Rama-Rama dan Kereta Kebal dan Cerita-Cerita Lain: Pilihan Cerita Pendek dari Karya-Karya Penuh oleh Ernest
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست
Genre-genre
مقدمة
الفراشة والدبابة
قطة تحت المطر
التحول
المخيم الهندي
الطبيب وزوجة الطبيب
حاضرة الدنيا
يوم انتظار
تلال كالأفيال البيضاء
قصة أفريقية
Halaman tidak diketahui
مكان نظيف حسن الإضاءة
ثلوج كليمنجارو
الآن أرقد لأنام
عشرة هنود
الأسد الطيب
الثور الوفي
مقدمة
الفراشة والدبابة
قطة تحت المطر
التحول
Halaman tidak diketahui
المخيم الهندي
الطبيب وزوجة الطبيب
حاضرة الدنيا
يوم انتظار
تلال كالأفيال البيضاء
قصة أفريقية
مكان نظيف حسن الإضاءة
ثلوج كليمنجارو
الآن أرقد لأنام
عشرة هنود
Halaman tidak diketahui
الأسد الطيب
الثور الوفي
الفراشة والدبابة وقصص أخرى
الفراشة والدبابة وقصص أخرى
مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
جمع وترجمة
ماهر البطوطي
كان يوما ما زلت أذكره من عام 1961م حين قررت على نحو قاطع أن أتخذ الكتابة والترجمة مهنة أساسية لي. كنت أدرس آخر سنة في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وقد تشبعت بالمقررات الدراسية، خاصة في تلك السنة، وتأثرت برواية «جيمس جويس»؛ «صورة للفنان في شبابه»، التي قرر بطلها نذر نفسه للأدب والفن والجمال بكل أشكاله. كذلك درسنا «همنجواي» وحياته وأسلوبه الجديد في الكتابة. وكنت أتابع ما يصدر من كتب مهمة خارج مقررات الدراسة، فتأثرت بأدب «ألبير كامي» وفلسفته، وكتاب «اللامنتمي» الذي كتبه «كولن ولسون» وأصبح حديث الأدباء.
وكنت قد بدأت القراءة وجمع الكتب منذ كنت في العاشرة من عمري، فنشأت على كتب «توفيق الحكيم» و«طه حسين» و«نجيب محفوظ» و«يوسف السباعي» وشعر «أحمد شوقي». وبدأت أيضا في جمع الكتب والسلاسل الجميلة التي كانت تصدر في مصر في الخمسينيات، ومنها: «الهلال» و«كتاب الهلال» و«روايات الهلال»، و«اقرأ»، و«كتب للجميع»، وكتب ومطبوعات «كتابي» و«الكتاب الذهبي»، وغير ذلك.
وبعد التخرج في الجامعة، عرفت أن من يريد أن يتخذ الكتابة مهنة، عليه إجادة لغته العربية إجادة تامة، وكذلك ألا يعتمد في معيشته على مكافآت الكتابة؛ فدرست القرآن الكريم وتدبرت آياته ولغته، وقرأت كتب النحو المتاحة، وما طالته يدي من كتب التراث العتيقة. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن شغلت وظيفة مناسبة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة ، تترك لي وقتا كافيا بعدها للقراءة والكتابة. ولما كنت أريد الكتابة في النقد الأدبي، كانت أوائل مقالاتي نقدا وعرضا لما أحببته من الكتاب والأدباء. ثم جاءت الترجمة وأفسحت لها بعض الوقت أولا، ثم زحفت على معظم الوقت بعد ذلك. وكان أول كتبي المنشورة عن «إرنست همنجواي»، ثم رواية «جيمس جويس» التي أحببتها. وبدأت في دراسة اللغتين الإسبانية والفرنسية قبل أن تنتدبني الوزارة للعمل ملحقا ثقافيا في مدريد، حيث قضيت أكثر من أربع سنوات.
Halaman tidak diketahui
وبعد عودتي من إسبانيا، قضيت أربع سنوات أخرى بالقاهرة أزود المجلات في القاهرة وبيروت بمقالاتي المؤلفة والمترجمة، قبل أن أتوجه إلى نيويورك للعمل مترجما ثم محررا بالأمانة العامة للأمم المتحدة. وقد عكفت على الكتابة والترجمة عن الأدب المكتوب بالإسبانية من شعر ورواية ومسرحية، حتى أساهم في تشييد جسر ثقافي للقراء العرب إلى تلك الثقافة الثرية. ولكن لم أنس اللغات الأخرى، فترجمت لشاعر الشعب الأمريكي «والت ويتمان» وبعض آثار اللغة الفرنسية، وزاد إنتاجي بعد التقاعد من العمل حتى قاربت أعمالي ثلاثين كتابا.
ولما كانت الكتب الورقية، رغم أهميتها، تذوي وتغيب حروفها بفعل الزمن، فقد رحبت بقيام مؤسسة «هنداوي» بوضع كتبي رقمية على النت لتكون متاحة لمن يريد قراءتها، والمؤسسة بذلك تضطلع بعمل مهم في نشر الثقافة وإتاحتها وحفظها على مر السنين.
مقدمة
حياة همنجواي وفنه
لعل أحدا من الروائيين الذين يكتبون بالإنجليزية لم يحظ من الشهرة وسعة الانتشار في العصر الحديث قدر ما حظي الكاتب الأمريكي العظيم إرنست همنجواي. فبالإضافة إلى المحصول الوافر من الروايات والقصص التي تركها همنجواي وراءه عند مماته في 1961م، فإن حياته تشكل جانبا مستقلا، له من الأهمية ما لأدبه بالنسبة لقرائه ولدارسيه، وهذا ما حدا بالنقاد إلى الاهتمام بحياته والأحداث الكثيرة التي تزاحمت فيها قدر اهتمامهم بنصوصه الأدبية. وعلاوة على ذلك فإن أدب همنجواي وكتاباته مغموسة كلها بدم الحياة التي عاشها، فهو يستمد أدبه من تجاريب حياته، وتدفعه هذه الحياة إلى تطوير أدبه ومزجه بتجاربه. وقد دفعت الحياة الغريبة التي عاشها هذا الكاتب العظيم بعض النقاد إلى الحديث عن الرغبة في الموت التي تتحكم في لا وعي همنجواي وأعماله، وطبقوها على انغماسه الغريب في الحروب والمعارك، وفي رحلات الصيد الخطرة، ومصارعات الثيران الدموية. وقالوا أيضا: إن همنجواي كان يريد قهر الخوف من الموت، ولذلك لم يكن يحب انتظار الموت بل يبحث عنه في مكمنه.
وقد ابتكر همنجواي أسلوبا فريدا في الكتابة، يعتمد على التخلص من المحسنات البديعية والتزويقات اللفظية والإطناب، ويتجه إلى طريقة الاقتصاد في التعبير
1
والأسلوب البرقي الذي يحاول إيصال التجربة إلى القارئ عن طريق التركيز والمباشرة. وبالإضافة إلى ظهور همنجواي بهذه الطريقة في بناء لغته وفي بناء رواياته، فإن له رؤيا خاصة في الحياة وفي الفن، اجتهد أن يوصلها إلى قرائه من خلال قصصه ورواياته.
حياته وأعماله الأدبية
ولد إرنست ميلر همنجواي، مغامر عصره، في يوم 21 يوليو 1899م، في مدينة يطلق عليها عادة اسم عاصمة الطبقة الوسطى وهي «أوك بارك» من ضواحي شيكاغو. وكانت أمه من النساء ذوات النشاط الديني الفعال، شغلت وقت فراغها بالعزف في الكنائس وفي المحافل الدينية. أما أبوه فهو الدكتور كلارنس إدموندز همنجواي، وكان طبيبا محليا معروفا، يفضل الذهاب للقنص وصيد السمك في منزل العائلة الصيفي بجانب خليج «هورتون» على الاشتغال بمهنته، وعكف والده منذ صغره على تلقينه فنون الهوايات التي شغف بها هو نفسه، فأهداه في عيد ميلاده الثالث قصبة للصيد، كما كان يعلمه فنون الرماية منذ كان في المهد صبيا. ومما يروى عنه: أنه اشترك وهو في هذه السن في الاستعراض العسكري في المدينة، وسار وقد علق مسدس جده إلى جانبه وهو يختال وسط الجنود في مشية عسكرية صارمة. ولكن والدته لم تكن راضية عن تلك التنشئة المبكرة، وكانت تعد لابنها مشروعات مخالفة بالنسبة لمستقبله، مما جعلها تعارض والده على طول الخط وتسخط على ما يفعله مع ابنهما ... ويبدو أن همنجواي لم يغفر لها بعد ذلك هذا الموقف إطلاقا، كما يبدو أن ضيقه منها قد انعكس في كل ما كان يكتبه ويخلقه من الشخصيات النسائية في رواياته وقصصه .
Halaman tidak diketahui
وفي العاشرة من عمره، أهداه والده بندقية، وأهدته والدته آلة تشيللو للعزف، ولكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يكن يميل لعزف الموسيقى، وكان يهرب من دروس العزف ليصطاد السمك، وكان من نتيجة هذا الشد والجذب للصبي بين عالم والده وعالم والدته أن أصبح همنجواي شابا عاكفا على التفكير، شديد الحساسية في نفس الوقت. وقد قال مرة بعد ذلك عن أيام حياته الأولى: «إن أفضل مدرسة للكاتب هي طفولة شقية» وقد تسببت هذه الأيام في إصابته ببعض «التهتهة الخفيفة» في كلامه، لازمته طوال حياته.
وتلقى همنجواي تعليمه في مدرسة «أوك بارك»، حيث التحق بفريق كرة القدم بها. وفيها ظهر ميله للكتابة لأول مرة، فكان يكتب بعض القصص القصيرة على الآلة الكاتبة، عن تجاربه في الصيد وعن الهنود الحمر، وينشرها في المجلة الأدبية للمدرسة. وقد اشتغل وقت فراغه في هذه الأيام والتحق بمدرسة لتعليم الملاكمة.
وبعد أن حصل على شهادته الثانوية من المدرسة عام 1917م، كانت الولايات المتحدة قد دخلت الحرب العالمية الأولى التي اندلعت نيرانها منذ سنوات ثلاث في أوروبا، وهجر همنجواي كل مشروعاته بشأن الجامعة وبشأن المستقبل وتطوع في الجيش، ولكنه رسب في الكشف الطبي بسبب عيب كان قد أصاب عينه في إحدى مباريات الملاكمة. وفشلت محاولات همنجواي في الالتحاق بأي سلاح من أسلحة الجيش، وبعدها نجحت مجموعة من الأكاذيب، ونقص في الموظفين إبان الحرب، ونفوذ أحد أعمامه في حصوله على عمل في صحيفة «كانساس سيتي ستار» التي كانت تعتبر أيامها أكبر مدرسة للصحافة في الغرب الأمريكي. وقد تعلم فيها كيف يقص الخبر بأسلوب الصحيفة المعروف عنها: الأحدوثة المباشرة المقتضبة والفقرات القصيرة واللغة القوية. وقد قال همنجواي بعد ذلك عن هذه الفترة من حياته: إنه قد تعلم في هذه الشهور عن الكتابة وعن الصحافة أكثر مما تعلمه في أي فترة أخرى من فترات حياته. وبعدها قرأ عن حاجة الصليب الأحمر العاجلة لمتطوعين للعمل على الجبهة الإيطالية، فتقدم لهذا العمل وقبل فيه في أبريل 1918م كسائق لعربة إسعاف ، وكان أصغر المتطوعين سنا فلم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من عمره. وارتحل من نيويورك إلى باريس عن طريق البحر، ثم أرسلوا به إلى ميلانو حيث عمل في خط النار. وبعد أسبوع من الأحداث المثيرة، أصابته قنبلة من مدفع مورتار نمسوي حين كان يحاول إنقاذ أحد الضباط الإيطاليين الجرحى، وأطاحت بطاسة ركبته وجرحته في رأسه. وفي مستشفى «ماجيوري» بميلانو، أجروا له سلسلة من العمليات أخرجوا بها 227 شظية من ساقه. ولم يخرجوا كل الشظايا رغم ذلك، فقد أجروا له عملية أخرى عام 1959م أخرجوا بها من ساقه شظية أخرى استقرت فيها منذ ذلك الوقت. وفي مستشفى ميلانو تعرف على ممرضة إنجليزية حسناء من ممرضات الصليب الأحمر، عقد معها علاقة عاطفية ألهمته فيما بعد حبكة روايته المشهورة «وداعا للسلاح». وقد طاف همنجواي بعد شفائه بصفوف القتال على الجبهة الإيطالية مرتديا سترة عسكرية أمريكية ليبعث الحماس في قلوب المحاربين ويقص عليهم قصة بطولته في الحرب، وكان نتيجة هذا أن أنعمت عليه السلطات الإيطالية بالميدالية الفضية للشجاعة العسكرية ووسام الاستحقاق الحربي.
وعاد همنجواي في 21 يناير 1919م إلى نيويورك واستقبل فيها استقبال الفاتحين، فقد كان من أوائل العائدين الذين اشتركوا في الحرب العالمية الأولى من الأمريكيين. ولكن جو بلدته «أوك بارك» بدا له خانقا قاتلا، خاصة الآن بعد أن ذاق طعم الحرية والإثارة، فدفعه ذلك إلى الاستقلال بحياته عن والديه، وعاش وحده في شيكاغو بعد أن حصل على عمل يقيم به أوده عن طريق كتابة بعض القطع الصحفية لجريدتي «تورنتو ديلي ستار»، «وتورنتو ستار ويكلي». وكان يقسم وقت فراغه ما بين صالة الألعاب الرياضية، والتمرس على فنون الكتابة. وفي أثناء رحلة له إلى «ميتشجان» في هذا الوقت، تعرف على فتاة أمريكية ذات موهبة في العزف على البيانو تدعى «هادلي ريتشاردسون» تزوجها أخيرا في سبتمبر 1921م. واقترح همنجواي على أصحاب الصحيفتين اللتين يعمل فيهما أن يعينوه مراسلا لهما في باريس، حيث يوافيهم بمقالاته وقصصه من هناك، ووافقوا على ذلك. وحمله صديقه شرود أندرسون، بخطابات توصية إلى معارفه الأدبيين في باريس، أمثال جرترودشتاين وعزرا باوند، وتعد سنواته الأولى هذه في باريس من أخصب أيام عمره، قضاها طوافا في البلاد والمدن الأوروبية، يعقد الصداقات مع شخصيات الأدب والفن المشهورين. وفي باريس تعلم همنجواي التمييز بين الأصل والمزيف، بين العبقرية والتصنع، وتعلم كما قال بنفسه: «كيف يكتب القصص بالتطلع إلى اللوحات في متحف اللوكسمبرج في باريس»، وعندما ألمح له الرسام بيكاسو عن مصارعات الثيران في مدريد، صمم همنجواي على خوض هذه التجارب الفريدة، فشد رحاله على الفور هو وزوجته إلى إسبانيا حيث شهد أول عرض لمصارعات الثيران في حياته، وقضى بها عدة أسابيع قبل أن يعود إلى باريس. وكانت هذه نقطة البداية في حبه العريض للبلاد الإسبانية ولمصارعة الثيران التي لازمته طوال حياته ولم يكد يخلو كتاب من كتبه من أي منهما.
وبعد ذلك أبرقت له الصحيفة بالتوجه إلى إيطاليا لتغطية أخبار المؤتمر الاقتصادي في «جنوه»، وبعدها طار إلى القسطنطينية ليغطي أحداث الحرب التركية اليونانية التي استعر أوارها في تلك الأثناء. وفي القسطنطينية شهد فظائع انسحاب الجيش اليوناني من المدن التركية وتقدم الجيوش التركية للاستيلاء على هذه المدن؛ وقد ألهمه هذا الانسحاب الوصف الذي ورد بعد ذلك في مشهد انسحاب من «كابريتو» في «وداعا للسلاح» ... وبعد عودته من تلك المهمة بقليل طار إلى لوزان لتغطية مؤتمر السلام هناك. وهكذا تحقق حلم همنجواي بأن أصبح مراسلا أمريكيا جوالا في البلاد الأوروبية.
واستدعى همنجواي زوجته هادلي لتلحق به في لوزان. وفي الطريق وقعت لها حادثة مفجعة؛ إذ فقدت جميع مخطوطات القصص التي كان زوجها قد كتبها طوال السنوات الأربع السابقة، وكانت قد وضعتها كلها في حقيبة حملتها معها إليه. وقد أثر هذا الفقدان الأدبي في همنجواي فترة طويلة من حياته ولم ينسه مطلقا. وطار همنجواي مرة أخرى إلى ألمانيا لكتابة تحقيق صحفي عن إعادة احتلال «الروهر» بالقوات الألمانية. وفي باريس، أجرى همنجواي كتابه الأول، مجموعة من القصص والقصائد بعنوان «ثلاث قصص قصيرة وعشر قصائد»
2
كما كان يزيد من دخله بالمراهنة عن سباق الخيل الذي برع فيه وربح من ورائه الكثير من المال. ولكنه اضطر إلى العودة لجريدتي «ستار» و«ستار ويكلي» حين أشرفت زوجته على وضع طفلها جون، وأصرت على أن تتم الولادة في موطنها بالولايات المتحدة. وبعدها بفترة قضاها في جو من الضيق و«الإقليمية»، استقال من العمل، ورحل هو وزوجته وطفله إلى باريس حيث خلع عنه أخيرا معوقات الكتابة، ونزل إلى الساحة ليحارب معركته في سبيل الجودة والظهور كمؤلف له قيمته وأصالته. وكانت باريس أيامها تموج بالكتاب والفنانين الذين يأتون بكل مستحدث مستطرف، يغرقون همومهم في الجنس والخمر والسهر طوال الليل. وقد أسمتهم جرترود شتاين بالجيل الضائع، ولكن همنجواي كان يمثل بينهم شخصا مختلفا، فقد أضفت عليه جديته بشأن عمله في الكتابة وتجاربه في الحرب صفة خاصة من النضج. وانضم في هذا الوقت إلى الجماعة التي كانت تلتقي في مكتبة شكسبير التي تملكها شابة أمريكية تدعى «سيلفيا بيتش» في الحي اللاتيني، وتعرف هناك بالمشهورين من أمثال جيمس جويس، وجون دوس باسوس، وأرشبولد ماكليش، بالإضافة إلى جرترود شتاين، وعزرا باوند. وكانوا يعقدون الندوات التي يناقشون فيها مسائل الفن والأدب وقضاياهما.
ومرت بهمنجواي فترة قاتمة في أيامه تلك في باريس، فكانت المجلات ترفض قصصه الواحدة بعد الأخرى، ولم يكن يجد ما يقيم أوده هو وزوجته. ولم يفت هذا من عضده، بل لم يمنعه عن الاستمتاع بكل ما كان يستمتع به من صيد ومن سباق الخيل وسباق الدراجات، ونجح أخيرا بعد ذلك في نشر كتابه الثاني، وهو مجموعة من القصص القصيرة ظهرت تحت عنوان «في أيامنا».
3
Halaman tidak diketahui
وقد صمم همنجواي على أن ينقل تجربته في الهيام بمصارعة الثيران إلى رفاقه، فخرجوا جميعا في عام 1925م إلى إسبانيا لحضور مهرجان «سان فرمين» في بمبلونة، وهو تقليد اتبعه بعد ذلك طوال حياته. وفي هذه المرة، تعرفت الجماعة بفتاة إنجليزية لعوب تدعى «ليدي داف توايسدن»، وقع أحد أفراد الجماعة وهو «هارولد لويب» في غرامها وصار يشك في علاقتها بهمنجواي وبأفراد آخرين من الجماعة، رغم أنها كانت مخطوبة لواحد من الأثرياء الأمريكيين ولا تخفي علاقاتها بكثير من الأفراد الآخرين. وطوال أيام هذا المهرجان ومباريات مصارعة الثيران التي شهدتها الجماعة، كان إرنست يشحذ حواسه كلها لالتقاط دقائق الأحداث التي تدور من حوله. وقد دون كل هذا بعد ذلك في روايته «وتشرق الشمس ثانية».
4
وقد بدأها في يوم عيد ميلاده السادس والعشرين، وكتب فيها في بلنسية وفي مدريد ثم في باريس، وأتمها في مدى ستة أسابيع. وفي الفترة التي كان ينقح فيها الرواية، نشرت روايته الأولى المسماة «سيول الربيع»
5
ولكنها لم تلق حماسا من القراء ولا من النقاد.
وكانت حياته الزوجية مع هادلي قد انتابها الفتور، كما شابها كثير من الشجارات التي نشأت من غيرة هادلي من علاقة إرنست بالممرضة الإنجليزية التي تعرف عليها في مستشفى ميلانو، والتي استمرت بعد ذلك عن طريق الخطابات، وعلاقته المستحدثة مع «ليدي داف توايسدن». وانتهى به الأمر أن انفصل عن هادلي، واتخذ له مسكنا يقيم فيه وحده، ثم انتقل إلى نيويورك مع امرأة من معارفه مال إليها تدعى «بولين بفيفر» الكاتبة الصحفية بمجلة «فوج» النسائية. واستمر همنجواي يعمل في نيويورك في تنقيح مخطوطة «وتشرق الشمس ثانية»، ودفع بها أخيرا إلى الناشر، وظهرت في أكتوبر 1926م ونالت الرواية نجاحا ساحقا فور ظهورها، وأرست دعامة همنجواي كواحد من أعلام الأدب الأمريكي البارزين، وجذب انتباه الجماهير ككاتب وكإنسان. وقد دفع هذا النجاح الناشر «سكريبنر» إلى إخراج كتاب قصص قصيرة له، به أربع قصص جديدة، علاوة على مختارات من قصصه القصيرة التي نشرت سابقا، تحت عنوان «رجال بلا نساء».
6
وحصل همنجواي على الطلاق من هادلي في عام 1927م، وتزوج بعدها حبيبته الجديدة بولين. وقد اضطر لإتمام هذا الزواج أن يتحول من المذهب البروتستانتي إلى الكاثوليكية؛ لأن بولين كانت من هذا المذهب. وبدأ بعد ذلك مباشرة في الإعداد لأقرب المشروعات حبا لفؤاده، وهو كتابة رواية عن تجاربه في الحرب العالمية الأولى.
ومرة أخرى، اضطر همنجواي إلى العودة إلى الولايات المتحدة حين أشرفت زوجته الجديدة على الوضع، فأقام فترة في «كي وست»، ثم نزح إلى «كانساس سيتي» حيث دخلت بولين المستشفى . ومرت الزوجة بتجربة عصيبة؛ إذ تعسرت الولادة وأشرفت على الموت، واضطروا إلى إجراء عملية قيصرية لإخراج الوليد الجديد من بطنها، وسموه «باتريك». ومرت بهمنجواي تجربة أعصب وهو ينتظر خارج المستشفى نتيجة العملية. وقد ظهرت هذه التجربة بعد ذلك بتفصيل شديد في الرواية الجديدة التي كان يكتبها آنذاك «وداعا للسلاح».
7
Halaman tidak diketahui
كذلك ألمت بهمنجواي أزمة روحية في هذه الفترة نتيجة لوصول الأنباء إليه بانتحار أبيه الطبيب بمسدس الجد الذي كان إرنست يحمله وهو طفل ويسير به مختالا في الاستعراض العسكري في «أوك بارك».
وتوطدت أقدام همنجواي في عالم الأدب بنجاح «وداعا للسلاح» التي نشرت في سبتمبر 1929م. وعكف بعدها على كتابة بعض قصصه القصيرة، أشهرها قصص القاتلان
8 «اليوم جمعة»
9
الهنديان
10
ثم قضى الصيف التالي في جولة في إسبانيا في ركب الماتادور المشهور سيدني فرانكلين، خرج منها آخر الأمر بكتاب شامل مشهور عن مصارعة الثيران، وكان بذلك أول كاتب يقدم هذا الفن العظيم للعالم الأنجلوسكسوني، بكتابه الذي يشبه دائرة معارف عن مصارعة الثيران «موت في الأصيل».
11
وقضى همنجواي فترة طويلة في منزله في «كي وست»، وابتاع يختا للصيد أسماه «بيلار»، استخدمه في رحلات صيد ناجحة. وكان يبحث عن آفاق جديدة يبسط عليها ظل خياله، ووجد أنه لن يجد متعة بعد ذلك في مناطق إسبانيا وباريس إلا بعد أن يجددها بمشاهدة الجانب الآخر من العالم. وعلى هذا ففي أواخر عام 1933م، شد رحاله هو وزوجته وأحد أصدقائه إلى أفريقيا، مصطحبين مرشدا أصبح بعدها صديقا حميما لهمنجواي هو «فيليب برسيفال». وطاف همنجواي في هذه الرحلة بممباسة وكينيا وأوغندا، ومر بتجارب هامة مركزة في كيفية صيد الأسود والنمور والفيلة، وخاصة وحيد القرن. وعاد إلى «كي وست» في ربيع 1943م وذهنه محمل بذكرياته الأفريقية. ومرت به هناك تجربة صيد فريدة اختزنها في ذاكرته إلى أن حانت لحظة إخراجها في عمل فني متكامل. ففي أثناء جولة له على قاربه بيلار للصيد، اشتبكت قصبته بسمكة تونة ضخمة، قال من شاهدها إنها تربو على الألف رطل، وظل يطاردها قرابة يوم كامل وهو يجاهد ألا تفلت منه. وتمكن أخيرا من صيدها وجرها إلى جانب قاربه. ولكن بعد أن بذل هذا المجهود الجبار الذي يفوق الطاقة في صيدها، هجمت عليها أسماك القرش ونهشت لحمها وتركت له سلسلتها الفقرية ورأسها تسبح إلى جانب القارب. وكان يشبع النشاط والمغامرات في حياته برحلات صيد من هذا النوع، وبرحلات سريعة بقاربه عبر الخليج إلى كوبا. ولكن القدر كان يخبئ له مغامرة جديدة من نوع المخاطرة التي كادت تودي بحياته في الحرب العالمية الأولى. ففي يوليو من عام 1936م نجح أحد الضباط الإسبان في تدبير انقلاب ضد حكومة الجمهوريين في مدريد، وانحاز قسم كبير من الجيش الإسباني إلى جانبه، مما أدى إلى اندلاع نيران حرب أهلية مدمرة في تلك البلاد التي أحبها همنجواي كل الحب. وقد ساندت القوى الفاشستية في كل من إيطاليا وألمانيا الضابط فرانكو، بينما انضمت إلى الجمهوريين صفوف الشيوعيين والفوضويين والاشتراكيين والنقابيين وغيرها من الجوانب الثورية. وانحاز همنجواي إلى جانب الجمهوريين، وطاف في كل مكان في أمريكا يحاول جمع التبرعات لمساعدتهم وإمدادهم بما يحتاجونه من سلاح. ثم سافر هو بنفسه إلى مدريد ليغطي أنباء الحرب الأهلية، وليكون إلى جانب أصدقائه الجمهوريين، وقبل أن يطير للجبهة أعد رواية جديدة للنشر وأسماها «الغنى والإملاق»
12
Halaman tidak diketahui
وخاض همنجواي في طريقه إلى ميدان القتل أهوالا عجيبة وكاد أن يقتل عديدا من المرات. وكان يعود أحيانا إلى الولايات المتحدة لجمع مزيد من الأموال لمساعدة الجمهوريين، ثم يطير ثانية إلى ميدان القتال. وفي إحدى المرات التي عاد فيها إلى الولايات المتحدة نشر مسرحية كان يعمل فيها في مدريد وهي «الطابور الخامس»
13
وكانت هذه المسرحية الوحيدة التي كتبها همنجواي هي العمل الوحيد الذي أجمع كل النقاد على فشله التام.
وحرص همنجواي على أن يكون في وسط المعارك التي تدور بين الملكيين والجمهوريين، وكم من مرة تحطم زجاج نافذة الغرفة التي يقيم فيها في فندق فلوريدا بمدريد؛ نتيجة قنبلة تقع على مقربة منه، ولكنه كان يتحمل كل ذلك ويختزن في ذهنه تجارب الأهوال التي يراها والتي اقترنت بهذه الحرب البشعة التي مات في العام الأول لها ما يزيد على نصف مليون إسباني. وتعرف في مدريد على مراسلة صحفية شقراء صغيرة السن تدعى «مارتا جلهورن»، كانت قد برزت في عملها ونجحت فيه نجاحا ملحوظا، وتوثقت عرى المودة بينهما في هذه الفترة، بحيث لم يكونا يكادان يفترقان.
ولما انتهت الحرب الأهلية الإسبانية باندحار الجمهوريين ودخول فرانكو مدريد في مارس 1939م، عاد همنجواي إلى بلاده، واستقر في منطقة جديدة اكتشف فيها أحسن مناطق الانزلاق على الجليد، وهي منطقة «صان فالي». وهناك كتب 24 فصلا من فصول رواية جديدة أعدها عن الحرب الأهلية الإسبانية. وكانت رواية «لمن تدق الأجراس»
For whom the Bell Tolls
أحسن وأشهر رواية كتبها همنجواي باعتراف النقاد. وقد قال عنها مؤلفها: «إنني لم أضع فيها الحرب الأهلية فحسب، بل وضعت فيها كل شيء تعلمته عن إسبانيا طوال ثمانية عشر عاما.» وأهدى همنجواي الرواية التي ظهرت في أكتوبر 1940م إلى مارتا جلهورن، وكان قد اتفق معها على الزواج بعد أن وافقت بولين على الطلاق بشرط أن تحتفظ بولديها منه وبمنزلهما في «كي وست». ولما وافق همنجواي على هذه الشروط، قام بشراء ضيعة له في كوبا بقرية تدعى «سان فرانسيسكو دي بولا»، وسمى الضيعة «فينكا فيخيا»، أي «الضيعة الخارجية»، وتتكون من منزلين وبرج للمراقبة تحيط بهم حديقة واسعة بها حوض سباحة وملعب للتنس. وقد جعل من كوبا مقرا لقاربه البيلار.
وبعد طلاق همنجواي من بولين بسبعة عشر يوما، تزوج مارتا، وكان في الثانية والأربعين من عمره، بينما كانت مارتا في الثامنة والعشرين. وطارا بعد الزواج إلى الشرق الأقصى ليغطيا أنباء الحرب اليابانية الصينية لصالح صحيفتين مختلفتين. وكانت رحلة شاقة إلى مناطق القتال. وقضيا أربعة شهور في الصين، لمس همنجواي فيها مدى الصدع الذي حدث بين شيانج كاي شيك وبين الشيوعيين الصينيين وحذر من نتائجه المرتقبة على مستقبل الصين. وبعد شهر العسل هذا، الذي استطال إلى أربعة شهور وسط جبهة القتال ، عاد العروسان إلى ضيعة الزوج في كوبا، حيث اعتزم همنجواي العزوف عن خوض غمار الحروب بعد ذلك ، رغم أن بلاده كانت قد دخلتها رسميا آنذاك بعد واقعة بيرول هاربور المشهورة.
وكان هذا هو الوقت الذي بدأ همنجواي فيه يطلق لحيته التي اشتهر بها، وكان يزعم أنه اضطر إلى ذلك من جراء مرض جلدي أصاب وجهه وجعل من حلاقة ذقنه أمرا عسيرا.
وبدأت زوجته الجديدة تشعر بالملل، ووجدت أن مثل هذا الزواج لن يتفق مع طموحها الواسع في التقدم في عملها الصحفي، فكان أن طارت بمفردها إلى أوروبا لتغطي أنباء الحرب العالمية لصالح مجلة كوليير. وبعد سفرها بستة أشهر طار همنجواي إلى خطوط القتال في أوروبا ليوافي مجلة كوليير هو الآخر بالتحقيقات الصحفية عن الحرب، ولكنه لم يكن مع زوجته، بل قضى معظم وقته مع مراسلة صحفية تدعى «ماري ولش». وقد اشترك همنجواي في القتال فعلا على الجبهة الفرنسية حين كان الحلفاء يعدون العدة للغزو النورماندي، وكون فرقة من الفدائيين ترأسهم وكانوا ينادونه بلقب «بابا همنجواي»، وقد شاعت هذه التسمية بعد ذلك بين أصدقائه ومحبيه. وكانت هذه الفرقة هي أول جنود من صف الحلفاء تدخل باريس، وكان أول شيء فعله همنجواي بعد دخوله العاصمة الفرنسية أن حرر فندقه الأثير «الريتز»، وعب من خموره المعتقة. وقد حوكم همنجواي أمام محكمة عسكرية بعد ذلك لتخطيه حدود قوانين المراسلين الصحفيين باشتراكه الفعلي في القتال، ولكن لم يتقدم أحد للشهادة على تلك الجريمة، فسقطت عنه، كما منح ميدالية برونزية تقديرا لشجاعته.
Halaman tidak diketahui
وبعد الحرب، وفي أكتوبر 1945م، حصلت مارتا جلهورن على الطلاق من همنجواي، لم يعارض في منحها إياه، وعاد إلى فينكا فيخيا بكوبا مع «ماري ولش» التي كان يدعوها دوما «مس ماري»، وقد تزوجها همنجواي أخيرا في هافانا في 1946م، وكانت مس ماري بهذا رابع زيجة له وأحبها إلى قلبه، باعترافه فيما بعد. وقد عملت زوجته الجديدة على إرضائه كلما سنحت لها الفرصة لذلك، فكانت تشاركه حبه للصيد والرحلات وشرب النبيذ، وتهتم بأدويته وأدواته، كما كانت مدبرة منزل وطاهية ماهرة في نفس الوقت ... وقضى همنجواي عدة سنوات من الاستقرار في فينكا فيخيا، كتب خلالها كتابه عن الحرب الذي سماه «عبر النهر وبين الأشجار»
14
وقد هاجمه النقاد بعنف على هذه الرواية التي جاءت مختلفة اختلافا بينا عن أسلوب همنجواي المعتاد في كتبه. وقد أثار النقد الجارح الذي كتبه النقاد على هذه الرواية حفيظة همنجواي وشرع في الإعداد لعمل كبير يتحداهم به. وظهر هذا العمل بعد ذلك مما كان قد اختزنه في ذهنه من تجارب حدثت في الصيد على شاطئ كوبا وغيره. وكانت رواية «العجوز والبحر»،
15
التي نجحت على الفور، وقابلها النقاد بترحاب عظيم، وقد نالت الرواية جائزة بوليتزر عام 1953م. ثم حاز الكاتب جائزة نوبل للآداب عام 1954م. وأصبح همنجواي أعظم كاتب أمريكي في زمانه.
ولكن انهماك همنجواي في العمل والكتابة إبان هذه السنوات لم يمنعه من القيام بالرحلات التي يحبها، فجال في إيطاليا، وعاد ثانية إلى إسبانيا بعد أن سمحت له السلطات بذلك، وشهد مصارعات الثيران مرة أخرى، وطاف بمسارح شبابه فيها وفي الأماكن التي كتب عنها أحداث روايته «وتشرق الشمس ثانية». وحن ثانية إلى أفريقيا، فاصطحب مس ماري في رحلة صيد إلى أفريقيا مولتها مجلة «لوك». وكانت الرحلة موفقة في قسمها الأول، فطاف همنجواي وماري في أدغال كينيا وتوجها مرة إلى الكونغو. ولكن حدث أن سقطت بهم الطائرة التي كانت تقلهم فوق شلالات «مورشيون» ونجا من فيها بأعجوبة. وقضوا ليلتهم بين الوحوش الهائمة إلى أن أنقذهم قارب الاستطلاع الذي يجوب هذه المنطقة. وفي هذه الأثناء، طيرت وكالات الأنباء خبر فقدان همنجواي، وصدرت الصحف وفيها نعي الكاتب الكبير، وهز الواثقون من وجود رغبة خفية في الموت لدى همنجواي رءوسهم في عرفان.
وجاءت طائرة لتقل آل همنجواي بعد الحادثة إلى «عنتيبي» ولكن سوء الحظ لازمهم، فاصطدمت بالأرض وشبت فيها النيران، وقد سببت هذه الحادثة إصابات خطيرة لهمنجواي في الكليتين والكبد وحروقا في الرأس والساعدين والساقين لازمته آثارها بقية حياته.
وعاد همنجواي بعد رحلته المشئومة تلك إلى «فينكا فيخيا» مع مس ماري. ووصلته الأنباء بعدها من «استكهلم» بقرار الأكاديمية السويدية: منحه جائزة نوبل للآداب لعام 1955م؛ لسيطرته القوية على أسلوب فن الرواية، التي تبدت أخيرا في «العجوز والبحر». وقد قبل همنجواي الجائزة شاكرا وإن اعتذر عن عدم استطاعته الذهاب إلى السويد لحضور حفل استلامها، وأرسل خطابا ألقاه نيابة عنه هناك سفير الولايات المتحدة في السويد.
وقد تسلم همنجواي مبلغ 36 ألف دولار قيمة الجائزة، ثم تعاقد مع «هوليوود» على تصوير فيلم عن القصة، وحصل من ذلك على مبلغ ربع مليون دولار، بالإضافة إلى ثلث الأرباح عن حقوقه من الفيلم. وكان ذلك هو الفيلم الوحيد الذي اشترك همنجواي في إعداده، واختار كاتب السيناريو له وممثله أيضا. وفي عامي 1959م و1960م طاف همنجواي مرة أخرى بإسبانيا إبان مواسم مصارعة الثيران في ركب الماتادور المشهور «أنطونيو أوردونييت»، وشهد المباريات المميتة التي كان يعقدها مع المصارع «لويس ميجيل» في منافسة دامية. وقد كتب همنجواي بعدها تحقيقا صحفيا عن هذه المباريات والمنافسات لمجلة «لايف»، نشر تحت عنوان «الصيف الخطير».
16
Halaman tidak diketahui
وقد لاحقته أسطورة الموت مرة أخرى وهو في «مالقة» بإسبانيا؛ إذ صدرت إشاعة قوية تفيد وفاته هناك. وكان كل ما فعله همنجواي حين سمع تلك الإشاعة أن قال وهو يرفع كأسه ويشرب: «إن المرء يحيا في إسبانيا ولا يموت فيها.»
وحين عاد همنجواي في أواخر عام 1960م إلى منزله بكيتشوم في ولاية «آيداهو»، بدأ الأصدقاء المقربون منه يلاحظون عليه تغيرا كبيرا. كان المرح والانطلاق قد زايلاه، وبدأت تهاجمه الشكوك والريب في استمراره ككاتب، وفي مستقبله في مهنته، كما بدأ يجد صعوبة وثقلا في الكتابة. وسر ذلك أنه كان قد تعود أن يعيش على مستوى معين من القوة والنشاط والإقدام في كل شيء، في ممارسة الرياضة، وفي الصيد، وفي الكتابة وفي الشراب، وفي الرحلات، وفي كل أوجه الحياة، فلما بدأت هذه القوة تضعف فيه، فقد الثقة في نفسه وفي فنه.
وخانته أعصابه أخيرا، واختلطت عليه الحقيقة والوهم، فبدأ يتصور أن السلطات تطارده بتهمة إغواء القصر ، وأن البوليس الفيدرالي يتتبعه ليثبت عليه الجريمة، كما كان يراقب البنك الذي يودع فيه أمواله، وينتابه القلق حين يرى الموظفين يعملون هناك ليلا؛ لإيقانه أنهم مدفوعون من قبل البوليس الفيدرالي لمراجعة حساباته لإثبات أنه تهرب من دفع الضرائب والقبض عليه وزجه في السجن لذلك السبب. ولما تفاقمت حالته وكثر ترديده عزمه على أن يقتل نفسه بعد أن توهم عجزه عن الكتابة، لم يستطع المقربون منه أن يتجاهلوا حقيقة ما أصابه، ودفع الخوف زوجته وأصدقاءه إلى العمل، فأدخلوه مستشفى مايو
17
تحت اسم مستعار لكي يعالج من الإرهاق العصبي. ووضع هناك تحت إشراف مستمر، وتلقى عدة جلسات من الصدمات الكهربائية، ولكن كل ذلك لم يفده كثيرا، فبعد أن خرج من العيادة وتفاءل الجميع بتحسن حالته، فوجئت زوجته ماري صباح أحد الأيام بطلقة تنفجر في الطابق السفلي، فهرعت إلى أسفل لتجد همنجواي وقد أطلق النار على رأسه من بندقيته. وقد قالت ماري للصحفيين: إن طلقة قد خرجت بطريق الخطأ بينما كان همنجواي ينظف البندقية فقتلته على الفور. ثم تجلت حقيقة ما حدث بعد ذلك في وقائع كتاب «بابا همنجواي» الذي كتبه واحد من ألصق أصدقاء همنجواي به، وهو «هوتشنر»، وصف فيه ضمن ما وصفه الأحداث الأخيرة في حياة همنجواي، والمحاولات التي بذلها للانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه، وبإلقاء نفسه من الطائرة التي كانت تقله إلى مستشفى مايو، إلى أن نجحت محاولته الأخيرة وقضى على نفسه في النهاية.
وهكذا لاقى همنجواي الموت الذي طالما كتب عنه ودارت معظم رواياته وقصصه حوله.
مجموعة القصص القصيرة
تم اختيار المجموعة التي يجدها القارئ بين يديه بحيث تقدم له صورة كاملة لفن القصة القصيرة لدى همنجواي. ورغم أن الكاتب قد اشتهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تقدم هي الأخرى نماذج قصصية ذات معمار فني محكم مما يجعل من معظم تلك القصص أعمالا خالدة ضمن إنتاج الكاتب.
وقد صدرت قصص همنجواي القصيرة أول ما صدرت في مجموعات هي: في زماننا (1925م)، رجال بلا نساء (1927م)، المنتصر لا يربح شيئا (1933م ). كما نشر الكاتب عددا آخر من قصصه في الصحف والمجلات بخلاف تلك الكتب الثلاثة. وتقدم المجموعة الحالية عدة قصص تنشر لأول مرة باللغة العربية.
وكان همنجواي يحب أن يكتب عن موضوعات وتجارب مر بها بالفعل؛ نجد ذلك في رواياته كما نجده في قصصه. وضمن مجموعة قصصه القصيرة - التي بلغت في مجملها حوالي الثمانين - نجد سلسلة قصص «نك آدمز» التي تصوره صبيا وشابا ورجلا يتعرض لمواقف مختلفة تزيد من تجاربه بالحياة والطبيعة الإنسانية، وهو يظهر هنا في قصص: المخيم الهندي، الطبيب وزوجة الطبيب، قصة أفريقية، عشرة هنود.
Halaman tidak diketahui
وكتب همنجواي عن إسبانيا، البلد الذي أحبه وعشق رياضته الشهيرة وهي مصارعة الثيران، وتعاطف مع أهله إلى درجة أنه شارك في الحرب الأهلية التي نشبت هناك لمدة أعوام ثلاثة. وتقدم المجموعة الحالية إسبانيا في قصص: الفراشة والدبابة، حاضرة الدنيا، مكان نظيف حسن الإضاءة.
أما عن القصص الأفريقية فنقدم منها هنا: ثلوج كليمنجارو، وقصة أفريقية.
والقصة القصيرة عند همنجواي تتصف بالتركيز الشديد، وتشرك القارئ في مطالعة تجربة إنسانية. وأسلوب الكاتب هنا يمثل رأيه في فكرة جبل الثلج العائم الذي لا يظهر للعيان منه سوى ثمن حجمه فقط، بينما بقيته مختفية تحت الماء. فالرواية عنده يمكن أن تظهر من ذلك الجبل الثلجي الكثير مما هو مختف، فطبيعتها تسمح بوجود التفاصيل الضرورية التي تكتمل معها الصورة الشاملة التي تقدمها الرواية. أما القصة القصيرة فهي تقدم الجزء الظاهر فحسب، وتترك للقارئ تشرب البقية وفقا لإحساسه ودرجة تجاربه في الحياة.
والقصة القصيرة على ذلك الوجه قد سمحت لهمنجواي - أكثر مما سمحت له الرواية - أن يتجلى في أسلوبه اللغوي المشهور القائم على التركيز والتخلي عن المحسنات اللفظية والصفات التي لا تخدم الحدث أو الشخصيات، مما سماه النقاد بأسلوب الاقتصاد في التعبير. وهو أيضا يستخدم الحوار على نحو خاص به، يتصف بالإيجاز، والتكرار المقصود، واستخدام المفردات الشائعة المعروفة لدى من يتحدث من شخصيات القصة. وينجح كل ذلك في نقل اللمحات الإنسانية التي يحاول المؤلف أن ينقلها إلى القارئ كما شعر هو بها وهو يكتب القصة (انظر قصة قطة تحت المطر). وهو ينجح في ذلك إلى درجة جعلته واحدا من كبار مؤلفي القصة القصيرة، مثلما هو من كبار مؤلفي الرواية .
ماهر البطوطي
الفراشة والدبابة
في تلك الليلة كنت أسير في طريق العودة إلى مكتب الرقابة إلى فندق «فلوريدا» - وهو بمثابة منزلي - تحت المطر. وفي منتصف الطريق شعرت بالضيق من البلل وتوقفت في بار «تشيكوتي» من أجل جرعة شراب عابرة. كان هذا هو ثاني شتاء تتعرض فيه مدريد المحاصرة للقذائف الجوية، وهناك نقص في كل شيء، بما في ذلك التبغ وصبر الناس، ويشعر المرء بالجوع دائما، ويمكن له أن يضيق فجأة وبلا سبب من الأشياء التي لا يملك أي شيء إزاءها مثل الطقس. كان يتعين علي أن أذهب إلى البيت، كان على مبعدة خمسة شوارع فحسب، ولكني حين رأيت باب تشيكوتي جال بخاطري أن أتناول شرابا سريعا ثم أسير تلك الشوارع الخمسة عبر «الجران فيا» فوق الطين ومخلفات الطرق التي حطمتها الغارات الجوية.
كان المكان مزدحما، ولا يمكنك أن تدنو من البار، والموائد مشغولة، والجو يعبق بدخان السجائر، والغناء، والرجال في البزة العسكرية، ورائحة المعاطف الجلدية المبللة. وكانوا يتناولون الأشربة عبر جمهرة بلغت ثلاثة صفوف أمام البار.
وعثر نادل أعرفه على مقعد خال وجذبه إلى مائدة جلست إليها مع ألماني رفيع أبيض الوجه بارز الحنجرة، أعرفه لأنه يعمل في الرقابة، وشخصين آخرين لا أعرفهما. وكانت المائدة في وسط القاعة، على يمينك حين تدخل.
ولم يكن بوسعك أن تسمع نفسك حين تتكلم من صخب الغناء، وطلبت كأسا من «الجين» ممزوجا بشراب «الأنجوستورا» كيما أخفف من إحساسي بالبلل من المطر. كان المكان مكتظا حقا، وجو من المرح البالغ يلف الجميع، ربما مرح زائد عن الحد بسبب المشروب الكحولي القطلوني الذي تم صنعه حديثا، والذي كان معظمهم يحتسونه. ولطمني اثنان من الناس لا أعرفهما على ظهري، وحين قالت الفتاة الجالسة إلى مائدتنا شيئا لي لم أسمع ما تقول، فأجبت: بالطبع. والآن حين توقفت عن التطلع من حولي وبدأت أتطلع إلى مائدتنا وجدت أن الفتاة مريعة المنظر، مريعة المنظر حقا. واتضح حين أتى النادل أن ما سألتني إياه هو أنها طلبت مشروبا، ولم يكن يبدو على الرجل الذي معها أي نشاط أو قوة، ولكنها هي التي كانت قوية بالقدر الذي يكفيهما معا. كان لها ذلك الوجه القوي نصف الكلاسيكي، يشبه في تكوينه وجه مروضي الأسود؛ وبدا على الولد الذي معها أنه كان يتعين عليه أن يرتدي ربطة عنق مدرسية قديمة. لكنه لم يكن يرتدي رباط عنق، كان يرتدي معطفا جلديا مثله مثل بقيتنا. غير أن معطفه لم يكن مبللا؛ لأنهما كانا في البار قبل أن يهطل المطر. وكانت هي ترتدي معطفا جلديا أيضا، وكان يليق بمواصفات وجهها.
Halaman tidak diketahui
وعند ذاك تمنيت ألا أكون قد توقفت عند تشيكوتي وإنما توجهت مباشرة إلى البيت حيث بإمكاني أن أغير ملابسي وأجفف نفسي، وأتناول شرابا وأنا مستريح في فراشي رافعا قدماي عاليا. وكنت ضجرا من النظر إلى هذين الشخصين الحديثي السن. الحياة قصيرة، والنسوة القبيحات أطول عمرا وها هن جالسات إلى الموائد. وقررت أنه برغم أنني كاتب ومن المفروض أن أشعر بفضول لا يشبع عن كل أنواع الناس، فإنني لم أكن أهتم بمعرفة ما إذا كان هذان الاثنان متزوجين أم لا، أو ما هو رأي أحدهما في الآخر، أو ما هي آراؤهما السياسية، أو ما إذا كان لديه بعض المال، أو إذا ما كان لديها بعض المال، أو أي شيء عنهما. وخلصت إلى أنهما لا بد يعملان في الإذاعة. كل مرة ترى مدنيين في مدريد ذوي مظاهر غريبة حقا فهم يعملون في الإذاعة. ولذلك حتى أقول شيئا رفعت صوتي كي يعلو على الضجيج وسألت: أتعملان في الإذاعة؟
قالت الفتاة: أجل.
إذن فالأمر كذلك. يعملان في الإذاعة.
وقلت للألماني: كيف حالك يا رفيق؟ - الحمد لله. وأنت؟
قلت: يغطيني البلل.
وضحك مائلا برأسه جانبا. سأل: أمعك سيجارة؟
وناولته علبة سجائري التي لم يكن عندي إلا واحدة غيرها، وتناول منها سيجارتين. وأخذت الفتاة القوية اثنتين والشاب الذي كان يمكن أن يليق به رباط العنق القديم واحدة.
وصحت به: خذ أخرى.
ورد: كلا شكرا.
وأخذها الألماني بدلا منه وتساءل باسما: هل تأذن لي؟
Halaman tidak diketahui
قلت : بالطبع.
كنت في الحقيقة لا أرحب بأخذه السيجارة وكان يعرف ذلك. ولكنه كان في أشد الحاجة للسجائر لدرجة لم يبال معها بشيء. وكان الغناء قد توقف برهة، أو كانت هناك استراحة كما يحدث في وقت العواصف أحيانا. وأصبح بوسعنا أن نسمع ما نقول.
سألتني الفتاة القوية: هل أنت هنا من زمن طويل؟ ونطقت الزاي ثاء كما في كلمة ثمن.
قلت: إني أرحل وأعود.
قال الألماني: يجب أن يكون حديثنا جادا. أريد أن أجري حديثا معك. متى يمكننا أن نتحدث؟
قلت: سوف أتصل بك.
كان هذا الألماني من نوع غريب جدا بالفعل، ولم يكن أحد من الألمان الحميدين يحبه. عاش تحت وهم أنه يمكنه أن يصبح عازف بيانو، ولكن لو أنه بقي بعيدا عن أي بيانو لما اكترث ما دام يشرب الكحوليات أو أتيحت له فرصة النميمة، ولم يتمكن أحد من إبعاده عن أي من هذين الشيئين بعد.
كانت النميمة أفضل ما يفعله، وكان دائما يعرف شيئا جديدا مشينا للغاية عن أي شخص يمكن أن تذكره في مدريد وبلنسية وبرشلونة وغيرها من المراكز السياسية.
ثم بدأ الغناء ثانية، ولا يمكن لك أن تمارس النميمة ممارسة جيدة بصوت عال، ولذلك بدا ذلك الأصيل في «تشيكوتي» مملا وقررت أن أرحل حالما أحصل على شراب لنفسي.
وعند ذلك بدأ الأمر. دخل البار رجل مدني في حلة بنية اللون وقميص أبيض وربطة عنق سوداء، شعره ممشط إلى الخلف مبينا جبهة عريضة، وأخذ يتنقل من مائدة إلى أخرى يهرج مع الحاضرين، وأطلق وابلا من الماء على نادل من رشاشة ماء يحملها معه. وضحك الجميع ما عدا النادل الذي كان يحمل وقتها صينية مليئة بأقداح الشراب. كان حانقا.
Halaman tidak diketahui
قال النادل:
No Hay Derecho . ومعناها: ليس لك حق أن تفعل هذا، وهي أبسط وأقوى عبارة احتجاج في إسبانيا. أما رجل رشاشة الماء مبتهجا بالنجاح الذي حققه، ولا يبدو عليه أي اعتبار لواقع أن البلد في سنتها الثانية من الحرب، وأنه في مدينة مفروض عليها الحصار حيث كل شخص فيها يشعر بالتوتر ، وأنه كان واحدا فقط من أربعة أشخاص بالملابس المدنية في المحل، فقد أطلق وابلا آخر من الماء على نادل آخر.
ونظرت حولي عبثا عن مكان أحتمي به. وكان النادل الثاني ساخطا أيضا، وبخ رجل رشاشة الماء عليه مرتين بعد ذلك في خفة ومرح. كان بعض الحاضرين يعتقدون أن الأمر باعث على الضحك، بمن فيهم الفتاة القوية. ولكن النادل وقف وهو يهز رأسه. كانت شفتاه ترتعشان. كان رجلا هرما عمل في تشيكوتي لمدة عشرة أعوام حسب معلوماتي.
قال في وقار:
No Hay Derecho . وفي تلك المرة لم يكن الأمر احتجاجا. كان اتهاما. ورأيت ثلاثة رجال في بزتهم العسكرية ينهضون من مائدتهم متجهين نحو رجل الرشاشة المائية، وبعدها كان الأربعة يخرجون من الباب الدوار بسرعة، وسمع صوت لكمة حين ضرب أحدهم رجل الرشاشة على فمه. والتقط آخر الرشاشة المائية ورماها له خارج الباب.
وعاد الرجال الثلاثة تبدو عليهم علائم الجد والصرامة وأنهم قاموا بواجبهم. ثم دار الباب ودخل رجل الرشاشة المائية. كان شعره مسدلا فوق عينيه، وتغطي وجهه دماء، وربطة عنقه ملتوية، وقميصه ممزق. كان يحمل رشاشة الماء ثانية، وحين اندفع إلى القاعة جاحظ العينين ممتقع الوجه، أطلق رشة من الماء متحدية عامة بلا هدف، موجها رشاشته تجاه كل من في القاعة.
ورأيت واحدا من الرجال الثلاثة ينهض متجها نحوه، ورأيت وجه ذلك الرجل. كان معه عدد أكبر من الرجال الآن، وحشروا رجل رشاشة الماء بين مائدتين في نهاية القاعة إلى اليسار حين تدلف إلى المحل، بينما رجل الرشاشة المائية يجاهدهم الآن بقوة، وحين انطلقت الرصاصة أمسكت بذراع الفتاة القوية وجذبتها نحو باب المطبخ.
وكان باب المطبخ مغلقا، وحين حاولت فتحه بكتفي لم يستجب.
قلت: «اختبئي هنا خلف زاوية البار.» وانحنت هناك. قلت وأنا أدفعها إلى أسفل: «ارقدي.» كانت ثائرة.
كان كل رجل في القاعة قد أخرج مسدسه ما عدا الألماني - الذي كمن خلف المائدة - والولد الذي يشبه تلاميذ المدارس العمومية، والذي وقف في ركن إلى جوار الحائط؛ وكانت ثلاث فتيات ذوات شعر شديد الصفرة بينما هو أسود عند جذوره، يقفن على أطراف أصابعهن فوق منصة خشبية على طول الحائط كيما يشاهدن ما يحدث وهن يصرخن باستمرار.
Halaman tidak diketahui
قالت الفتاة القوية: إني غير خائفة. هذا سخف.
قلت: إنك لا تحبين أن تصابي بطلقة رصاص في شجار بالمقهى. لو أن لهذا الرجل ذي رشاشة الماء أصدقاء هنا فستصبح العاقبة وخيمة.
ولكن كان من الواضح أنه لم يكن له أصدقاء؛ لأن الناس بدأت تعيد مسدساتها إلى مكانها. وعمل أحدهم على إسكات الصارخات الشقراوات، وابتعد كل شخص كان قد دنا من رجل رشاشة الماء عنه إذ هو مسجى بهدوء على ظهره فوق الأرض.
وصاح أحدهم من عند الباب: لا أحد يغادر المكان حتى تحضر الشرطة.
وكان رجلان من الشرطة يحملان البنادق قد حضرا من دورية الطريق ووقفا عند الباب. وعند ذلك الإعلان رأيت ستة رجال يصطفون كأنهم أعضاء فريق الفوتبول وهم يدلفون إلى الملعب، وخرجوا من الباب. كان ثلاثة منهم هم الذين ألقوا رجل رشاشة الماء إلى الخارج. وكان واحد آخر هو من أطلق عليه الرصاص. ساروا خارجا عبر رجلي الشرطة ذوي البنادق كأنهم لاعبون يمررون الكرة فيما بينهم. وبعد أن خرجوا، وضع واحد من رجلي الشرطة بندقيته عبر الباب وصاح: لا أحد يمكنه الخروج. لا أحد على الإطلاق. - ولماذا خرج أولئك الرجال؟ لماذا تبقوننا ما دام البعض قد خرج؟! - إنهم فنيو محركات الطائرات وعليهم العودة إلى المطار الحربي. - ولكن إذا خرج أي شخص فمن الحماقة الإبقاء على الآخرين. - يجب على الجميع انتظار فريق الأمن. يجب اتباع القانون والنظام. - ولكن، ألا ترى أنه إذا غادر أي شخص المكان فمن الحماقة إبقاء الآخرين؟ - لا يمكن لأحد المغادرة. على الجميع أن ينتظروا.
قلت للفتاة القوية: إنه أمر مضحك. - كلا. إنه أمر مريع.
كنا وقوفا الآن وكانت تتطلع بسخط حيث كان رجل رشاشة الماء راقدا. كانت ذراعاه مبسوطتين على آخرهما وإحدى ساقيه مثنية. - سأذهب لأساعد هذا الرجل المسكين الجريح. لماذا لم يساعده أحد أو يفعل شيئا من أجله؟
قلت: دعيه. الأفضل ألا تتدخلي في ذلك الأمر. - ولكن هذا غير إنساني. لقد تدربت على عمل الممرضات وسوف أقدم له المساعدة.
قلت: دعيه. لا تقتربي منه. - لماذا؟
كانت شديدة الاضطراب وفي حالة تقترب من الهستيريا.
Halaman tidak diketahui
قلت: لأنه ميت.
وحين جاءت الشرطة احتجزت كل شخص هناك لمدة ثلاث ساعات. وبدأت بأن اشتمت فوهات كل المسدسات، فبهذه الطريقة يمكن أن يعثروا على المسدس الذي تم إطلاقه حديثا. وبعد ما يقرب من أربعين مسدسا، يبدو أنهم ضجروا من العملية، وعلى كل حال كان كل ما يمكن أن يشموه هو رائحة المعاطف الجلدية المبللة. ثم جلسوا إلى مائدة خلف المرحوم حامل رشاشة الماء مباشرة، وهو يرقد على الأرض كأنه رسم كاريكاتوري من الشمع الرمادي، بيدين شمعيتين ووجه شمعي رمادي، وجعلوا يفحصون أوراق الحاضرين.
ومع تمزق قميص رجل رشاشة الماء يمكنك أن ترى أنه لا يرتدي فانلة داخلية، وكان حذاؤه متهرئا. كان يبدو ضئيل الحجم مثيرا للشفقة؛ إذ هو ممدد على الأرض. ويجب عليك أن تخطو فوقه كي تذهب إلى المائدة التي جلس إليها اثنان من الشرطة في ملابس مدنية يفحصان أوراق هوية كل شخص. وفقد الزوج أوراقه وعثر عليها مرات عديدة من فرط عصبيته. كان لديه تصريح مرور، ولكنه نسي في أي جيب وضعه، واستمر يبحث عنه وهو ينضح عرقا إلى أن عثر عليه. ثم وضعه في جيب آخر وطفق يبحث عنه مرة أخرى.\ وكان ينضح بالعرق الغزير وهو يقوم بذلك؛ مما جعل شعره يتجعد ووجهه يحمر. وكان يبدو الآن كما لو كان يجب أن يرتدي، لا ربطة عنق مدرسية قديمة فحسب، بل وأيضا إحدى تلك القبعات الصغيرة التي يرتديها صبية المدارس في إنجلترا. أنت قد سمعت كيف تزيد الأحداث الناس هرما. حسنا لقد جعله إطلاق النار هذا يبدو أصغر من سنه بعشر سنوات.
وبينما كنا ننتظر، قلت للفتاة القوية إنني أعتقد أن الأمر كله يصلح أن يكون قصة جيدة وإنني سوف أكتبها يوما ما، فالطريقة التي انتظم بها الرجال الستة في صف واحد وخرجوا سريعا من ذلك الباب شيء رائع. وصدمها ما قلت، فأجابت بأنه لا يمكنني أن أكتب القصة؛ لأنها ستكون ضارة بقضية الجمهورية الإسبانية. فقلت إنني قضيت وقتا طويلا في إسبانيا، وإنهم كانوا يقومون بالكثير من إطلاق النار قديما فيما حول مدينة بلنسية أيام حكم الملكية، وإنه قبل الجمهورية بمئات السنين كان الناس يقطعون أجساد بعضهم البعض بسكاكين كبيرة تدعى «نافاخاس» في إقليم الأندلس، وإنني إذا شاهدت إطلاق نار فكاهيا في بار تشيكوتي خلال الحرب فبوسعي أن أكتب عنه كما لو أنه حدث في نيويورك أو شيكاغو أو كي وست أو مرسيليا، فهو لا علاقة له بالسياسة على الإطلاق. قالت إنه يجب علي ألا أفعل ذلك. وربما يقول كثير من الناس الآخرين مثل قولها أيضا. ومع ذلك، كان الألماني يعتقد فيما يبدو أنها قصة جيدة، وأعطيته آخر سيجارة من نوع «الجمل» كانت معي. حسنا، فعلى كل حال، أخيرا وبعد حوالي ثلاث ساعات قالت الشرطة إن بوسعنا الخروج.
وقد شعروا بالقلق من أجلي في فندق فلوريدا؛ لأنه في تلك الأيام، مع الغارات، إذا توجهت عائدا إلى بيتك على قدميك ولم تصل بعد موعد إغلاق الحانات في السابعة والنصف مساء يشعر الناس بالقلق. وكنت فرحا بالعودة، وحكيت القصة ونحن نطهو طعام العشاء على موقد كهربائي، ولاقت نجاحا كبيرا.
حسنا. كان المطر قد توقف بالليل، وجاء الغد يوم شتاء مبكر، باردا وساطعا وجميلا؛ وفي الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة دفعت الباب الدوار في تشيكوتي من أجل قليل من «الجين» بالمياه المعدنية قبل الغداء. كان هناك عدد قليل جدا من الناس في تلك الساعة، وجاء لمائدتي نادلان ومدير المحل. كانوا جميعا يبتسمون.
سألت: هل قبضوا على القاتل؟
قال المدير: لا تلقي نكاتا في هذا الوقت المبكر. هل رأيته يقتل؟
قلت له: أجل.
قال: «وأنا أيضا، كنت هناك حين حدث ذلك .» وأشار إلى مائدة في أحد الأركان .. «لقد وضع المسدس على صدر الرجل مباشرة حين أطلق النار.» - إلى متى احتجزوا الناس هنا؟ - أوه. بعد الثانية من هذا الصباح.
Halaman tidak diketahui
قال نادل: «لم يجيئوا من أجل «اللحم».» مستخدما الكلمة الإسبانية العامية التي تعني الجثة، وهي نفس الكلمة المكتوبة في قائمة الطعام لتشير إلى شرائح اللحم البارد .. «إلا في الحادية عشرة هذا الصباح فحسب.»
قال المدير: ولكنك لم تعرف الأمر بعد.
قال نادل: كلا، إنه لا يعرف.
قال النادل الآخر: إنه شيء غريب للغاية.
قال المدير: ومحزن أيضا. وهز رأسه.
قال النادل: أجل. محزن وغريب. محزن جدا. - أخبرني.
قال المدير: إنه شيء غريب جدا. - أخبرني. هيا، أخبرني.
وانحنى المدير فوق المائدة في حذر شديد.
قال: أتعرف .. كان يضع في رشاشته ماء الكولونيا. يا للرجل المسكين.
قال النادل: لم يكن الأمر مزحة خالية من الذوق، أترى؟
Halaman tidak diketahui
قال المدير: كان الأمر في الواقع مجرد إشاعة المرح. لم يكن لأحد أن يشعر بالغضب. يا للرجل المسكين.
قلت: فهمت. كان يريد تسلية الجميع فحسب.
قال المدير: أجل. كان الأمر في الواقع مجرد سوء تفاهم مؤسف. - وماذا عن رشاشة الماء؟
أخذتها الشرطة. لقد أرسلوها إلى أسرته.
قلت: أتصور أنهم سيسرون بالحصول عليها.
قال المدير: أجل. بالطبع. فرشاشة الماء نافعة دائما. - ومن كان هو؟ - صانع خزانات خشبية. - متزوج؟ - أجل، كانت زوجته هنا مع الشرطة هذا الصباح. - وماذا قالت؟ - ارتمت إلى جواره وصاحت: بدرو. ماذا فعلوا بك يا بدرو؟ من فعل بك هذا يا بدرو؟ أوه، بدرو.
وقال النادل: ثم اضطرت الشرطة إلى إبعادها؛ لأنها لم تستطع السيطرة على نفسها.
قال المدير: يبدو أنه كان يعاني مرضا في صدره. لقد حارب في الأيام الأولى للحركة. قالوا إنه قد حارب في الجبال، ولكنه كان من ضعف الصدر بحيث إنه لم يتمكن من الاستمرار.
وقلت مرجحا: وفي أصيل أمس توجه إلى وسط المدينة كي يشيع المرح في النفوس.
قال المدير: كلا. أترى، إنه لأمر شديد الغرابة. كل شيء غريب جدا. علمت هذا من الشرطة التي تتميز بكفاءة عالية إذا أتيح لها الوقت المناسب. لقد استجوبوا رفاقه في المحل الذي يعمل به. وقد عرفوا المحل من بطاقة عضويته النقابية التي كانت في جيبه. وقد اشترى رشاشة الماء ومياه الكولونيا بالأمس لاستخدامهما كمزحة يقوم بها في أحد الأفراح. وقد أعلن عن نيته تلك. واشتراهما من محل عبر الشارع. هناك بطاقة على زجاجة الكولونيا بها العنوان. كانت الزجاجة في دورة مياه البار. وهناك كان يملأ الرشاشة بماء الكولونيا. ولا بد أنه قد دخل هنا عندما بدأ المطر يهطل.
Halaman tidak diketahui
قال نادل: إني أتذكره حين دخل. - وفي هذا الجو المرح، ومع الغناء، انتابه المرح هو أيضا.
قلت: كان مرحا زيادة عن اللزوم. كان كأنما يطفو في المكان.
وتمسك المدير بالمنطق الإسباني الذي لا يلين.
قال: إن ذلك هو المرح الذي ينتج عن الشراب مع ضعف الصدر.
قلت: إني لا أحب هذه الحكاية على الإطلاق.
قال المدير: اسمع. إنها شديدة الغرابة. إن مرحه قد اصطدم بجدية الحرب مثل الفراشة.
قلت: أوه، تماما مثل فراشة. مثل فراشة.
قال المدير: إني لا أمزح. أترى؟ مثل فراشة تلتقي بدبابة.
وقد أفعمه ذلك بالسرور. كان يخطو داخل الميتافيزيقا الإسبانية الحقيقية.
قال: خذ شرابا على حساب المحل. يجب عليك أن تكتب قصة عن ذلك.
Halaman tidak diketahui