لا أريد ان أتحدث عن ويلات الحرب الأولى إلا بمقدار ما تتصل بحكاية أبطالنا الثلاثة: الخوري، والآغا، وملك العسل.
عم الجوع الإقليم المسيحي في لبنان فأكل الناس ما لا يؤكل، ولا أسمي ما أكلوه لئلا يتقزز القارئ. ما عفوا عن شيء حتى الجيف، وما في الفرث
4
من حبات شعير غير مهضومة. لم تعطهم الدولة العلية قوتا، بل صادرت كل شيء عندهم إلا الحبوب؛ لأنها ليست عندهم ... صادرت البقر وصادرت الخيل والبغال والحمير، والزيت والدبس، وبكلمة عامة: أخذت ما أبقاه الجراد في تلك الحرب.
كانت تتهم المسيحيين باتصالهم السري بالحلفاء، فتسوق إلى سجونها من تأخذهم بالظنة، ومنعت الأنوار أن تطل من الشبابيك؛ لأنها ظنت أن المسيحيين يتصلون بدوارع الحلفاء بلغة الأضواء. وأخيرا انتهت إلى منع قرع الأجراس، ثم أمرت بإنزالها عن قبابها وتكسيرها ولكنها لم تكسر.
ولما نفي البطريرك وماتت امتيازات جبل لبنان صارت شئون الأوقاف في لبنان مثلها في الولايات المحيطة به؛ فاستيقظ ضمير خوري مسرح المنتقم، فشكا إلى الديوان العرفي في عاليه طنوس فارس، متهما إياه أنه أخذ له 40 زير زيت. الزير يسع 80 رطلا شاميا من الزيت. وأنه وأنه ... إلخ.
ثم استيقظت فيه شهوة الولاية على الوقف التي فقدها، فالتجأ إلى بعض وجوه بيروت النافذين عند رئيس الديوان العرفي رضا باشا، وكذب على أصحابنا، الطيبي القلب، فظنوه مظلوما فأنجدوه ببعض المال، وانتهى الأمر عند الاستيفاء بالالتجاء إلى قاضي الشرع، بعد سقوط ولاية البطرك، فباع الخوري مسرح الوقف إلى الحاج حسين خريرو، وسجل البيع عند قاضي الشرع في برج البراجنة.
وما تنعم الخوري بضعة أسابيع بمال الأيتام؛ حتى أصيب بالزنطاري وقضي عليه في بيته بضيعته مسرح، ودفن في ذلك البيت دفنة غير مكرمة ... لم يحضرها غير أخيه، الذي طمره طمرا في قرنة بيته، ولم يعاونه أحد من أهل القرية على مواراة جثته، وما سبب قلة هذه المروءة إلا لأن أحدا منهم لم يسلم من شظايا دعاويه الزورية في الديوان العرفي.
أما قرياقوس، فبعد أن خربت مملكته وباع كل ما يملك في عين كفاع، نقل إلى البترون حيث عاله الذي اشترى عقاراته كلها حتى بيت السكن، ثم مات محترقا في غرفة أسكنه فيها دائنه.
وأما فارس آغا، أحد فرسان حكايتنا الثلاثة، فوشى به أيضا الخوري مسرح مستندا من منعه من المرور بلبنان، فأخذه عسكر الدراغون مكبلا إلى القشلي في بيروت.
Halaman tidak diketahui