شم الأنوف من الطراز الأول
يسقون من ورد البريص عليهم
كأسا يصفق بالرحيل السلسل
يغشون حتى ما نهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل»
فأمر جبلة حاجبه فأعطى كل شاعر صرة فيها مائتا دينار وخمسة أقمصة وكانت الشمس قد دنت من الأصيل والخيل استراحت واستراح فرسانها فنودي في الناس أن هيا إلى السباق وكان حديث القوم: «من يا ترى سينال قصب السبق من هؤلاء العشرين.» وكان حماد أقلهم كلاما وأكثرهم تأملا كأن في نفسه شيئا يكتمه وقضت هند ساعة الغداء وما بعدها تتأمل وجهه خلسة فآنست فيه جمالا وكمالا ورزانة ودعة وكان ثعلبة يراقب حركاتها ونظراتها وينظر إلى حماد نظر الإزدراء وكان حديثه قاصرا على الإطناب بما فعله والده أو ما مر به هو من غرائب الوقائع كقوله مثلا أنه ذهب للصيد فلقيه أسد فلم يفر منه بل هجم عليه وضربه فقتله أو ما شاكل ذلك من الأحاديث الملفقة وكان الحضور يصغون إلى حديثه ويؤمنون أقواله إجلالا لمقام والده وأكثرهم لا يصدقونه وهو يسرد الحكاية وينظر إلى هند يلتمس إعجابها أو استغرابها وهي لا تكترث. أما حماد فلم يكن يظهر اكتراثا به ولا انتباها له لأنه كان حرا لا يطيق التلفيق.
فلما نودي في العود إلى السباق خرج الفرسان العشرون فقال جبلة : «أرى أن ينقسموا إلى أربعة أقسام فيتسابق كل خمسة منهم في شوط فمن سبق أفرد ثم يتسابق السابقون وهم أربعة فمن سبق فلة الجائزة.» فتسابقوا خمسات فانفرد أربعة وحماد منهم.
كل ذلك وثعلبة لم يركب فرسه ولا نزل للسباق أنفة واستكبارا وهو يرجو أن لا يكون حماد من السابقين فلما رآه منهم أوجس خيفة ولو علم أنه سيسبق ما عرض نفسه لمسابقته ولكنه كان لا يزال آملا أن يسبقه مسابقوه فينجو هو من خطر الفشل.
ثم اصطف الأربعة بازاء الحبل ووقف الناس على جانبي الميدان ينتظرون نهاية هذا الشوط فاعتدل الفرسان على صهوات أفراسهم ووقف جبلة وهند وثعلبة بباب الخيمة ينظرون إليهم وقلوبهم تحلق في انتظار عاقبة ذلك السباق فأطلق الفرسان أعنة خيولهم والناس يتبعونهم بأنظارهم وكان جواد حماد متأخرا عنهم فسر ثعلبة بتأخره ظانا أنه سيفشل ولكن هندا علمت أن تأخره لم يكن إلا ضرابا من الفروسية فلما تواروا عن أبصارهم وقفوا ينتظرون رجوعهم فإذا بحماد قد عاد يحمل القصبة حتى إذا دنا من خيمة جبلة سلمها إلى هند فصاح الناس صيحة التبشير بالسبق فتناولت هند القصبة وترجل حماد وقبل جواده بين عينيه وكان عند باب الخيمة رجل يحمل وعاء فيه صغ أحمر من دم الصيد ليحصب به صدر الفرس إشارة إلى سبقه فلما تقدم ليصبغه اعترضه ثعلبة وقال: «تمهل أن السباق لم يتم بعد.» فعجب حماد وظهرت على وجهه ملامح الاستغراب فقال جبلة: «قد وعدنا ابن عمنا ثعلبة أن ينازل السابق.» فلم يجب حماد بل عاد إلى صهوة فرسه ووقف ينتظر ثعلبة فجيء إليه بفرسه وكان من أحاسن الخيل عليه قلادة من الذهب الخالص وسرح مرصع بالحجارة الكريمة فركب وهو يكاد يتميز غيظا وكانت هند في أثناء تلك البرهة فرحة بفوز حماد فشق عليها منازلة ابن عمها له ولكنها عللت نفسها بفشل الباغي وهي تزداد تعجبا بما تشاهده من حقد ثعلبة على حماد وليس بينهما ما يستدعي ذلك ولكن كبير النفس لا يستطيع تصور هذه الدنايا. ثم أمر جبلة فنودي في الناس أن السباق الآن بين حماد والأمير ثعلبة بن الحارث فوقفوا ينتظرون نهاية هذا الشوط وكان بعض الذين فاز حماد عليهم يودون أن يكون ثعلبة السابق وبعضهم يتمنون السبق لحماد ليكون لهم أسوة بابن الحارث صاحب بصرى.
فسار الفرسان في عرض ذلك السهل وقلب هند يخفق لعلمها أن فرس حماد قد تعب وفرس ثعلبة لا يزال نشيطا فلم يمض القليل حتى عاد حماد وفي يده القصبة ووراءه ثعلبة قد ساق جواده إلى الفسطاط وابتدر عمه قائلا: «إنه لم يسبقني هو بل فرسه فانه من خيل الجن أو هو من صلب داحس فرس قيس بن زهير ولو ركبته أنا ما استطاع أحد سبقي.» فسمعه حماد يقول ذلك فنزل عن فرسه وقال له: «إليك فرسي فاركبه وأعطني فرسك.» وكانت هند تنظر إليهما فخافت أن تعود العائدة على حماد وقد شعرت أن حبه تمكن من قلبها في تلك الساعات القليلة ما لا يكاد يتأتى بأعوام.
Halaman tidak diketahui