قال: «ولماذا؟»
فقال يعقوب: «إن ما ستتعلمه الآن من الألفاظ والإشارات إنما هو مفتاح السر وطريق العمل.»
فأصغى ألفونس إليه وقال: «قل ما تريد ...»
فقال يعقوب : «قل: شالوم عليخم.» فقالها ألفونس ولسانه يتعثر بالعين والخاء، فكررها يعقوب عليه حتى حفظها ثم قال له: «قل: أوهيل موعيد.» فقالها وكررها حتى تعلمها. ثم نهض يعقوب وأمسك ألفونس بيده وقال له: «قف يا مولاي.» فوقف فتقدم يعقوب أمامه بضع خطوات على نسق غير مألوف بين الناس، وقال له: «اخط يا سيدي مثل هذه الخطوة.» ففعل وكررها حتى أتقنها. ثم علمه إشارات يجريها بيديه أو أصابعه وغير ذلك وألفونس كالببغاء يتعلم الألفاظ ويخطو الخطوات ويقوم بالإشارات وهو لا يفهم لها معنى.
قضى بقية اليوم في نحو ذلك، فلما غربت الشمس خرجا وألفونس لا يزداد إلا استغرابا، وقد نسي كل مشاغله بفلورندا وأوباس في أثناء ذلك. وما زالا حتى خرجا من باب المدينة وكانت ليلة صاحية لكنها شديدة البرد، فصبرا على بردها حتى بلغا الأكمة وصعدا إليها والتفتا إلى السور، ثم تفرسا فيما حولهما فلم يجدا أحدا؛ لأن الناس يأوون في الليل إلى منازلهم داخل السور. فنزل يعقوب إلى الكهف وألفونس يتبعه حتى وقفا ببابه ولم يريا بداخله سوى الظلمة الحالكة، فدخل يعقوب ويده بيد ألفونس فمشى به بضع خطوات وألفونس يتلمس ويخطو كأنه يمشي على الشوك وهما صامتان، ثم وقف يعقوب وقال لألفونس: «أخرج جلبابك.» فأخرجه وساعده يعقوب على لبسه، فلما لبسا الجلبابين أصبحا سوادا في سواد، ومشيا خطوات أخرى ويعقوب يقود ألفونس ثم وقف يعقوب بغتة، فشعر ألفونس بوقوفه المفاجئ فخشي أن يكون عليهما بأس من ذلك، ثم أحس أن يعقوب قد انحنى نحو الأرض، وما لبث أن سمع خربشة كأن يعقوب يبحث بأنامله في الأرض، ثم ترك يعقوب يد ألفونس فظل ألفونس واقفا وقوف الصنم لا يدري إلى أين يتجه لاشتداد الظلام.
وكان يعقوب قد ترك يد ألفونس لتتفرغ يده لرفع حجر ثقيل، فمضت بضع دقائق وألفونس واقف لا يتحرك، ثم سمع صوت اقتلاع الحجر، وأحس بنسيم بارد خرج من الفتحة، وإذا بيعقوب يقول له بصوت منخفض: «اتبعني يا مولاي في هذه الفوهة على مهل.» ونزل وتبعه ألفونس ونزل سبع درجات، فانتهيا إلى سرداب يسع الإنسان واقفا، فمشيا فيه ويعقوب يقود ألفونس وهما يتلمسان طريقهما، وشعر ألفونس كأنهما يسيران في دائرة، ثم سارا في خط مستقيم مع انحدار خفيف والظلام يتكاثف. وبعد هنيهة وقف يعقوب وقال لألفونس: «امكث هنا يا مولاي ولا تغير مكانك ريثما أعود إليك.» وتركه ومشى، لا يسمع لخطواته وقع، فأحس ألفونس بوحشة غريبة. ومضى على غياب يعقوب دقائق ظنها ألفونس ساعات حتى مل الانتظار، وحدثته نفسه أن يخطو في أثره ولكنه تذكر وصيته إياه بالبقاء هناك، فوقف ولكن الإنسان يهوى استطلاع المخبآت ولو ألقى بنفسه في الخطر، على أنه نسي الجهة التي كانا سائرين فيها ومد يده إلى ما حوله فلم تلمس شيئا فتوهم أنه في خلاء واسع. وفيما هو في هذا الارتباك رأى نورا خفيفا عن بعد، ورأى ذلك النور يقترب منه حتى تبين حامله، فإذا هو رجل بجلباب أسود مثل جلبابه فظنه يعقوب فناداه باسمه فلم يسمع ردا، فحسب أن سكوته تسترا، ثم رأى وراء ذلك الشبح شبحا آخر في مثل ملابسه وقد كشف عن وجهه فإذا هو يعقوب، فعلم ألفونس أنه اقترب من المكان المقصود.
ولم يكد يفكر في الأمر حتى أسرع يعقوب إليه وأمسك بيده فنظر ألفونس في وجهه على نور المصباح، فرأى لحيته قد ازدادت اضطرابا وقذارة وازداد وجهه غرابة لما تولاه من الاضطراب، فخشي ألفونس أن يكون عليهما بأس من ذلك المكان، ولكنه أسلس قياده إلى يعقوب، فأمسكه وسار به والرجل الثالث يسير بين يديهما بالمصباح ويعقوب يحذر ألفونس مما بين يديه، فنظر في الأرض فرأى فيها حفرا جمة يخشى الماشي السقوط فيها حتى على النور فكيف في الظلام، وأدرك السبب الذي حمل يعقوب على إحضار المصباح، فمشى مشية الحذر والتأني بضع دقائق ثم انطفأ المصباح، وعاد الظلام كما كان، فصاح ألفونس في غير انتباه: «لا.» فضغط يعقوب على يده أن: «اسكت.» وهمس في أذنه «لقد وصلنا.»
الجلسة
وكان ألفونس قد ضاقت أنفاسه من القناع المنسدل على وجهه فرفعه وتنفس الصعداء ثم أرخاه، وإذا بيعقوب قد وقف وهمس في أذنه أن يفعل مثلما فعل بعد فتح الباب، ومهما رأى فلا يخاف، ثم قرع بابا قرعا متواليا سبع مرات على أسلوب خاص، ولبث برهة ثم طرقه ثانية ثلاث مرات بنسق آخر، فانفتح الباب عن دهليز قصير فيه نور ضعيف، وإلى كل من جانبي الباب رجل بمثل جلبابيهما، وبيده سيف مسلول، والسيفان كالقوس فوق عتبة الباب، فأجفل ألفونس وتقهقر، فسمع يعقوب يقول: «شالوم عليخم» فقالها هو أيضا، ودخلا والسيافان لا يتحركان كأنهما صنمان، فمشى يعقوب في ذلك الدهليز المشية الخاصة التي علمها لألفونس في ذلك النهار، فمشى ألفونس مثلها وهو يتعثر لاضطرابه وارتباكه، حتى وصل إلى باب مغلق فقرعه بنسق خاص خمس قرعات، فانفتح الباب وانطفأ النور معا، فأجفل ألفونس ولكنه تذكر وصية يعقوب فثبت جنانه، وسمع صوتا يخاطبه بلغة لم يفهمها، وسمع «يعقوب» يقول له: «أوهيل موعيد» فقالها هو أيضا، ومشيا في تلك الظلمة وألفونس يحسب نفسه صاعدا على سلم، ثم انفتح لهما باب آخر وعند فتحه أحس ألفونس بهواء دافئ خارج منه تخالطه رائحة الأنفاس، فشعر بالدفء ونسي ما كان يشعر به من البرد في السرداب، ودخلا من الباب فأشرفا منه على قاعة كبيرة في وسطها شبه مائدة عليها سراج مضيء وبجانبه درج كبير، وحول الجدران مقاعد عليها أشباح سوداء بمثل جلبابه ووجوههم مغطاة بمثل نقابه، وأمام كل منهم سيف مسلول وفرنده يلمع بنور السراج الضعيف؛ فاضطرب لذلك المنظر الهائل، وظن نفسه في حال مزعج إذ لم يخطر له أن يرى مثل ذلك المنظر في حياته ولا الدخول في مثل هذه المخاطرات.
على أنه التفت إلى جانبه فإذا بيعقوب قد مشى بخطوات كان قد علمه إياها، فمشى مثله حول المائدة والسراج مرتين، وقبل الدرج هو عبارة عن لفافة غليظة من جلد، ثم مشيا إلى كرسيين في صدر القاعة خاليين، فجلسا عليهما وأمامهما سيفان مسلولان.
Halaman tidak diketahui