وفي آخر سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، عزم سيف الدولة على ضرب الروم في بلادهم، فعقد الراية لأبي فراس على القسم الأعظم من جيشه، وسار الجيش، ودمر كثيرا من الحصون، وأملى قائد الروم لسيف الدولة وخدعه، حتى انتهى جيشه إلى «خرشنة» فدهمه عندها بجمع لا يحصى، فحاول التقهقر ولكنه رأى أن الروم سدوا عليه الطرق والمضايق. وكان قرعويه بجانب أبي فراس، وكان الخبيث يعرف منفذا واحدا أغفله الروم، فرأى الفرصة وقد سنحت للقضاء على أبي فراس، فأرشده إلى منفذ آخر يسمى «مغارة الكحل» فانطلق أبو فراس نحوه بجواده فسقط عليه الروم من كل جانب، فلم يستطع عن نفسه دفعا، فاقتادوه أسيرا، وفر قرعويه مع سيف الدولة في ثلاثمائة غلام، بعد أن فقد رجاله وسلاحه، وكانت هزيمة منكرة.
اقتاد الأعداء أبا فراس إلى قلعة «خرشنة»، فسار بينهم فوق جواده مرتفع الرأس، ثابت القلب، يتحدى الكوارث، ويسخر من طوارق الأيام، وكانت القلعة رومانية البناء ضخمة حصينة شاهقة، تشرف من أكمة على نهر الفرات. فأدخلوه بها والسرور يملأ جوانحهم، والزهو ينفخ خياشيمهم؛ لأنهم ظفروا بصقر العرب وفارسهم المغوار الذي طالما شتت جموعهم وفزع قلوب شجعانهم. ودخل أبو فراس حجرته المظلمة الضيقة المنافذ وهو يقول:
إن زرت خرشنة أسيرا
فلكم حللت بها مغيرا
من كان مثلي لم يبت
إلا أميرا أو أسيرا
ليست تحل سراتنا
إلا الصدور أو القبورا
وبقي في الأسر أكثر من شهر، وهو في كل يوم يفكر في الفرار فلا يجد إليه من سبيل. وكان يخرج في أصيل كل يوم ممتطيا جواده ليدور في فناء القلعة، وليطل على الفرات، فكان إذا أطل عليه رأى بينه وبين القلعة ما يزيد على خمسمائة ذراع، فيحار بصره ويدركه اليأس. ولكن طائفا من خيال نجلاء كان يبدد هذا اليأس، ويسخر من هذا الارتفاع الشاهق، ويزعم أن للحب أجنحة يطير بها العشاق إلى من يحبون، كان طيف نجلاء لا يفارقه في صحوه ومنامه، وكان اسمها لا يفتر عنه لسانه، وكانت ذكراها لا ترحل عن فكره ولا تريم. رآها مرة في نومها وهي باكية غاضبة، فلما حاول الدنو منها نفرت منه، وقالت: إن الذي لا يستطيع أن يقرب مني في اليقظة، ليس أهلا لأن يقرب مني في المنام، فهب من نومه جزعا حزينا، وخرج إلى فناء القلعة فامتطى جواده، وصمم على الفرار، ولو لقي في سبيله الموت. فوقف بفرسه على صخرة ونظر تحته فرأى الفرات من بعد سحيق وهو يمور ويزمجر كأنه الأسد ينتظر فريسته، فنزل وعصب عيني الفرس، ثم امتطاه وجمع قوته، واستحث عزيمته، واستنجد بكل ما في نفسه من أمل، ونخس الجواد، وصاح به صيحة يعرفها، فوثب كأنه النسر المنقض، وبقي في الهواء زمنا، وأبو فراس فوقه، وقد طوق عنقه بذراعيه كأنه الحرباء فوق فرع شجرة في يوم عاصف، حتى سقط في النهر فمات الفرس من شدة الصدمة، وأفاق أبو فراس من ذهوله، فرأى الموج يتواثب حوله ثائرا صاخبا، فاسترد عقله وعزيمته، وأخذ يسبح كما يسبح الحوت المذعور، وحراس القلعة ينظرون إليه من أعلاها مشدوهين مأخوذين، وقد قيدت الحيرة أرجلهم، وطوحت المفاجأة بصوابهم، فلما بلغ الشاطئ انطلق يعدو كالظليم. ويشاء القدر أن يمر به في هذه اللحظة فارس من الروم، يمشي الهوينى، فيثب عليه أبو فراس كالذئب الجائع فيسقطه عن جواده، ثم يعلوه ويندفع به نحو حلب، وقلبه يكاد يطير من بين جنبيه، واستمر يغذ
6
Halaman tidak diketahui