ولقد أسفت لبعض المفهومات الخاطئة التي تكونت على أثر هذه الدعوة، وأولها وأخطرها ذلك الذي يدعي أننا نريد أن ننغلق على أنفسنا ونقطع ما بيننا وبين أوروبا من علاقة علمية وفنية، أو كما سماها البعض «شيفونية ثقافية». ولست أدري من أين جاء هؤلاء بهذا المفهوم؟! ما العلاقة بين الدعوة إلى اكتشاف المسرح المصري وتقديمه وبين مقاطعة أوروبا ثقافيا وفنيا؟ وهل إذا قد طالبنا بضرورة أن يكون لنا موسيقانا الخاصة النابعة منا، هل يفهم من هذا أننا نطالب بمقاطعة أوروبا موسيقيا وغلق آذاننا عن أن تسمع روائع شوبان وتشايكوفسكي؟ إن هذا المفهوم يحب البعض أن يدعيه ليقف في وجه كل طموح فني في بلادنا باعتبار أننا مهما فعلنا فلن نصل أبدا بفننا الخاص إلى ما وصلت إليه أوروبا، وسنبقى متخلفين بمئات السنين. ومعنى هذا ببساطة أننا يجب أن نيأس ويجب أن نعتمد كلية في غذائنا الروحي على معاني أوروبا وكتابها. ولو أطلقنا لهذا المنطق العنان لكان علينا أن نتنازل عن لغتنا الأخرى باعتبارها لغة غير أوروبية متخلفة، وننتقي لنا لغة أوروبية حديثة متطورة، نتعلم كيف نتفاهم بها، ذلك أن الفن كاللغة، وكما أننا لا نعتبر أن هناك لغة عالمية ولغة محلية، وإنما هناك لغات واسعة الانتشار وهناك لغات محدودة الانتشار، فأيضا نحن لا نعتبر أن هناك فنا عالميا وفنا محليا، هناك فنون أوروبية واسعة الانتشار وفنون شرقية أو عربية أو صينية محدودة الانتشار، محدودية لا ترجع أبدا إلى أسباب فنية، إنما ترجع إلى أسباب سياسية بحتة، وإلى انتشار اللغات والفنون الأوروبية بسبب نمو الحضارة الأوروبية وطغيانها واستعمارها لمعظم أجزاء العالم، ومحاولة صبغها بالصبغة الأنجلوساكسونية أو الجرمانية أو الأمريكية، لا يضير فننا إذن أو لغتنا أنهما محدودا الانتشار، فهما يعانيان نفس الغلبة على أمرهما كما كنا كشعوب نعاني.
إنني أعجب أحيانا لهؤلاء المثقفين الذين يعقدون الجلسات «الفنية»، ويتحدثون باحترام يقترب من مرتبة التقديس عن السيمفونية وبيتهوفن وموزار، حتى إذا جاءت سيرة فنوننا كانت تنتابهم حالة قيء حادة وقالوا لك باشمئزاز: أين هذه العبقريات كلها من «موالنا» الخائب، أو «على بلد المحبوب وديني»؟! هؤلاء المثقفون ليسوا مثقفين بالمرة، أو على الأقل لا يمكن أن يحتسبوا من مثقفي شعبنا. ممكن اعتبارهم مثقفين أوروبيين أو متأوربين؛ لأن فن أي شعب كلغة أي شعب لا يمكن أن يقارن بفن أي شعب آخر أو لغته أو يميز عليهما. لا يمكن أبدا أن نقول إن الألمانية لغة أفضل من اللغة اليابانية، أو إن الروسية أفضل وأروع ألف مرة من العربية ... وبنفس هذا المنطق لا يمكن أبدا أن نقول إن السيمفونية أروع آلاف المرات من الموال الأحمر ... فإن عظمة كل فن وعظمة أي لغة لا يمكن تحديدها إلا بالنسبة للشعب الذي يتحدث هذه اللغة أو يستوعب هذا الفن.
قضية أساسية
وهذه قضية أساسية لا بد من الوقوف عندها؛ لأنها مهمة للغاية، وفي رأيي تشكل أكبر الخطر على فنوننا وكياننا الروحي، ومن ثم على مستقبلنا. يجب أن نفهم وندرك ونعي أن الفن ظاهرة إنسانية اجتماعية لا بد لإنتاجها من بيئة معينة تتبع شعبا معينا وتنتج من أجل ذلك الشعب: أن ريمسكي كورساكوف لم يكتب موسيقاه لتذاع من إذاعة كولومبيا في أمريكا، وشوقي لم يكتب شعره ليقرأه الشعب الهندي وينتشي به، وبرخت لم يكتب مسرحياته إلا بالألمانية وكتبها أساسا للشعب الألماني، وكذلك كان يفعل إيريا ماريا ريمارك برواياته، صحيح أن أنيسكو كاتب روماني الأصل، ولا يكتب للشعب الروماني، ولكن أنيسكو اتخذ فرنسا وطنه الثاني، ويكتب للشعب الفرنسي، وللحركة الثقافية الفرنسية، وكذلك يفعل بيكيت، وأروين شو لا يكتب مسرحياته للشعب الإنجليزي، ولكنه يكتبها أولا للشعب الأيرلندي، وكذلك آرثر ميللر، وتينيسي ويليامز. إن بعض روايات تينيسي وليامز ليست مكتوبة للشعب الأمريكي كله، ولكنها مكتوبة أساسا للشعب الأمريكي في ولايات الجنوب، تماما كما كان يفعل فولكنر وشتاينبك، ولوركا لم يكتب مسرحياته وشعره وأعماله كلها إلا نابعة من الشعب الأسباني وموجهة إليه.
الفن إذن، أي شكل من أشكال الفن، لا بد أن تكون له أرض ينبت منها ويقف عليها ولا بد أن يكون موجها أساسا إلى سكان هذه الأرض بالذات. كل ما في الأمر أن بعض هذه الأعمال مكتوب بلغات واسعة الانتشار أو ترجم إلى تلك اللغات، فانتشر في أنحاء العالم وأصبح كما يخطئ البعض ويسمونه «أدبا عالميا». في حين أن العالمية في الأدب خرافة، وأي كاتب يحاول أن يكتب أدبا يقرؤه العالم أجمع وينفعل به إنما هو كاتب أو فنان أفاق. ليفانتيني لا يمكن أن يكون صادقا مع نفسه أو مع الشعب الذي أنشأه وزوده بالقدرة والتعليم والمادة التي يكتب منها، لا يمكن أن يحدث لأن الفن والأدب مادتهما الإنسان، ولم يوجد إلى الآن ذلك الإنسان «العالمي» المعلق في أثير الكرة الأرضية غير المرتبط بوطن أو بشعب أو بزمان ومكان. هذه نقطة، والنقطة الثانية أن ليس هناك فن أسمى من فن (ونقصد بالفن هنا أن يكون العمل فعلا قد ارتفع إلى مستوى الفن الحقيقي) فن الكتاب الألمان ليس أروع من فن الكتاب الروس، تماما كما أن الشعب الألماني ليس أروع من الشعب الروسي، تماما كما لا يمكننا أن نقارن تماثيل الفراعنة بتماثيل هنري مور، أو نقارن بين الملوخية كغذاء شعبي يذوب فيه المصريون حبا وبين الكبيبة الشامي التي لا يستسيغها معظم المصريين ويلتهم الشوام أصابعهم وراءها استحسانا.
لا بد أن نسلم لكل شعب من شعوب الأرض - مهما بلغت درجة حضارته أو درجة تخلفه - تكوينه النفسي والروحي وذوقه وأحاسيسه المستمدة من تراثه ومناخه وتاريخه وتقاليده، لا بد أن نسلم أن الإنسان لم يوجد بمفرده أبدا أو بمطلقه، وإنما وجد دائما وسيظل موجودا كجزء من جماعة ذات كيان وإحساس وذوق خاص.
إذا سلمنا بهذا أدركنا على الفور أن اختلاف الفنون والآداب في العالم حقيقة يجب أن يكون مفروغا من أمرها، فبصرف النظر عن أن في اختلافها إثراء للتراث العالمي، فإن اتفاقها جميعا على موضوعات معينة وقواعد محددة وشكل واحد معناه أن شعوب الأرض جميعها لا خلاف بين تكوينها إطلاقا، ولا بين أذواقها وما تفضله وما تستسخفه. وهذا كما نعلم جميعا محض هراء.
الخطوة التالية
من هنا نستطيع أن نخطو خطوة أخرى ونقول إن الأنواع الفنية لا بد أن تختلف من شعب إلى آخر اختلاف الأشكال البشرية والملامح حتى من شعب إلى آخر، فلا يمكن أبدا لشكل المسرح الإغريقي الذي وضع أرسطو قواعده، لا بين أذواقها وما تفضله وما تستخفه، وهذا كما نعلم جميعا محض أن ينطبق انطباقا تاما على المسرح الصيني؛ لأننا حينئذ نقلب الفن من حقيقة نسبية نابعة من الشعب ومرتبطة ارتباطا عضويا بالإنسان ومزاجه وكيانه إلى حقيقة موضوعية كحقائق العلم لا تقبل الجدل.
والعلم وحقائقه مختلف اختلافا جذريا عن الفن؛ لأن العلم موضوعي والفن ذاتي، العلم قوانينه خالدة وثابتة وكوزموبوليتانية، والفن قواعده متغيرة ومختلفة من بلد إلى بلد ومن حضارة إلى حضارة، ومن تركيب نفسي إلى تركيب نفسي، والدليل أمامنا بسيط: إن القواعد التي وضعها أرسطو في كتابه الشعر للمسرح لا تنطبق على المسرح الياباني أو الصيني، فهل معنى هذا أن نخرج هذين المسرحين من دائرة الفنون المسرحية لأنهما لم يتبعا قواعد أرسطو، أو المعقول أكثر أن نقول إن أرسطو وضع قواعد معينة لمسرح إغريقي معين نشأ في شعب معين، يعبد آلهة معينة، وإن للمسرح الصيني قواعده الأخرى التي وضعها أناس غير أرسطو، ولكنهم ليسوا مشهورين شهرته؛ لأن أرسطو وجد الحضارة الأوروبية التي استعمرت العالم وفرضت تراثها ومقاييسها عليه، بينما لم يجد منشئو المسرح الصيني ومقننوه من يفرض أسماءهم وقوانينهم على العالم والتاريخ.
Halaman tidak diketahui