قالت: «أي عبد تعني؟»
قال: «أعني كافورا، ألا تعلمين أنه عبد! فلا بد إذن من أن أقص عليك خبره ليتيسر لك تفهم أحواله. اعلمي يا بنية أن كافورا هذا كان في شبابه عبدا لبعض أهل مصر ثم اشتراه محمد بن طغج الإخشيد مؤسس هذه الدولة هنا منذ بضع وأربعين سنة، فخدم عنده وترقى في خدمته حتى صار أتابك ولديه؛ أي مربيا لهما. وصار يعرف بالأستاذ كافور. وتمكنت قدم الإخشيد بمصر وصار أميرا مستقلا تحت رعاية الدولة العباسية كما هي حالنا الآن وتقدم كافور معه. وتوفي محمد الإخشيد سنة 334ه فخلفه ابنه الأكبر أنوجور ومعناه بالعربي (محمود) فزاد نفوذ كافور في الدولة؛ لأنه كان مربيا لأنوجور فصار وزيرا له فقام بتدبير دولته أحسن قيام. ولما توفي أنوجور سنة 349 تولى بعده أخوه علي بن الإخشيد فاستمر كافور على وزارته أو نيابته حتى توفي منذ سنتين (355) فلم ير بين الإخشيديين من يليق بالحكم.»
ثم خفض صوته وقال: ولعله طمع بالاستقلال، فاحتال في إظهار خلعة قال إنها جاءته من العراق، وهي شارة الولاية عندهم يرسلها الخليفة العباسي لكل وال جديد فيلبسها باحتفال شائق. وزعم أنه لقب بأبي المسك فاستبد بأمور الدولة واستوزر رجلا شديدا اسمه أبو الفضل جعفر بن الفرات هو وزيره الآن، ولولا ابن الفرات هذا لكان كافور من أحسن الأمراء.
فأعجبها ما سمعته عن أصل هذه الدولة ومن هو كافور، لكنها ما زالت تحب أن تستزيد من خبره فقالت: «قلت إن كافورا كان عبدا. وهل تعني أنه كان أسود اللون، أو هو مملوك أبيض؟»
فقال: «هو أسود اللون شديد السواد بصاصا، لكن سواده لم يمنع من خضوع القوم له وإن لم يخضعوا له جميعا ... قد طال بنا الكلام والطبيب شالوم في انتظارنا. لكن لا بأس من إتمام الحديث باختصار إذ ربما لا نقدر على ذلك في حضوره ...» قال ذلك ونهض فنهضت لمياء معه فأتم حديثه وهما واقفان فقال: «اعلمي يا لمياء أن أمراء هذه المملكة وجندها الآن قسمان قسم مع كافور ينصرونه ويأخذون بيده ويقال لهم الكافورية، وقسم مع آل الإخشيد يعدون كافورا مختلسا ويقال لهم الإخشيدية وهم كثيرون. والنقطة الهامة اليوم أن كافورا مريض ولا ندري هل مرضه خطر أم لا. فإذا انتهى هذا المرض بالموت فإن أحوال مصر تضطرب وتتضعضع؛ إذ ليس من يتولى الإمارة من أصحاب الحق بعده إلا غلام لا يتجاوز عمره 11 سنة. وسنعرف حال كافور أو صحته من الطبيب شالوم، هيا بنا إليه.»
قال ذلك ومشى فمشت لمياء معه وهي تتأمل في ما سمعته عن اضطراب أحوال هذه الدولة وقد استبشرت بنجاح مهمتها.
الفصل الخامس والخمسون
الطبيب شالوم
وأطلا على الطبيب شالوم في ردهة الاستقبال فتقدم يعقوب مسرعا نحوه ولمياء وراءه تمشي الهوينى لتبقى بعيدة ريثما يدعوها. لكنها جعلت تتفرس بالطبيب عن بعد فإذا هو كهل والذكاء يتدفق من عينيه، وعليه زي الأطباء في ذلك العصر وألبسته ثمينة لتقربه من أمير البلاد وحظوته عنده وحول خصره منطقة مذهبة فيها دواة من عاج وقد التحف رداء كالعباءة من حرير عنابي اللون. وعلى رأسه كساء كالقبعة أو الطاقية عليها طراز مزركش وقد أرسل لحيته وسالفيه بلا هندام كما كان يفعل كبراء اليهود. وكان شالوم جالسا على وسادة في صدر القاعة وفى يده كتاب يطالع فيه باهتمام. فلما سمع خطوات يعقوب نهض وحياه وابتسم له والاهتمام باد في عينيه فدعاه يعقوب للجلوس وهو يقول: «ما لي أرى حبيبنا شالوم في شاغل؟ ما هذا الكتاب؟»
وقبل أن يجيبه لمح لمياء بلباس الغلمان في الحديقة واقفة تتلاهى بقطف زهر وهو يعرف غلمان يعقوب فاستغربها. وأدرك يعقوب استغرابه فابتدره قائلا: «هذا غلام صقلبي جاءني برسالة في هذا الصباح.»
Halaman tidak diketahui