بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
١ - توطئة:
يقول الميداني في مقدمة كتابه " مجمع الأمثال " عند الحديث عن المصادر التي جمع منها كتابه: " فطالعت من كتب الأئمة الأعلام ما امتد في تقصيه نفس الأيام مثل كتاب أبي عبيدة وأبي عبيد، والأصمعي وأبي زيد، وأبي عمرو وأبي فيد، ونظرت فيما جمعه المفضل بن محمد والمفضل بن سلمة، حتى لقد تصفحت أكثر من خمسين كتابًا..... وذكرت في كل مثل من اللغة والإعراب ما يفتح الغلق، ومن القصص والأسباب ما يوضح الغرض ويسيغ الشرق مما جمعه عبيد بن شرية وعطاء بن مصعب والشرقي بن القطامي وغيرهم " (١) .
وإذا نحن تجاوزنا عما في هذا النص من ميل إلى السجع، ومن مستلزمات أخرى أوجبت بعض التقديم والتأخير، وحاولنا أن نعيد ترتيب هذه المصادر بحسب التاريخ الزمني وجدنا أن العناية بالأمثال نشأت في عهد مبكر، وكان من أول القائمين عليها؟ بين من ذكرهم الميداني؟ عبيد بن شرية الذي تحدثت المصادر عن صلته بمعاوية بن أبي سفيان؛ وقد ذكر له ابن النديم كتابًا في الأمثال (٢) وذكر من بين من روى عنهم علاقة بن كرشم (كريم في الفهرست) الكلابي ونسب له أيضًا كتابًا في الأمثال في نحو خمسين ورقة؛ وقد دلت نقول البكري في غير
_________
(١) مجمع الأمثال ١: ٤.
(٢) الفهرست: ٩٠.
1 / 1
موضع أنه ينقل عن كتاب ابن كرشم هذا (١)؛ كذلك أشار البكري إلى الشرقي بين القاطمي في موضعين أحدهما في تفسير المثل " وافق شنّ طبقة " حيث انفرد الشرقي بتفسير مناسبة هذا المثل (٢)، ولكن ليس هناك ما يدل دلالة قاطعة على أنه كان للشرقي كتاب مفرد في الأمثال، ولم يذكر له ابن النديم كتابًا بهذا الاسم، أما عطاء ابن مصعب فلم نجد أحدًا تصدى لذكره غير الميداني، وإذا لم يكن في الاسم تصحيف أو تحريف فإنه يبدو أنه كان من تلك الطبقة المبكرة من الرواة التي اهتمت برواية ما تتصل به بعض الأمثال من أخبار وأساطير، ولولا أن ابن نديم ذكر أنه رأى كتاب ابن كرشم في الأمثال لقدرنا أن هؤلاء الثلاثة هم مصدر الأخبار الأسطورية لا غير، بل ربما ذهبنا إلى الظن بأن كتاب ابن كرشم إنما يمثل تصنيفًا متأخرًا في الزمن جمعه شخص آخر أو تفرد بروايته.
وبعد هؤلاء يجيء طبقة ممن استع لهم باع التأليف في هذا الموضوع وهم أبو عمرو (ولعلّ الذي يعنيه الميداني هو أبو عمرو بن العلاء) (- ١٥٤) والمفضل بن محمد الضبي (- ١٧٠) وأبو فيد وهو مؤرخ بن عمرو السدوسي (- ١٩٣) وأبو عبيدة بن المثنى (- ٢١٠) والأصمعي عبد الملك بن قريب (- ٢١٣) وأبو زيد الأنصاري (- ٢١٥)؛ وربما كان كتاب المفضل الضبيّ صورة شاملة لجهود الرواة الذين سبقوه، وذلك لأنه اهتم على وجه الخصوص بالأمثال التي تستند إلى أساطير وقصص؛ وكان كاتب أبي عبيد القاسم بن سلام (- ٢٢٤) توسيعًا لطبيعة المثل وتجديدًا في تقسيم الأمثال بحسب الموضوعات، إذا قيس بما تم قبله (٣)؛ وقد كثر التأليف في الأمثال بعد أبي عبيد وخاصة في القرن الثالث، فألف في الأمثال كلّ من ابن الأعرابي (- ٢٣١) وابن السكيت (- ٢٤٤) وابن حبيب (- ٢٤٨)
_________
(١) انظر مثلًا الورقة: ١٠٨ من النسخة ص.
(٢) الورقة ٧٤ من ص.
(٣) لا نرى من الضرورة في هذه المقدمة الحديث عن ابن سلام وجهوده المختلفة في ميدان التأليف، فقد كتبت عنه بعض الدراسات العلمية الحديثة، وأما مصادر ترجمته فتراجع في ابن خلكان ٤: ٦٠ والحاشية، تحقيق إحسان عباس، وفي الموسوعة الإسلامية (الطبعة الجديدة) .
1 / 2
والجاحظ (- ٢٥٥) وابن قتيبة (- ٢٧٦) والمفضل بن سلمة (- ٢٩٠)؟ الذي أفرده الميداني بالذكر دون الآخرين؟ وكتابه مطبوع باسم فاخر؛ وثعلب (- ٢٩١) .
٢ - هجرة كتب الأمثال إلى الأندلس:
نحن مدينون لأبي بكر ابن خير الاشبيلي بمعرفة عددٍ من كتب الأمثال المشرقية التي دخلت إلى الأندلس واشتغل بها طلاب العلم، وقد كانت هذه الكتب نوعين: نوع من الأمثال الواردة في القرآن والحديث؟ وليس من الضروري التصدي لذكرها هنا؟ ونوع في الأمثال عامة، وأهم ما وصل إلى الأندلس منها:
١ - أمثال المفضل بن محمد الضبي: وفي سند روايته نفطوية عن ثعلب عن الأحوال عن ابن الأعرابي عن الفضل (١) .
٢ - أمثال أبي زيد الأنصاري: وهو برواية أبي علي القالي عن أستاذه ابن دريد عن أبي محمد التوزي عن أبي زيد الأنصاري (٢) .
٣ - أمثال الأصمعي: وهو أيضًا برواية القالي عن ابن دريد عن أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي (٣) .
٤ - أمثال أبي عبيدة معمر بن المثنى: وفي سنده أبو عبد الله اليزيدي عن أبي العباس ابن دينار عن سعدان بن المبارك عن أبي عبيدة؛ وقد دلنا ابن خير أن هذا الكتاب كان يسمى " المجلة في الأمثال " (٤) .
٥ - كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام (٥) .
_________
(١) فهرسة ابن خير: ٣٨٤.
(٢) المصدر نفسه: ٣٧١.
(٣) المصدر نفسه: ٣٤٠، ٣٤١.
(٤) المصدر نفسه: ٣٤١.
(٥) المصدر نفسه: ٣٣٩.
1 / 3
هذا هو ما عده ابن خير، ولكن إشارات البكري في " فصل المقال " تدل على أنه طلع على كتب أخرى في الأمثال مما ألف قبل كتاب ابن سلام وبعده، إلا أنه ليس من السهل أن نقطع بأن البكري ينقل عن تلك الكتب، حين نجده يشير مثلًا إلى ابن السكيت والمفضل بن سلمة وغيرهما.
٣ - كتاب أبي عبيد ابن سلام في الأندلس:
جاء في مخطوطة فيض الله (رقم: ١٥٧٨)؟ وهي التي رمزنا لها بالحرف (ف) " قال عليّ بن عبد العزيز كاتب أبي عبيد القاسم بن سلام: كتبت هذا الكتاب من نسخة أبي عبيد ﵀ بخط يده، وعارضت بها حرفًا حرفًا، ثم قرأناه على أبي محمد بن عاصم النحوي (- ٢٧٠) صاحب الفراء، فزادنا فيه أشياء ألحقتها في حواشي الكتاب؛ ثم قرأته على الزبير بن بكار (- ٢٥٦) وهو قاضي أهل مكة فكتبت أيضًا ما زادنا فيه ونسبت ذلك إليه "؛ وبعد نصف قرن وقعت هذه النسخة في يد أبي بكر ابن الأنباري (- ٣٢٧) فأضاف إليها تعليقات أخرى بخطه؛ هذه النسخة القيمة وصلت إلى الأندلس، وهناك مواضع عديدة في كتاب البكري تدل على أنه اطلع عليها وأفاد منها تعقبه لأبي عبيد ابن سلام (١)؛ وقد أشرنا إلى ذلك في عدد من المواضع في الحواشي.
ويقول البكري في أول شرحه: " حدثنا أبو مروان ابن حيان قال: أخبرنا أبو عمر أحمد بن أبي الحباب، قال: أنبأنا أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي قال: أنبأنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز وثابت ابن أبي ثابت قالا: أنبأنا أبو عبيد القاسم ابن سلام.
فلأبي عبيد القاسم بن سلام في نقل كتاب الأمثال تلميذان أهمهما علي بن عبد العزيز؛ وعن الاثنين معًا أخذ إبراهيم بن محمد بن عرفة الشهير بنفطويه
_________
(١) انظر الورقة ٥ من النسخة ص حيث يقول البكري: " رأينا في الحاشية على كتاب الأمثال بخط المهلبي ... الخ ".
1 / 4
(- ٣٢٣) (١) وعن نفطويه أخذ الكتاب شيخ لغوية الأندلس أبو علي القالي (- ٣٥٦) (٢) وعن القالي أخذه تلميذه ابن أبي الحباب القرطبي (- ٤٠٠) (٣) وتلقاه عنه مؤرخ الأندلس أبو مروان ابن حيان (- ٤٦٩) .
وهناك ثلاث طرق أخرى في الأندلس لرواية كتاب الأمثال، أولًا: طريق ابن القوطية عن أبي الحسن طاهر بن عبد العزيز عن علي بن عبد العزيز نفسه، والثانية: طريق ابن الافليلي عن القاسم بن سعدان عن طاهر بن عبد العزيز عن علي بن عبد العزيز، والطريق الثالثة بسند يونس بن أحمد الحراني عن ابن أبي الحباب عن القالي عن ابن درستويه عن علي بن عبد العزيز (٤)، فكل الطرق تنتهي إلى علي بن عبد العزيز، ويمكن تصويرها في الجدول الآتي:
يوجد هنا مخطط في ص ١١ في الكتاب.
_________
(١) انظر ترجمة نفطويه في ابن خلكان ١: ٤٧ من تحقيق إحسان عباس، وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى.
(٢) ابن خلكان ١: ٢٢٦ وفي الحاشية ذكر لمصادر الهامة في ترجمته.
(٣) انظر ترجمته في الجذوة: ١١١ والصلة: ٢٥.
(٤) انظر فهرسة ابن خير: ٣٣٩ - ٣٤٠.
1 / 5
ومن هذا الجدول يتبين أن الأندلس مدينة بإشاعة هذا الكتاب وحمله ونقله إلى رجلين هما: القالي وطاهر بن عبد العزيز (- ٣٠٤) وهذا الثاني رعيني قرطبي، رحل إلى المشرق والتقى بعلي بن عبد العزيز في مكة، ولم يقتصر على أخذ الأمثال عنه، بل روى أيضًا كتب أبي عبيد، وحين عاد إلى الأندلس سمعها الناس منه (١) وتاريخ وفاته يدل على أنه سبق القالي إلى تدريس كتاب الأمثال، وأثار حوله عناية كثير من المتأدبين. وقد ذكر البكري نفسه أن ابن عبد ربه قال: شهدت أبا محمد ابن بكار العامري الأعرابي في مجلس يزيد بن طلحة وكتاب الأمثال يقرأ؛ وأضاف أن العامري توقف عن المثل " شاكه أبا يسار ". كذلك فإن بن عبد ربه لخص كتاب الأمثال وأدرج هذا الملخص في كتاب العقد، وكل هذا تم قبل أن يصل القالي إلى الأندلس (٣٣٠هـ؟) إذ توفي ابن عبد ربه قبل ذلك بحوالي عامين.
واستمر الأندلسيون يولون كتاب أبي عبيد ابن سلام اهتمامًا كبيرًا في حياتهم الثقافية؛ إذ تسلسل الرواية بعد ابن القوطية حتى يصل الإسناد إلى الشلوبين في القرن السابع؛ وفي هذا القرن نفسه يحدثنا الرعيني في برنامجه أن ابن أبي عزفة سمع على أبي ذر الخشني كتاب الأمثال لأبي عبيد (٢)، ويبدو أن أبا ذر الخشني هو المشار إليه في نسخة فيض الله بالحرف (خ) حيث كتب هنالك بعض التعليقات؛ وكل هذه الحقائق تشير إلى ما أحرزه كتاب ابن سلام من مقام في نفوس الدارسين الأندلسيين.
٤ - شرح البكري لأمثال أبي عبيد:
تتبع البكري (٣) بعض الأصول بالشرح والتعليق والنقد، هذا إلى جانب ما ألفه في موضوعات أخرى؛ وقد عرفنا من شروحه:
_________
(١) انظر ابن الفرضي ١: ٢٤٣ والجذوة: ٢٣٠.
(٢) برنامج الرعيني: ٤٥.
(٣) كتب الدكتور مؤنس في كتابه (تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس " (مدريد ١٩٦٧) دراسة مفصلة عن أبي عبيد البكري، ويستطيع القارئ أن يرجع أيضًا إلى مقدمة الأستاذ الميمني على سمط اللآلئ.
1 / 6
١ - اللآلي في شرح الأمالي، وقد نشر بعناية الأستاذ عبد العزيز الميمني.
٢ - التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه، وقد طبع ملحقًا بالأمالي.
٣ - كتاب صلة المفصول في شرح أبيات الغريب المصنف لأبي عبيد (١) .
٤ - فصل المقال في شرح الأمثال (أبي أمثالابي عبيد ابن سلام) وهو هذا الكتاب.
وقد بين البكري في فاتحة هذا الشرح منهجه في كتابه حين قال " أما بعد فإني تصفحت كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام فرأيته قد أغفل تفسير كثير من الأمثال فجاء بها مهملة، وأعرض عن ذكر كثير من أخبارها فأوردها مرسلة، فذكرت من تلك المعاني ما أشكل، ووصلت من تلك الأخبار بأمثالها ما فصل، وبينت ما أهمل ونبهت على ما ربما أجمل، إلى أبيات كثيرة غير منسوبة نسبتها، وأمثال جمة غير مذكورة ذكرتها، وألفاظ عدة من الغريب فسرتها "؛ وحين يتأمل القارئ هذا المنهج يجد أن البكري قد اضطلع بالتفصيل إذا وجد الاختصار غير واضح، وهذا التوضيح يتناول المعاني والأخبار، كما أنه قام بنسبة الشعر الذي أورده الملف الأول دون نسبة، وأضاف إلى ما ذكره أبو عبيد أمثالًا أخرى لم ترد في كتابه، واهتم بتفسير بعض الألفاظ الغربية.
وقد أتاح له منهج ابن سلام نفسه أن يقوم بهذا القدر من العمل، وبما هو أكثر منه، إذ كان كتاب الأمثال يميل إلى شيء من الإيجاز، ولا يحتفل كثيرًا بإيراد قصة المثل على طولها؛ وكان ابن سلام أيضًا قليل الاكتراث؟ فيما يبدو؟ بنسبة الشعر إلى أصحابه، أما لداعي الإيجاز والاستعجال وإما لجهله قائل البيت أو المقطوعة من الشعر. فمن أمثلة جهله أن يقول عند رواية بيت مشهور لأبي خراش الهذلي " يقول شاعر في سالف الدهر "، ومنها أيضًا قوله عندما روى البيت "
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وهذا البيت يقول بعضهم إنه لعثمان بن عفان. وعند هذا الموقف يغضب البكري فيقول معلقًا: كيف جهل أبو عبيد أن هذا البيت من شعر الأبيرد اليربوعي وهو أشهر من أن يجهله أحد فكيف يجهله أحد الجلة من العلماء بفنون العلم؟ وهكذا
_________
(١) فهرسة ابن خير: ٣٤٣.
1 / 7
كان شأن ابن سلام أيضًا في مواطن تستدعي التوقف في النسب أو في صحة الأسماء، فقد تعقبه البكري في كل ذلك، وأبان عن الوجوه الصحيحة، أو قرن برواية أبي عبيد رواية غيره من العلماء في التوجيهات اللغوية، وفي فهم الأمثال والنصوص. وخطأه أيضًا في فهمه بعض الأمثال، من ذلك ما ورد في تفسير المثل " سوء الاستمساك خير من حسن الصرعة: فقد قال ابن سلام في تفسيره له: يقول لأن يزل الإنسان وهو عامل بوجه العمل وطريق الإحسان والعمل، خير من أن تأتيه الإصابة وهو عامل بالإساءة بالخرق، فقال البكري في تعليقه: " تفسير أبي عبيد يقتضيه لفظ المثل، ولا يصح عليه لأن الذي يعمل بوجه العمل وطريق الاستحسان ليس سيئ الاستمساك، كما أن العامل بالإساءة والخرق ليس بحسن الصرعة ".
ويشعر القارئ أحيانًا أن البكري يتحكم في بعض التخريجات، ويأخذ على أبي عبيد ما يقع فيه غيره منت العلماء. فقد فسر ابن سلام المثل: " عند فلان من المال عائرة عين " بأن لديه من كثرة المال يملأ العين حتى يكاد يعورها، فقال البكري: " قبح الله كل مال يكاد يفقأ العين حين النظر ... الخ " ولو تمهل البكري لوجد أن علماء آخرين قبلوا هذا التفسير، وأن أبا عبيد لم يزد على أن اختار توجيه أبي عبيدة في فهم المثل. وقد يتجاوز التدقيق عند البكري حده الطبيعي المقبول في بعض الأحيان فيؤاخذ ابن سلام على أشياء لم يقلها؟ قال ابن سلام في المثل " قد نفخت لو تنفخ في فحم " إن هذا المثل الأغلب في شعره، فتعقبه البكري بقوله: " أما قوله نفخت لو تنفخ في فحم وهو في شعر الأغلب فليس ما أورده شعرًا ولا رجزًا "؟ والحق أن أبا عبيد ابن سلام لم يقل إنه يورد شعرًا أو رجزًا، وكل ما قاله أن هذا المثل ورد " في " شعر؟ وحقه أن يقول في رجز؟ للأغلب العجلي.
وقد مضى ابن سلام بدافع الإيجاز يحيل على أشياء ذكرها في كتابه غريب الحديث والغريب المصنف، مما جعل البكري يقف عند هذه المواطن ليشرحها منتقدًا ابن سلام على موقفه هذا، لأن ابن سلام افترض أن قارئ كتابه لا بد من أن يكون قادرًا على الرجوع إلى كتبه الأخرى.
وثمة صفة أخرى في ابن سلام أتاحت للبكري أيضًا مجالًا من القول، تلك هي تحرج أبي عبيد من ذكر بعض الأسماء، أو رواية بعض القصص، كقوله " وذكر
1 / 8
عند عمر بن الخطاب فلان، قال ذلك رجل وفيه دعابة " فعند ذلك يورد البكري القصة ويذكر الاسم الذي كنى عنه ابن سلام بكلمة " فلان "؛ وصفة التحرج غالبة على ابن سلام في مواطن متفرقة من كتابه، أما البكري فإنه لا يرى بأسًا يذكر ما يستحي أبو عبيد من روايته.
وإذا اغتفرنا بعض هنات للبكري في تعقبه لأبي عبيد، وكلها مما يدل على اعتداد بالنفس، وجدناه قد أغنى شرحه بالتحقيقات الطيبة في اللغة والأنساب والشعر، وكان في شرحه هذا ذا شخصية قوية، كما كان في شرحه لأمالي القالي، واسع الإطلاع، جم المعارف وإن لم يخل من خطأ أو وهم. وقد تقيد بالشرح ولذلك فإنه لم يورد الأمثال التي لا يستطيع التعليق عليها أو التي لا تستحق منه تعليقًا، بل اختار منها ما يستطيع إخضاعه للتفسير والتعليق، ونحسب أن ما حذفه من الأمثال من أصل أبي عبيد أضعاف أضعاف ما زاده إليه أثناء الشرح لأنه في بعض الأحيان كان يغفل أبوابًا كاملة. وعلى هذا فإن كتاب " فصل المقال " لا يضم إلا قدرًا محدودًا من الأمثال، وكذلك كتاب أبي عبيد نفسه، لأن التبويب اتبعه مؤلفه يحدد طبيعة الأمثال التي أمكنه إدراجها فيه، ولهذا التقسيم عيوب ليس البكري مسؤولًا عنها، وإن التزم به في سياق شرحه.
وعلى ما لهذا من قيمة علمية فإننا لم نجد عددًا كبيرًا من العلماء قد أفاد منه واستغل ما فيه. وكل ما نعرفه في هذه الناحية أن تلميذين لأبي عبيد البكري روياه عنه وهما: الوزير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن عبد العزيز اللخمي، ومحمد بن محمد بن عبد الرحمن القرشي المعروف بابن الأحمر، ونقل منه العيني مرة واحدة في قصة النعمان وسعد القرقرة (العيني ٤: ٥٥) وربما كان صاحب التاج أو شيخه مطلعًا على بعض ما جاء فيه، لأن هنالك إشارات إلى بعض تعليقات البكري وردوده.
1 / 9
تحقيق الكتاب
١ - نسخ الكتاب:
اعتمدنا في تحقيق هذه الطبعة من الكتاب على أربع نسخ:
(١) نسخة مكتبة لاله لي (رقم: ١٧٩٥) وقد رمزنا لها بالحرف (ص)، وهي نسخة أصلها قديم يبدو، وتتألف من ١٦٠ ورقة، كتبت بخط نسخي، وفي كل صفحة من صفحاتها ٢١ سطرًا، وربما كان أصلها يعود إلى القرن السابع أو الثامن، إلا أن الورقات (١؟ ٤٧) فيها قد فقدت من الأصل، فأعاد أحد النساخ كتابتها بخط يرجع إلى القرن الحادي عشر أو ما بعده، وبما أنها كانت أكمل نسختين موجودتين لدينا عند تحقيق هذا الكتاب أول مرة فقد اعتبرناها أصلًا، وهذا هو سرّ اختيار حرف (ص) رمزًا لها، ولكنها في الحقيقة لا تستحق هذا التقدير، لأنها مليئة بالأخطاء، وأكثر أخطائها يعود إلى جهل الناسخ (١) .
(٢) نسخة مكتبة الفاتح (رقم: ٤٠١٤) ومنها فيلم بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية. ومن هذا المعهد حصلنا على صورة منها، عدد أوراقها ١٠٣ ومسطرتها ١٧ × ٢٢ سم (انظر فهرست المخطوطات المصورة رقم: ٦٣٤)؛ وهذه
_________
(١) من هذه النسخة فيلم بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية (راجع فهرست المخطوطات المصورة رقم: ٦٣٥) .
1 / 10
النسخة مكتوبة بخط مغربي رديء، يبدو عليه القدم، وهي ناقصة في عدة مواضع، وقد رمزنا لها بالحرف (ح) .
(٣) نسخة الاسكوريال (رقم: ٥٢٦) وقد رمزنا لها بالحرف (س)، وتتألف من ١٦٥ ورقة، في كل صفحة ٢١ سطرًا، ومسطرتها ٢٣ × ١٧. ٥، وخطها أندلسي جميل؛ والضبط فيها؛ بوجه عام، جيد، وقد سقطت منها افتتاحية المؤلف، وقسمة الكتاب في أبواب، وجاء في آخرها: " تم فصل المقال في شرح الأمثال لأبي عبيد الله ابن سلام بتفسير غريبه ومعانيه وذكر الأمثال الواقعة فيه لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري، ﵀، والحمد لله على معونته، وصلى الله عليه وسلم "؛ وليس هناك تاريخ للنسخ.
(٤) نسخة الرباط (رقم: ١٥٨ ق) وقد رمزنا لها بالحرف (ط) وهي في ١٩٥ صفحة، في كل صفحة ١٩ سطرًا، ومسطرتها ٢٠. ٥ × ١٦. ٥ وخطها مغربي دقيق، وهي النسخة الوحيدة التي تحمل تاريخًا، فقد جاء في آخر ورقة من أوراقها " وكل الفراغ منه في الموفي عشرين من شهر شعبان من سنة ثمان وستمائة "، وعلى هذا فربما كانت أقدم نسخة بين هذه الأصول الأربعة؛ إلا أن الورقتين اللتين تحويان المقدمة وتقسيم الكتاب إلى فصول قد سقطتا منها. تلك هي النسخ التي اعتمدنا عليها من شرح البكري نفسه، ولكنا زيادة في التدقيق، رأينا أن الأصول المشروح وهو كتاب القاسم بن سلام في الأمثال لا بدّ من أن يكون بين أيدينا لدى القيام بالتحقيق، ولهذا يمكن أن يقال إنه كانت لدينا نسخة خامسة اعتمدناها، وربما كانت من أهم ما اعتمدناه:
(٥) كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام، نسخة فيض الله (رقم: ١٥٧٨) وقد رمزنا لها بالحرف (ف)، وهي تقع في ٨٩ ورقة، يضاف إليها ورقة واحدة ليست من صلب الكتاب، وهي مكتوبة أيضًا بخط مغربي، وفي كل صفحة ١٩ سطرًا، وهي جيدة الضبط والشكل، وعلى هامشها تعليقات مفيدة، وقد نقلت تلك التعليقات مع الأصل نفسه عن نسخة بخط علي بن عبد العزيز تلميذ ابن سلام وصححت على أصل المؤلف، ثم قرأها أبو بكر ابن الأنباري وكتب فيها حواشي بخطه، وللمهلبي اللغوي فيها حواش أخرى كتبها ابن
1 / 11
الأنباري جميعها بخطه من قراءته على أبي العباس الأحول اللغوي، ولعل الأصل المشار إليه هو الذي اطلع عليه ابن السيد البطليوسي (سنة ٥١٧) وعليه قرأه الفقيه المشاور أبو الحسن ابن النعمة، كما تدل الورقة الأولى من هذه النسخة؛ وليس في مقدورنا أن نغالي في تقدير قيمة هذه المخطوطة الهامة عندما قمنا بالتحقيق، ولكن يكفي أن نقول إنها كانت مرجعنا الأكبر عند قيام إشكال أو تعارض بين النسخ، كما أن هومشها كانت مصدرًا لفوائد جليلة.
٢ - منهجنا في التحقيق:
إن دراسة النسخ الأربع التي اعتمدناها في التحقيق تدل على أننا أمام فئتين متفاوتتين من الأصول؛ الفئة الأولى تمثلها النسختان ص ح، فهما؟ وخاصة في الثلث الأول من الكتاب؟ تتفقان في زيادات كثيرة، لا وجود لها في النسختين الأخريين، ويبدو أن هذه الزيادات إنما كانت استدادًا من أصل ابن سلام نفسه للتوضيح، وأنه لم يكن للبكري يد فيها؛ كذلك فإن هاتين النسختين تتفقان فيما ينقصهما عند المقارنة بالنسختين الأخريين؛ أما الفئة الثانية فتتمثل في النسختين س ط، رغم ما قد يكون بينهما من تفاوت، نعم إن القراءات في كلتا النسختين قد تكون أحيانًا متباعدة، مما يدل على أنهما تنتميان إلى أصلين مختلفين، ولكن تلك الفروق جزئية، وليس بين النسختين اختلاف كبير في السياق العام نفسه. وعلى هذا وجدنا أنه لا بد لنا الأخذ بالأمور الآتية:
١ - أنه ليس هناك " نسخة أمّ " تتخذ حكمًا عند التباين بين النسخ.
٢ - أن زيادات ص ح قد وضعت في المتن بين قوسين بهذا الشكل
٣ - أن زيادات س ط قد وضعت بين معقفين هذه صورتهما []
٤ - أننا حذفنا كثيرًا من الفروق التي انفردت بها ص، لأنها في الأساس تعود إلى جهل الناسخ، وما كان خطأً واضحًا لا لبس فيه فلا يصح أن يثبت في الحواشي.
٥ - أن ما زدناه من النسخة (ف)؟ وهي أصل أبي عبيد ابن سلام؟ وضع بين
1 / 12
قوسين، هذه صورتهما ()؛ ولكنا في هذه الطبعة الثانية حذفنا من الزيادات التي أدرجناها من (ف) في الطبعة الأولى شيئًا كثيرًا، لأن أصول فصل المقال؟ في هذه الطبعة الثانية؟ قد أصبحت تمكننا من الحسم في كثير من الأمور، دون الاعتماد الكبير على نسخة (ف) .
٦ - أن هناك فروقًا كثيرة في القراءات قد أغفلناها لأنها لا تغير كثيرًا في المبنيى والمعنى؛ ومن ذلك الأدعية مثل " ﷺ " و" ﵁ " و" ﵀ "، فقد اتبعنا فيها منهجًا مناسبًا، وإن تفاوتت النسخ في ذلك، كذلك قد نجد تفاوتًا بين النسخ في أمور صغيرة مثل " ومنه قولهم " بدلًا من " منه قولهم " وما أشبه من فروق مثل " وقال " " فقال "؟ ولو أنا أردنا أن نشير إلى أمثال هذه الخلافات في كل موطن لأثقلنا الحواشي بأمور لا ضرورة لها؛ كذلك فإنا على تمام الشعور بالمسؤولية العلمية حين نقول: إن الأخطاء التي لا تتحمل تأويلًا إلى جانب الصحة المحتملة يجب أن يغفل إثباتها، لأن ذلك يعد إثقالًا على القراء، دون ما داعٍ يدعو لذلك.
٣ - شكر وتقدير:
حين أصدرنا الطبعة الأولى من هذا الكتاب (سنة ١٩٥٨) كان لجامعة الخرطوم الفضل الكبير في طبعه على نفقتها، تشجيعًا منها لإحياء التراث العربي، وتقديرًا لعمل أستاذين من أساتذتها، وأظن أن كرور الأيام، لن ينسينا الاعتراف بالجميل لتلك الجامعة، ولما أدته في خدمة العلم؛ وقد حرصت الجامعة يومئذ أن يكون عملنا مسددًا بإرشاد عالم طويل الباع في ميدان التحقيق وفي سعة الاطلاع، وذلك هو صديقنا الأستاذ محمود شاكر الذي قرأ الكتاب قبل دفعه للمطبعة، وأرسل إلينا بتعليقات كثيرة مفيدة، أثبتنا ما يحتاج إليه القارئ منها في هوامش الكتاب؛ وقد عانينا في طبع الكتاب؟ في الخرطوم؟ ما لا قبل لنا بتصويره، ولم تستطع غيرتنا العلمية أن تبرئه من أخطاء، كنا نحن أشد الناس ألمًا لوقوعها فيه، حتى لقد قلنا حينئذ في تقديم تلك الطبعة: " غير أن نقص الوسائل عامة، اضطرنا إلى قبول الأمر الواقع آسفين، فقد امتلأ الكتاب بالأخطاء، مع حرصنا على تصفيته منها ".
1 / 13
أما اليوم، فإننا نستطيع أن نقول بكل تواضع إننا نتقدم بالكتاب وهو لا يشكو من تلك العثرات، ويعود جانب كبير من الفضل في ذلك إلى صديقي العالم المحقق الأستاذ أحمد راتب النفاخ الذي أولى هذا الكتاب عناية خاصة، وقدم إليّ صوةرة من مخطوطة الاسكوريال لأستعين بها في العمل، وكانت أريحيته دائمًا عونًا كبيرًا لي في ما قمت به من تحقيقات. ولا أنس فضل أخ كريم هو الأستاذ مجير العمري الذي يعمل على إحياء التراث بغيرة صادقة، فهو الذي اضطلع بعبء هذا الكتاب، حتى خرج على النحو الذي يرتضيه المحقق والقارئ؛ فلهذين الصديقين شكري وتقديري.
ولما تيسر لي إعادة النظر في الكتاب على ضوء مخطوطتين جديدتين أستأذنت صديقي الدكتور عبد المجيد عابدين في إعادة طبعه، فأذن في ذلك، ولم يكن في مقدوري أن أعرض عليه ما تمّ في هذا العمل لتباعد المسافة فيما بيننا، ولكنه أولاني مشكورًا ثقته، فعملت بوحي من هذه المسئولية في جميع أجزاء الكتاب، حتى انني أعدت النظر في المقدمة، ووضعتها على نحو جديد، مستفيدًا من المعلومات التي وردت في مقدمة الطبعة الأولى، وقد حذفت منها ما كان مكررًا أو ما ظننته إمعانًا في التفصيلات، لا يفيد القارئ منه كثيرًا.
والله أسأل أن يوفقنا جميعًا ويسدد خطانا بمنه وكرمه.
بيروت في ٤ ذي الحجة ١٣٩٠
٣٠ - كانون الثاني (يناير) ١٩٧١ إحسان عباس
1 / 14
فصل المقال
في شرح كتاب الأمثال
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الحمد وأهله، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وصفوته من رسله.
أما بعد: فإني تصفحت كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام فرأيته قد أغفل تفسير كثير من تلك الأمثال فجاء بها مهملة، وأعرض أيضًا عن ذكر كثير من أخبارها فأوردها مرسلة، فذكرت من تلك المعاني ما أشكل، ووصلت من تلك الأمثال بأخبارها ما فصل، وبينت ما أهمل، ونبهت على ما ربما أجمل، إلى أبيات كثيرة غير منسوبة نسبتها، وأمثال جمة غير مذكورة ذكرتها، وألفاظ عدة من الغريب فسرتها، وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد رتبته على عشرين بابًا يتفرع منها أبواب في محالها:
الباب الأول: في حفظ اللسان، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الثاني: في معايب المنطق، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الثالث: في جماع أحوال الرجال واختلاف نعوتهم وأحوالهم، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الرابع: في تعاطف ذوي الأرحام وتحنن بعضهم على بعض، ويتفرع منه أبواب.
الباب الخامس: في مكارم الأخلاق، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب السادس: في الجود والمجد.
الباب السابع: في الخلة والصفاء، ويتفرع منه أبواب في معناه.
1 / 2
الباب الثامن: في المعاش والأموال، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب التاسع: في العلم والمعرفة، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب العاشر: في شواهد الأمور الظاهرة على علم باطنها، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الحادي عشر: في الحوائج، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الثاني عشر: في الظلم، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الثالث عشر: في المعايب والذم، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الرابع عشر: في الخطأ والزلل في الأمور، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الخامس عشر: في البخل وصفاته وأشكاله، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب السادس عشر: في صنوف الجبن وأنواعه، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب السابع عشر: في مرازي الدهر، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الثامن عشر: في الجنايات، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب التاسع عشر: في منتهى التشبيه، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب العشرون: في اللقاء والنفي للناس والطعام، ويتفرع منه أبواب في معناه.
فأقول: حدثنا أبو مروان ابن حيان، قال: أخبرنا أبو عمر أحمد بن أبي الحباب قال: أنبأنا أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي قال: أنبأنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز وثابت بن أبي ثابت قالا: أنبأنا أبو عبيد القاسم بن سلام الخزاعي قال: هذا كتاب الأمثال وهي حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت فيها (١) .
ع: المعارضة هنا من الذي ورد: في المعارض مندوحة عن الكذب (٢)،
_________
(١) ف: وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية غير تصريح فيجتمع لها بذلك ثلاث خلال: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه ... الخ.
(٢) قال الميداني (١: ٩) إنه من كلام عمران بن حصين، وفي طبقات ابن سعد (٧/١: ١٠٥) أن عبد الله بن الشخير كان يقول: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ورفعه البكري في السمط: ٢٤٠ إلى الرسول.
1 / 3
وهي الكلام الذي يفهم عنك منه خلاف ما تضمره لاحتماله معنيين، وهذا هو اللحن عند العرب، تقول: لحنت له لحنًا، إذا قلت له قولًا يفهمه عنك ويخفى على غيره، وقد لحنه إذا فهمه، وهو الذي أراد مالك بن أسماء بن خارجة بقوله (١):
وحديثٍ ألذه هو مما ... تشتهيه النفوس يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا، وخير الحديث ما كان لحنا أي تعرض به في حديثها وتزويه (٢) عن جهته لئلا يفهمه الحاضرون.
ومن المعارض ما روي عن النبي ﷺ (٣) أنه حين هاجر إلى المدينة مخفيًا لشأنه عن قريش نزل منزلًا، فمر به قوم يؤمون مكة ومعه أبو بكر، فقال لهما القوم: من أين أنتما؟ قال رسول الله ﷺ: نحن من ماء من المياه، فقال القوم: هما من بعض مياه العرب. وإنما أراد النبي ﵇ قول الله تعالى: ﴿فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماءٍ دافق﴾ (الطارق: ٥) فلحن لهم بذلك ليخفى أمره، وصدق كما قال ﵇: إني لأمزح ولا أقول إلا حقًا. وقال لامرأة من العرب (٤): " إن الجنة لا تدخلها العجز " ففزعت وبكت، أراد النبي ﵇ قوله تعالى: ﴿إنا أنشأناهن إنشاءً، فجعلناهن أبكارًا، عربًا أترابًا﴾ (الواقعة: ٣٦)، وأهل الجنة أجمعون/ شبان لا يهرمون (٥) .
_________
(١) انظر ترجمة مالك بن أسماء في الشعر والشعراء: ٤٩٢، وقد ورد البيتان أيضًا في أمالي القالي ١: ٥ والسمط: ١٥، وفيه استطراد بذكر قصص متصلة بالملحن والتعريض. وهما في أمالي المرتضى ١: ١٤، والبيان ١: ١٤٧ ووهم الجاحظ في معنى اللحن هنا، فظنه الخطأ في الإعراب.
(٢) س: فتزيله.
(٣) كرره البكري أيضًا في شرحه على الأمالي (انظر السمط: ٢٤٠) وقد ورد هذا الخبر في سيرة ابن هشام ٢: ٢٦٨ط. الحلبي، وبهامش الروض الأنف ٢: ٥٦.
(٤) ط س: من الأنصار.
(٥) ص ح: لا ينزفون، ومعناه لا يسكرون، واصله من ذهاب العقل.
1 / 4
وحضر باب عبد الملك بن مروان (١) ناس من العرب فيهم تميمي ونميري، فمر عليهم رجل يحمل بازيًا، فقال التميمي للنميري: انظر ما أحمق (٢) هذا البازي، ففهم النميري ما أراد فقال له: نعم، وهو يصيد القطا:
أراد التميمي قول جرير (٣):
أنا البازي المطل على نميرٍ ... أتيح من السماء له انصبابا (٤) وأراد النميري قول الطرماح (٥):
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت قال أبو عبيد: وكان ما دعانا إلى تأليف هذا الكتاب وحثنا عليه ما روينا من الأحاديث المأثورة عن النبي ﷺ (٦) .
_________
(١) أورد البكري نفسه هذه القصة في شرحه على الأمالي (السمط: ٨٦٢) وذكر أن الشعراء اجتمعوا على باب أمير من أمراء العراق. وانظر أيضًا محاضرات الراغب ١: ١٦٥.
(٢) ط س: ما أخس؛ ولعل الصواب: ما أحسن.
(٣) ديوان جرير: ٧٢ مع اختلاف يسير في الرواية، والنقائض: ٤٤٣.
(٤) زاد بعد البيت في س: ويروى: أتيح له من الجو.
(٥) هو البيت: ٣٢ من القصيدة: ٨ في ديوانه.
(٦) لم يرد في س ط.
1 / 5
ع: المأثورة هي المحمولة المروية، يقال هذا الحديث مأثور عن فلان، وهو يأثره عنه أي يحمله ويحكيه، وهو معنى قول الله تعالى: ﴿أو أثارة من علم﴾ (الأحقاف: ٤) وروى الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال (١): سمعني النبي ﷺ أحلف بأبي فقال: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " فما حلفت بها ذاكرًا ولا آثرًا (٢)، يعني أنه لم يأثر ذلك عن غيره، أي يحيكه عنه، لئلا يجري على لسانه. وقال الأعشى (٣):
إن الذي فيه تناويتما ... بين للسامع والآثر قال أبو عبيد: ومن أمثاله أيضًا قوله ﷺ (٤): " مثل المؤمن كمثل الخامة من الرزع تمليها الريح مرةً هاهنا، ومرةً هاهناك، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على الأرض حتى يكون انجعافها مرة ".
ع: لفظ الحديث (٥) تمليها الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ويروى: تفيئها؛ والخامة: الغضة (٦) من الزرع أول ما تستقل على ساق، وألفه (٧) منقلبه عن ياءٍ.
_________
(١) أخرج هذا الحديث أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك، وفيه اختلاف يسير عما ورد هنا. وأخرجه الترمذي، انظر تيسير الوصول ١: ٢٣.
(٢) انظر البخاري، كتاب الإيمان والنذور - الباب: ٤.
(٣) البيت: ٢١ من القصيدة الثامنة عشرة في ديوانه، وهي إحدى مدائحه في عامر بن الطفيل وتفضيله على علقمة بن علاثة ورواية الديوان: فيه تداريتما، وقوله: تناوليتما يريد تناوأتما وترك الهمز فيه جائز؛ وفي ط: تماريتما.
(٤) انظر الحديث في البخاري (التوحيد: ٣١ والمرض والطب: ١) وفي الفائق ١: ٣٧٥ ورواه الفراء كالحافة، بالحاء والفاء، وفسره بطاقة الزرع.
(٥) س: الحديث مروي.
(٦) ط س: القصبة.
(٧) ط س: وألفها.
1 / 6