عندما تبلج صباح اليوم الخامس من شهر رجب سنة ستة وثلاثين وثلاثمائة، كان أبو فراس قد أعد عدته للسفر، فشدت الحمول على الإبل، وكان يحمل متاعه أربعون بعيرا، سار خلفها الرجال بين فارس وراجل، وقبل أن يمتطي جواده وقف ليودع أمه فأخذت تقبله في جبينه مرات، وتشد ذراعيه القويتين إليها كالمباهية المفاخرة، وتقول: سر أبا فراس وأتمم صحيفة المجد التي وقف الموت بأبيك دون إتمامها، سر يا بني فإنما ولدت لصهوات
1
الجياد، ومصارعة الأهوال. سر ودعني هنا أهنأ بأخبار انتصارك وفوزك، وبعد أن نثرت عليه دعواتها سار أبو فراس ووراءه العبيد والخدم، وقد تجنب الطريق إلى حلب ليمر بمنزل له في قلبه أكبر منزلة، حتى إذا حاذى دار نجلاء نظر فإذا نافذة تفتح، وإذا وجه مشرق وضاح يحييه بابتسامة كابتسامة الربيع، كانت زاده في سفره الطويل.
وكانت الطريق إلى حلب ملتوية بين ارتفاع وانحدار، تزينها المروج الخضر وأشجار الزيتون والفاكهة المنتثرة بين السهول والهضاب، وكان الوقت ربيعا، والنسيم رقيقا، فأطلق لفرسه العنان، وهو ينشد الشعر، ويتغنى بزوجه الجميلة، ويبني الآمال الكبار على اتصاله بسيف الدولة، وحين أدركه الليل أوى إلى فندق فنال من طعامه وشرابه، ثم استراح به إلى الفجر، وواصل السير في طليعة النهار، حتى بلغ حلب في وقت العشاء الآخرة، فحط رحاله في دار ابن عمه أبي زهير الحمداني، وكانت بالقرب من «ساحة الناعورة» ليستقبل سيف الدولة في الصباح، وكانت مدينة حلب من أعظم مدن الشام في ذلك الحين، وكانت تلي دمشق في المنزلة، تقع على نهر قويق، ويحيط بها سور عظيم سامق بني بالحجر الأبيض الضخم، به ستة أبواب، وإلى جانب السور قلعتها الحصينة التي تطل على المدينة شامخة متحدية، تربض أمامها كما يربض الأسد أمام العرين، وإلى الغرب منها جبل الجوشن، والمدينة فسيحة الطرق، فخمة القصور ذات الطابع البيزنطي، كثيرة المساجد والفنادق والمتاجر والحدائق والبساتين، وفي وسطها دار علوة التي يقول فيها البحتري:
تناءت دار علوة بعد قرب
فهل ركب يبلغها السلاما؟
وجدد طيفها عتبا علينا
فما يعتادنا إلا لماما
2
وربت ليلة قد بت أسقى
Halaman tidak diketahui