فأخذتها عزة الملك وشغلتها عن انعطافها إلى المعز وأهله وتذكرت ما كانت فيه من الرفعة والكلمة النافذة، وكيف كانت الرءوس تطأطئ لها واللحى ترتجف تهيبا منها. فنهضت عن تحمس ووقفت بين يدي والدها قائلة: «إنكم تخاطبونني بالألغاز والأحاجي. ما معنى هذا التناقض قل يا أبتاه ما الذي تريدونه مني؟ وقبل كل شيء أحب أن أتحقق عدولك عن الرضا بطلب المعز لدين الله.»
قال: «أما هذا فلا ... لا أعدل عنه؛ إنها فرصة لا ينبغي أن نضيعها ... إنها فرصة ثمينة لنيل مرادنا ...»
فلم تفهم قصده فقالت: «كيف تريدون أن أكون ملكة في سجلماسة وتطلبون إلي أن أتزوج أحد أتباع صاحب القيروان؟»
فقطع كلامها قائلا: «لا أعني أن تتزوجيه إن باعه أقصر من ذلك كثيرا ... كيف تتزوجينه وسالم حي؟ لو بلغ ذلك سالما ماذا يقول عنا بل ما يقول عنك وأنت راعية الجواد صاحبة السيف حامية حمى آل مدرار؟ أنا لا أعني بقبولك أن تتزوجي ذلك الرجل فعلا ... ولكننا نريد أن يكون قبولك وسيلة لاسترجاع ملكنا بكيفية سأشرحها لك، وإنما أريد أن أعلم قبل كل شيء، هل فهمت مرادي؟»
قالت: «ألم أفهمه بعد؟»
قال: «إن مرادي أن نتخلص من صاحب القيروان وقائده ... وإذا تخلصنا منهما لا يبقى في أفريقية كلها من يقف في سبيلنا ولا أن يمنع سيادتنا.»
قالت: «وكيف نتخلص منهما؟»
قال ويده على قبضة حسامه كأنه يستله: «نقتلهما.»
فأجفلت وتراجعت واستغربت هذا التصريح وهي تعرف تهور والدها واندفاعه ولم يكن يخطر لها أنه يتصور قدرته على هذا العمل ولكنها اعتقدت أنه لا يقول ذلك إلا وهو على ثقة من قدرته عليه. فالتفتت إلى أبي حامد - وكان لا يزال قاعدا الأربعاء ويداه متصالبتان وقد أطرق في الأرض كأنه يفكر باهتمام - ثم حولت نظرها إلى الرجل الملثم بجانب العمود وقالت في نفسها: من عساه أن يكون هذا الملثم الذي شهد هذا التصريح الخطر لا بد أن يكون من الأقرباء وخطر لها أن يكون سالما نفسه وحالما خطر ذلك خفق قلبها ولم تعد تستطيع صبرا عن استطلاع الحقيقة فنظرت إلى والدها - وكان قد عاد إلى التمشي - فمشت نحوه حتى قبضت على يده وقالت بصوت ضعيف: «أراك تقول ما تقوله على مسمع من هذا الملثم فمن هو؟»
قال: «ستعلمين حالا ... ولكن بعد أن توافقينني على ما قلته لك؛ إني لم أعد أستطيع صبرا على الذل ... يكلفوننا إذا دخلنا على صاحب القيروان أن نحييه تحية الإمارة وأن نؤمن على كل ما يقوله وأن ندعو له بطول البقاء وأن نقول له بأننا عبيده الطائعون. وإننا لنضرب بسيفه ونجاهد في سبيله وإنه صاحب الحق في الخلافة. وإنه من نسل فاطمة الزهراء و... و... و... إن ذلك فوق طاقة البشر. نحن أصحاب سجلماسة من أجيال متوالية وقد تأصلت السيادة في عروقنا فلا نستطيع احتمال هذا الذل فإما التغلب وإما الموت.»
Halaman tidak diketahui