي شعر أبي الطيب المتنبي منه قوله:
حملت إليه من لساني حديقة ... سقاها الحجي سقي الرياض السحائب
فرق بين المضاف والمضاف إليه بلفظ الرياض، فيريد: سقي السحاب الرياض. وهذا كثير في شعر العرب فمنه قول الطرماح:
يطفن بِحُوزيِّ المراتع لَم تُرع ... بواديه من قرع القِسيّ الكَنائن
يريد: من قرع الكنائن القسي. ومثله لذي الرمة:
كأنَّ أصواتَ من إيغالٍهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج
يريد: كأن أصوات أواخر الميس. ومثله:
لما رأت (ساتيدما) استعبرت ... لله درّ اليوم من لامها
يريد: لله من لامها اليوم، وسيمر بك من باب الإعراب في شعره مواضع.
1 / 43
وهذا أول ما نبدأ به من أبيات أبي الطيب المعتاصة:
قوله:
قلق المليحة وهي مسك هتكها ... ومسيرها في الليل وهي ذكاء
قلقها يعني حركتها في مشيتها. وهتكها: مصدر لهتك فلان الستر هتكًا. وهو مصدر فعل متعد. ولو أتى بمصدر لازم لكان اقرب إلى الفهم. كأنه لو قال: انتهاكها لكان أجود من حيث الصنعة، وأقرب إلى المفهوم. إلا أنه تبع الوزن. وقوله: ومسيرها مبتدأ معطوف على قلق، وخبره محذوف لعلم المخاطب. وكأنه يقول ومسيرها في الليل هتك لها أيضًا إذ كانت ذكاء. وذكاء اسم للشمس، علم لا ينصرف. ومثل هذا كثير في أشعار القدماء والمحدثين إلا أن قوله: وهي مسك زيادة على كثير من الشعراء ممن تقدمه، إذ كان لم يجعل هتها من قبل الطيب الذي استعملته. وكأنه ألمّ بقول امرئ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقًا ... وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب
ويقول الآخر:
درةٌ كيفما أديرت أضاءت ... ومشمٌ من حيثُ ما شُمَّ فاحا
فأما المعنى المتداول إن الطيب يهتك من استعمله إذا أراد كتمان أمره فكثير، ومن ذلك قول بشار:
1 / 44
ربَّ قولٍ من سعاد لنا ... قد حفظناه فما رفعا
أملي لا تأتِ في قمرٍ ... لحديث واتقِ الدرعا
وتوق الطيب ليلتنا ... إنه واشٍ إذا سطعا
وأجود منه قول آخر محدث تقدم أبا الطيب:
ثلاثة منعتها من زيارتها ... وقد دجا الليل خوف الكاشح الحنقِ
ضوءُ الجبين ووسواس الحُلي وما ... تُمسُّ أردانُها من عنبر عبقٍ
هب الجبين بفضل الثوب تستره ... والحلي تنزعه الشأن في العرق
قوله: ومسيرها في الليل وهي ذكاء يشبه قوله أيضًا:
رأت وجه من أهوى بليلٍ عواذلي ... فقلن نرى شمسًا وما طلع الفجرُ
والأصل في هذا قول القائل:
عجبت لمسراها وأني تخلصت ... إلي وبابُ السجن دوني مغلق
عجبت لمسراها وسرب سرت به ... تكاد له الأرض البسيطة تشرق
1 / 45
إنما تعجب من كتمان الليل مع ضوئها وحسنها. ولا ذلك لم يكن لتعجبه وجه.
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراجة ... فتشابها كلتاهما نجلاء
هذا البيت ظاهر المعنى. إلا أني شاهدت كثيرًا من الفضلاء يغالطون في معنى قوله:
مثلت عينك في حشاي جراحة
ويظنون أن معناه: خيلتها إلي، وصورتها عندي جراحة.
وقولون هذا كما تقول: فلان غصَّة في صدري، وشجي في حلقي وإن لم تكن لذلك حقيقة يراد به وهو يحل محل الغصة من الصدر والشجي في الحلق. وكذلك هذه العين تحل محل الجراحة في حشاي. وهذا كقوله في شعره أيضًا:
ممثلة حتى كأن لم تفارقي ... وحتى كأن اليأس من وصلك الوَعدُ
وقوله أيضًا:
كانت من الحسناء سؤالي إنّما ... أجلي تَمثّل في فؤادي سُولا
أي تخيل وهذا خطأ فاحش، إذ كان آخر هذا البيت ينقص هذا القول بقوله: فتشابها إذ هي عين واحدة، وتشابها فعل اثنين. ومعنى البيت: مثلت، أي أحدثت لعينك مثالا في حشاي. أي جرحته جراحة
1 / 46
واسعة مثل عينك. وهذا كما تقول للغلام: خطا حسنًا أي جعلت له مثالا للحروف يكتب مثلها ولعمري أن اشتقاق
البابين جميعًا من المثال والمثل ولكن اختلف المعنيان من حيث اختلاف الوضع. فيقول: إن عينك والجراحة التي أحدثتها في قلبي تشابها في النجل وهو سعة العين، وسعة الطعنة.
وقوله:
نفذت عليَّ السَابريَّ وربّما ... تنَدَّق فيه الصّعدةُ السمراءُ
السابري يحتمل معنيين:
أحدهما أن يعني الثوب الرقيق. وكل رقيق عندهم سابري. ومنه قولهم:
عرضه عرضًا سابريًا. وعرض السابري. وه مثل. وأصله أن صاحب البز يعرض من ثيابه رقيقه، وما لا يؤبه به قبل الجيد. فصار كل من يعرض شيئًا لا يريد الوفاء به. يقال له:
عرض عليَّ عرضًا سابريًا. وقد قال الشاعر:
تجافى عن المأثور بيني وبينها ... وتدني علينا السابري المطلعَّا
يريد: ثوبًا رقيقًا: أو درعًا.
الثاني أنه يريد الدرع. وإنما سميت بذلك لما فيها من الخروق.
1 / 47
وقد يكون السابري أيضًا الذي يسير في قول الأعشى.
ترد على السابري السِبارا
والسبار الفتيلة التي يسبر بها الجرح. فإذا عنى به الثوب الرقيق فإنما يريد نفذت عينك السابري إلى قلبي، ويكون قوله: يندق فيه الصعدة السمراء حينئذ يريد به أن قميصي شديد على الرمح نفوذه لهيبتي في القلوب، ولأن الشجاع موقى. ويكون المعنى كقوله أيضًا:
طوال الرُّدينيات يقَصفُها دَمِي ... وبيضُ السُّريجيات يَقطعُها لحمي
فإذا عنى الدرع فلا يحتاج إلى ذا التأويل. وإنما يريد أن عينك وصلت إلى قلبي
فجرحته ولم تُخرق الدرع أو القميص كما قال هو أيضًا:
راميات باسهمٍ ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
1 / 48
وإنَّما معنى هذين البيتين من قول جميل بن معمر:
ما صائب من نابل قذفت به ... يد وممرُ العقدتين وثيقُ
على نبعة زوراء أيما خطامها ... فمتن وأيما عودها ففتيق
بأوشك قتلا منك يوم رمينني ... نوافذ لم تعلم لهنَّ خروقُ
والذي أبى بأغرب من هذا في هذا الباب قول القائل:
رمتني بطرف كميتًا رمت به ... لَبَلَّ نجيعًا نحرُهُ وبنائقه
فإنه وإن لم يذكر خرق جلده فقد عرض بان مثل رميها ما يبل الكمّي نجيعًا غير انه لم أُدْمَ لأنه لم يجرح بدني، وإنما وصل إلى قلبي قبل جسمي.
وقوله:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقتُ فإنني الجوزاء
صخرة الوادي (هي امتن الصخر). وهي صخرة تكون في الوادي قد بلَّ الماء أسفلها فازدادت رسوخًا في الأرض:
1 / 49
فلولا خوف خالقها ... إذن لقلعتها حسدًا
فهذا يغار على حبيبته من عينه لمباشرتها إياه بالنظر كما إن قلب أبي الطيب يحسد عينه على مباشرتها للممدوح بالنظر.
وقوله:
ولاقى دون ثأيهم طعانًا ... يُلاقي عنده الذئب الغراب
الثأي: جمع ثاية: وهي الحجارة حول البيت تبني فيأوي إليها الراعي. قال الراجز:
أصبحت بين سٍمعةٍ وسمع ... صرعن ثاياتي أشد الصرع
وقوله: يلاقي الذئب الغراب أي يجتمعان عليه لا كل الموتى أي لاقى طعانًا شديدًا
لابد فيه من القتل. والأصرمان: الذئب والغراب، سميا بذلك لأنهما انقطعا عن الناس.
1 / 50
قال المرار:
على صرماء فيها أصرماها ... وخريتُ الفَلاةِ بها مليل
وقد قيل: سميا بذلك لأن أحدهما انصرم على صاحبه فلا يلتقيان إلا عند ميتة ثم يصرم أحدهما وصال صاحبه. وصرماء: أرض يعيدة عن الماء. فهذا ما عناه أبو الطيب.
وقوله:
ولم تردَّ حياةً بعد توليةٍ ... ولم تغث داعيًا بالويل والحرب
هذا البيت ظاهر المعنى. وإنما ذكرناه خشية أن يظن ظان فكأن أن قوله بالويل والحرب متعلق بقوله: تغث، فإنه يكون حينئذ ذمًا وهجاء، بل كيف تكون الإغاثة بالويل والحرب، وإنما يغاث الإنسان بما يزيل الويل والحرب، كما قال أيضًا:
ومنفعة الغوث قبل العطب
وليس يعني هذا. وإنّما الباء متعلقة بقوله: داعيًا. يقال: دعوت الويل ودعوت شجني، ودعوت ثبوري، كما قال تعالى: لا تدعو اليوم
1 / 51
ثبورًا واحدًا، وادع ثبورًا كثيرا. قال الشاعر:
وإذا دعت قمرية شجنًا لها ... يومًا على فننٍ دعوت صباحي
وقد يقال: دعوت فلانًا، ودعوت بفلان، ودعوت باسم فلان كما قال الآخر:
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرًا كان في صدري
وقال الآخر:
تداعين باسم الشيب في متثلم ... جوانبه من نصره وسلام
وقال الآخر:
فمن يرتجيكم بعد نائله التي ... دعت ويلها لما رأت ثأر غالب
وقوله:
جزاك ربُكَ بالإحسان مغفرةً ... فحزنُ كلِ أخي حزنِ أخو الغضب
يقول: جزاك الله مغفرة بهذا الحزن الذي أصابك، فقد أثمت به. وقال الله تعالى:
1 / 52
لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا ما أصابكم. والحزن أخو الغضب لأسباب كثيرة:
فمنها أن الحزن غضب في الحقيقة لأنه يغضب لما نال منه الدهر فيحزن. ومنها أن الرجل يأثم بالحزن، ويأثم بالغضب. قال تعالى: وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
ومنها أن الحزن ينال من الإنسان ويخلط عليه، كما إن الغضب ينال منه ويخلط عليه وقد دلَّ على ذلك بقوله أيضًا في عضد الدولة:
آخر ما المُلْك مُعزّى به ... هذا الذي أثّرَ في قلبه
لا جزعًا بل أنفًا شابه ... أن يقدر الدهر على غَصْبِهِ
ألا تراه فرق بينهما، وجعل تأثيره في قلبه لا للجزع والحزن ولكن للغضب والأنف والحمية أن يقدر الدهر على غضبه. وكما فسّر قوله:
فكل حزن أخي حزن أخو الغضب
بالبيت الذي يليه وهو قوله:
وأنتم معشر تسخو نفوسكم ... بما يهين ولا تسخون بالسَلَب
ألا تراه قد دلّ على أن الحزن أخو الغضب، لأنه يحزن كيف قدر الدهر على سلبه. والحزن والغضب عند المتكلمين شيء واحد، وإنما
1 / 53
يستعمل الغضب على من هو دونك، والحزن على فعل من فوقك. ألا ترى إن السلطان إذا غصب رجلا على مال فانه يحزن عليه، ولو سرق سارق لغضب عليه.
وقوله:
وما قضى أحدٌ منها لبانَتَهُ ... ولا انتهى أربٌ إلا إلى أرب
هذا بيت فلسفي البنية. وذاك أن كل طالب حاجة فإنه إذا أدركها أحدثت في قلبه أربا آخر. مثال ذلك: إنك إذا تمنيت ثوبًا حسنًا فوجدته تمنيت رداء مثله في الحسن تلبسه معه. فإذا وجدت الرداء تتمنى فرسًا تركبها فإذا وجدتها تتمنى سلاحًا تتجمل به، أو تستعين به على الأعداء، فإذا وجدته تتمنى غلمانا وأصحابا، فإذا وجدتهم تتمنى ضيعة تعود بفضلها على عيالك وأصحابك ويستديم بها تجملك. فإذا وجدتها طلبت منزلة من السلطان تحفظ بها نعمتك فإذا وجدتها طلبت الفضل على إضرابك من أصحابه. فإذا بلغت الفضل على جميعهم طلبت الملك فإذا نلته طلبت الخلود فهذا متعالم، وإياه عني القائل:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
1 / 54