وانصرف الحاضرون، وهم يرددون بينهم: قرياقوس رجال، جاوب الآغا.
الفصل الحادي عشر
الأموال الأميرية
اللبنانيون الأصليون، أي سلالة الفينيقيين والسريان، شعب شمالي الأصل، وهو أقرب إلى الآرية منه إلى السامية. هجرته الأولى ونشأته الصناعية التجارية هي التي فصلته عن أخيه العربي. فاللبناني كان يعيش على ما تصنعه يده، والعربي كان ينتظر ما تنتجه له الطبيعة من أنعام ونبات؛ ولذلك عير جرير الفرزدق بصناعته. من هنا جاء الفرق بين الفرعين، ورب أخ إذا شط مزاره
1
صار غريبا أو كالغريب.
عاش اللبناني أولا، والبحر أمامه والجبال الشامخة وراءه. رأى الأرض الأولى التي وطئها خالية إلا من الشجر، ففكر باستعمار البحر ذي الخير الكثير، وساعده أرزه وسنديانه على الخلق؛ فكان سفر تكوين جديد عجيب. أبدع السفينة التي مكنته من تسكين البحر المعربد فدان
2
له، وصار مسرحا لعبقريته؛ وهكذا صار هذا الميليمتر الجغرافي مالكا للدنيا بأسرها، واستغل مطاميرها ومناجمها البرمائية. لقد أدت هجرته السندبادية الحقيقية إلى احتلاله أقطار المسكونة واستعمارها اقتصاديا. ونما فيه هذا الحب التجاري، فولد في قلبه حبا للهجرة لا يوصف.
ونامت تلك المحبة في عروقه دهورا، حتى عادت فاستيقظت في القرن التاسع عشر، فأثمرت مالا وعلما وأدبا وثقافة، فكان من اللبنانيين في كل ميدان فرسان عمران وحضارة. فتح اللبناني أمريكا مرتن: الأولى يوم كانت مصنوعاته من ذهب وفضة وبرونز، وزجاج ولؤلؤ ومرجان، وبرفير وأرجوان. والمرة الثانية يوم هاجر اللبناني في القرن التاسع عشر، واستحال من بغال وحمار ينام في العراء، إلى «خواجه» يشرف على مصانعه وينمي ثروته، حتى بلغ اليوم أبعد الأشواط في ميادين الأعمال. اتقدت في صدره شرارة عرق الأصل، فكان الفاتح الشرقي الأول، ثم بارى رجال الأمريكتين وأوروبا وأفريقيا في هذا الوقت. مشت من بنيه موجة جارفة، فاكتسح المسكونة معتمدا على عبقرية صناعية تجارية أصيلة، والعبقرية قلما احتاجت إلى العلم، بل هي تخلقه متى احتاجت إليه.
Halaman tidak diketahui