الذي أدين بفضل كبير لكتابه «مبادئ علم الأخلاق»
، هم بطبيعة الحال دينيون للغاية ويعيشون بإيمان مشبوب بالقيمة المطلقة لحالات ذهنية معينة، كما أنهم وقعوا في حب نتائج العلم ومناهجه، ورغم ذلك فهم يدركون، لذكائهم البالغ، أن الحجج التجريبية لا تجدي شيئا في تأييد نظرية ميتافيزيقية أو في تفنيدها، وأن نتائج العلم جميعها قائمة في صميمها على منطق سابق على التجربة، وهم يدركون أيضا أن العواطف هي واقعية بقدر واقعية الإحساسات؛ ومن ثم فإنهم يجدون أنفسهم في مواجهة الصعوبة التالية: إذا خطا شخص خطوة إلى الأمام ليقول إن لديه قناعة قبلية
a priori
منزهة عن الغرض بخيرية انفعالاته نحو القداس فإنه يضع نفسه في ذات موقف الأستاذ مور الذي يشعر بقناعة مماثلة بخيرية انفعالاته نحو الحقيقة، فإذا حق للأستاذ مور أن يستدل على خيرية إحدى الحالات الذهنية بالاستناد إلى مشاعره، فلماذا لا يحق لغيره أن يستدل على خيرية حالة ذهنية أخرى من مشاعره؟ إن عقليي كمبردج ليضيق صدرهم بمثل هؤلاء الخوارج، وهم (أي عقليو كمبردج) يؤكدون لهم ببساطة أنهم لا يشعرون حقا بما يقولون إنهم يشعرون به، ولقد بدأ بعضهم يطبقون مناهجهم المفحمة على الإستطيقا، فيؤكدون لنا حين ننبئهم بما نشعر به تجاه الشكل الخالص أننا في الحقيقة لا نشعر بشيء من ذلك، إلا أن هذه الحجة تصدمني دائما بافتقارها إلى الحذق.
وبقدر ما يكره رجل العلم الشائع أن يذكر الحقيقة أو أن يسمع ذكرها، فهو لا يعرف غاية للحياة غير العمر الطويل الهانئ. وها هنا نقطة التعارض ومنشب الجدل بينه وبين الديني؛ وهي أيضا عذره في أن يكون داعية يوجيني.
6
إنه يأبى أن يعتقد في أي واقع غير واقع العالم الفيزيائي؛ فهو يجزم بهذا الواقع جزما دوجماويا؛
7
فالإنسان عنده هو حيوان يرغب مثل باقي الحيوانات في الحياة، وهو مزود بحواس ويريد مثل باقي الحيوانات أن يشبعها: وهو يهيب بنا أن نجد في هذه الحقائق تفسيرا لكل طموح بشري؛ فالإنسان يريد أن يعيش ويريد أن يقضي وقتا سعيدا، ولكي يحقق هذه الغايات فقد ابتكر آلية معقدة. إن جميع الانفعالات، في قول رجل العلم الشائع، يجب أن ترد إلى الحواس؛ فجميع العواطف الأخلاقية والدينية والجمالية مستمدة من الحاجات الجسمية، تماما مثلما تقوم الأفكار السياسية على غريزة الاجتماع التي هي ببساطة نتاج رغبة في الحياة الطويلة والمريحة. إننا نطيع القانون الداخلي الذي يحظر ركوب دراجة على رصيف المشاة؛ لأننا نرى أن هذا القانون يؤدي بنا في النهاية إلى حياة ممتدة وسائغة، ونحن لأسباب مماثلة جدا (هكذا يقول رجل العلم) نثني على الشخصيات الشهمة والأعمال الفنية الجليلة. «ما هكذا الأمر.» كذلك يرد القديسون والفنانون وعقليو كمبردج وكل ذي معدن طيب؛ لأنهم يشعرون بأن عواطفهم الدينية والجمالية والأخلاقية ليست مشروطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحاجات جسيمة، ولا هي في الحقيقة مشروطة بأي شيء في العالم الفيزيائي. إنهم يحسون أن بعض الأشياء خير لا لأنها وسائل إلى الهناءة الجسمية، بل لأنها خير في ذاتها، فليست قيمة النشوة الإستطيقية أو الدينية متوقفة بأي حال على ما تقدمه من إشباع جسمي، ثمة أشياء في الحياة لا يمكن لقيمتها أن تتعلق بالعالم الفيزيائي؛ أشياء قيمتها ليست نسبية بل مطلقة، عن هذه الأمور أتحدث بحذر ودون سلطة، ولا يعورني في غرضي المباشر - وهو أن أعرض تصوري للشخصية الدينية - سوى أن أقول إن من الناس من يبدو لهم التصور المادي للعالم مفسرا لتلك العواطف التي يحسونها بيقين أعلى ونزاهة مطلقة. حقيقة الأمر هي أن رجال العلم بعد أن دفعوا بنا إلى عادة محاولة تبرير مشاعرنا وحالاتنا الذهنية بردها إلى العالم الفيزيائي، قد حملوا بعضنا بالترهيب على أن يعتقدوا بأن ما لا يمكن تبريره بهذه الطريقة فهو غير موجود.
إنني أدعوه دينيا ذلك الإنسان الذي يوقن أن هناك أشياء هي خير في ذاتها وأن الوجود الفيزيائي ليس من بينها، فيسعى على حساب الوجود الفيزيائي إلى ما يبدو له خيرا؛ ومن ثم فإن كل أولئك الذين يعتقدون بإخلاص عنيد أن الحياة الروحية أهم من الحياة المادية، هم في فهمي دينيون. لقد رأيت في باريس على سبيل المثال رسامين صغارا، مفلسين ضامرين مقرورين مهلهلي الثياب، وليست زوجاتهم ولا أولادهم بأفضل منهم حالا، رأيتهم طيلة يومهم في نشوة محمومة منغمسين في رسم لوحات لا يؤمل لها رواج، ومن الجائز تماما أنهم كانوا حريين بأن يقتلوا أو يصيبوا أي شخص يقترح عليهم التوفيق بين فنهم ومتطلبات السوق، وحين كانت أدواتهم تنفذ ورصيدهم ينقطع بالكامل كانوا يبيعون الجرائد خفية ويمسحون الأحذية حتى يمكنهم أن يواصلوا خدمة ولوعهم المسيطر، لقد كانوا دينيين بامتياز؛ فجميع الفنانين دينيون، وكل اعتقاد عنيد هو اعتقاد ديني. إن إنسانا تملكه حب الحقيقة بحيث آثر السجن أو الموت على الاعتراف بإله لا يؤمن بوجوده، هو إنسان ديني وشهيد في سبيل الدين شأنه شأن سقراط ويسوع؛ ذلك أنه جعل لقيمه معيارا خارج العالم الفيزيائي.
Halaman tidak diketahui