طرق
1
لنتخيل طريقا ما ينقسم مثلا إلى ثلاثة طرق فرعية، ينقسم كل طريق فرعي بدوره بعد مسافة إلى ثلاثة طرق أخرى، وهكذا باستمرار. يتفرق الناس إذن مع الوقت في الطرق التي كانت طريقا واحدا؛ سيأخذ فريق من الأشخاص دائما الطريق الأول دون تفكير، وسيأخذ فريق آخر الطريق الثالث دون كثير من التمهل، بينما سيأخذ فريق الطريق الثاني. لو أن أحدهم تمكن من النظر إلى شبكة الطرق هذه من أعلى فقد تبدو كشجرة كبيرة كثيفة الفروع؛ حين يتحرك الناس في طرقها، ستبدو لوهلة كأنها تتحرك أيضا. وقد يحس من ينظر وقتها أنها، كأي شجرة، بها الكثير من الفروع والأوراق، بعضها حي وبعضها ميت، لكنها ستواصل النمو حتى النهاية: نهايتها.
2
سواء أدركنا هذا أو لم ندرك؛ كلنا يمتلك تصورا ما للحياة. قد يكون هذا التصور ناضجا وقد يكون غير ناضج، قد يتبدل بتبدل مواقعنا، وقد يظل ساكنا أو شبه ساكن، قد يكون واضحا أو مشوشا. لكننا نسير على هديه على أي حال كأنه مصباح متخيل، أو ربما خريطة، لكنها خريطة ليست صحيحة بالضرورة، لا ترشدنا دائما إلى المكان الذي نحتاج للوصول إليه. قد لا نعلم أصلا إلى أين نريد أن نذهب، لكننا نواصل الحركة؛ ربما يكون الحفاظ على حركتنا أهم من الوجهة التي تأخذنا إليها. نسير مع هذا خائفين من أن نضل، خائفين من أن يسبقنا الآخرون، أو أن نؤدي أسوأ من أداء الآخرين، وقد يتعاظم هذا الخوف عند البعض للدرجة التي يمنعهم فيها من الحركة تماما. هذا الخوف قد يكون أحد أسباب عدائيتنا تجاه المختلفين في بعض الأحيان؛ فمجرد معرفتنا بوجودهم قد يكون مقلقا لنا، ومهددا لرضانا باختياراتنا. يقول هرمان هسة في رواية دميان (من ترجمة عبده الريس): «عندما تكره شخصا ما فأنت تكره شيئا فيه هو جزء من نفسك؛ إن ما ليس جزءا من أنفسنا لا يزعجنا.»
3
عند كل مفترق طرق، غالبا ما سيهاجم أصحاب كل طريق من اختاروا الطريقين الآخرين. أتخيل أحدهم يقول: «لقد قدتنا خلال الدرب الأول في المرة الماضية وكنت مخطئا.» أو: «أنت تقودهم إلى الطريق الثالث الذي سيهلككم جميعا.» أو: «أنت دائما تريد الأمان، دائما تختار المواءمات؛ ولهذا اخترت الطريق الثاني.» سترى أناسا يسيرون دائما مع الفريق الذي يتخيلون أنهم ينتمون إليه بشكل أكبر، دون أن يفكروا كثيرا في الطرق نفسها وطبيعتها، سيقول أحدهم: «كثير ممن أعرفهم سيسيرون من هذا الطريق، لا بد أنهم على صواب.»
4
رغم فوائده، يؤثر انتماؤنا إلى جماعة على حكمنا على الأمور أحيانا، بحيث إن تقديرنا لبعض الأمور يختلف حال وجودنا منفردين، عن تقديرنا للأمور نفسها ونحن في جماعة ما. والمقصود هنا ليس مجرد الوجود وسط حشد ما من البشر بالمصادفة مثلا، لكن المقصود هو ما وصفه «غوستاف لوبون» بالجماعات المنظمة أو الجماعات النفسية، والتي يرى أنها تتكون حين يكتسب لفيف من الناس صفات جديدة مختلفة عن صفات كل فرد من هذا اللفيف؛ فتتلاشى الشخصية الواعية، وتتجه أفكار كل واحد منهم نحو جهة واحدة، وتتكون روح مشتركة.
يقول غوستاف لوبون في كتاب «روح الجماعات» (وأعتمد هنا على ترجمة عادل زعيتر):
Halaman tidak diketahui