شغله ذلك المنظر برهة وإن لم يصدقه وكلما اقترب من المكان انجلى له حتى وصل إلى الجبل وأكثره أجرد وفيه كثير من الكهوف والشقوق على شكل يندر بين الجبال.
فساق جواده في منعطف صاعد يصعب سلوكه لضيقه حتى دار من وراء الجبل وهو لا يسمع غير وقع حوافر جواده أو صهيله. وإذا أطل أشرف على سهل رملي ليس فيه شيء من العمارة.
وكان وهو سائق يتلفت إلى الوراء حذرا من أن يكون أحد في أثره حتى اقترب من مغارة عظيمة لها باب كبير منقور في ذلك الجبل فتنحنح نحنحة خاصة فسمع مثلها في قاع المغارة فساق فرسه حتى وقف في الداخل. فسمع مناديا يقول والصدى يردد قوله: «ادخل يا مسعود.»
الفصل الحادي والثلاثون
التدبير
فترجل ودخل وهو يقود الفرس بزمامه وراءه. وكأن الفرس أحس برطوبة المكان فتوالى عليه العطاس ودوى صوت عطاسه دويا يزيده إجفالا واستغرابا.
وبعد مسير بضع دقائق انتهى إلى بقعة منيرة فيها ما تقشعر له الأبدان من أشكال الحيوانات المتضادة في طبائعها مما لا يخطر ببال كالثعابين والسحالي وأنواع الضب والطير والحمام بين سارح ومنساب وواثب. وبينها حية مهولة قد التفت على جزع شجرة منصوب لها هناك ورأسها يتلوى ذات اليمين وذات اليسار. وأخرى تنساب بين الأحجار الملقاة على الأرض. ولو لم يكن قد تعود المجيء إلى ذلك المكان ومشاهدة تلك المناظر واعتقاده أن تلك الدبابات لا تؤذيه؛ لأنها مسحورة لأجفل وخاف. أما الفرس مع أنه كان يصطحبه كل مرة فلم يألف ذلك المنظر المريع فاضطرب وضرب الأرض بحافره وصهل وتراجع وأبو حامد ممسك بزمامه ينتظر أن يأتي من يتناوله منه. وإذا بعبد عظيم الجثة برز من بعض أطراف تلك البقعة وألقى التحية فرد عليه أبو حامد. فتقدم العبد وقبل يده وتناول زمام الفرس ومشى به إلى مكان يربطه فيه.
ثم مشى أبو حامد في طريق تجنب فيه العثور بشيء من تلك الحيوانات حتى دخل دهليزا منقورا بالصخر، ولو زار ذلك المكان أحد علماء الآثار اليوم لتحقق أن تلك المغارة من بقايا الأبنية القديمة في العصور الغابرة؛ لأنها منقورة في الصخر وربما كانت في الأصل قبورا أو هياكل وتنوسي خبرها حتى أصبحت مسكنا لكاهنة ساحرة لا يصطلى لها بنار. وكان أبو حامد قد عرفها منذ أعوام واستعان بها في كثير من شئونه. وهي من خلفاء كهان البربر قبل الإسلام، اتصلت إليها هذه الصناعة من أجدادها وهي تخاف الظهور فاستترت هناك ولا يصلها إلا القاصد.
ولم يمش أبو حامد قليلا حتى دخل حجرة منقورة في الصخر أيضا وفي صدرها دكة من الحجر قد تربعت عليها عجوز شمطاء بلباس غريب الشكل فيه من كل لون قطعة. شعرها ناصع البياض وقد انتفش واشتبك فأصبح منظرها مخيفا. وهي في الأصل سمراء اللون ولكن الشيخوخة جعلت لونها أقرب إلى السواد وتجعد جلدها وغارت عيناها وتدلى حاجباها الغليظان نحو الأمام فأصبحت عيناها كالمصباح يتراءى من وراء نافذة مظلمة. تحتها أنف غليظ قصير فيه حلقة من العاج أدخلت في أنفها كالخزام منذ صباها على يد ساحرة كان لأهلها ثقة في علمها واعتقدوا أن وجود ذلك الخزام من أكبر أسباب مهارتها. وناهيك بما في أذنيها من الأقراط وفي عنقها من العقود وحول زندها من الأساور وفيها الذهب والفضة والعاج. وقد جلست على جلد دب وألقت على كتفيها جلد نمر وفي حجرها ثعبان غليظ قصير تتلاهى بملاعبته.
فلما أطل أبو حامد عليها رحبت به بصوت جهوري وقالت: «أهلا بولدي مسعود ... قد أطلت الغياب علي ... أين كنت؟» وأشارت إليه بعصا طويلة - كانت بجانبها - أن يقعد على دكة بين يديها فقعد وهو يقول: «كنت في عملي الذي تعلمينه.»
Halaman tidak diketahui