ذلك أنه لو لم تكن للأعمال الفنية صفة مشتركة تشملها جميعا، لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» لغوا وثرثرة، كلنا يتحدث عن «الفن» واضعا بذلك تصنيفا ذهنيا يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ وأيا ما كانت هذه الصفة فمما لا شك فيه أنها كثيرا ما توجد مصاحبة لصفات أخرى، غير أن هذه الصفات عرضية بينما الصفة التي نلتمسها جوهرية، لا بد أن هناك صفة مفردة محددة لا يمكن أن يوجد بدونها عمل فني، وإذا حاز عليها أي عمل فستكون له بعض القيمة على أقل تقدير، فما هي هذه الصفة؟ ما الصفة التي تشترك فيها جميع الأشياء التي تثير انفعالاتنا الإستطيقية؟ ما الصفة التي تجمع بين كنيسة القديسة صوفيا، والنوافذ في كاتدرائية شارتر، والنحت المكسيكي، والآنية الفارسية، والسجاد الصيني، وجداريات جوتو الجصية في بادوا، وروائع بوسان وبييرو دلا فرانشيسكا وسيزان؟ يبدو أن ليس هناك سوى جواب واحد ممكن، هو «الشكل ذو الدلالة» (الشكل الدال)
significant form ، ففي كل منها فإن الخطوط والألوان إذ تتضام بطريقة معينة، وإن أشكالا معينة وعلاقات الأشكال، تثير انفعالاتنا الإستطيقية، هذه العلاقات والحبكات من الخطوط والألوان، هذه الأشكال المحركة إستطيقيا، أطلق عليها «الشكل الدال»، و«الشكل الدال» هو الصفة الفريدة التي تشمل كل أعمال الفن البصري.
هنا قد يعترض البعض بأني بذلك أجعل الإستطيقا شأنا ذاتيا محضا، ما دامت معطياتي الوحيدة هي خبرات شخصية بانفعال معين، وسيقال إنه ما دامت الأشياء التي تثير هذا الانفعال تختلف من شخص لآخر فلا يمكن أن يكون لأي نسق إستطيقي صواب موضوعي، ولا بد أيضا أن يقال ردا على ما ذكرت أن أي نسق إستطيقي يدعي أنه قائم على حقيقة موضوعية هو من البطلان الواضح بحيث لا يستحق المناقشة؛ فنحن لا نملك أي وسيلة للتعرف على عمل من الأعمال الفنية سوى شعورنا به، وإن الموضوعات التي تثير الانفعال الإستطيقي تختلف باختلاف الأشخاص، والأحكام الجمالية كما جرى المثل هي مسألة ذوق، ولا مشاحة في أذواقنا كما يسلم - فخورا - كل إنسان. قد يستطيع الناقد القدير إزاء لوحة لم تحرك مشاعري أن يلفت انتباهي إلى أشياء أغفلتها في اللوحة إلى أن يقع لي الانفعال الجمالي فأدركها كعمل من أعمال الفن، إن وظيفة النقد هي ألا ينفك يبين لنا تلك الأجزاء التي من شأنها حين تتحد أن يفضي مجموعها، أو بالأحرى تضامها، إلى إنتاج الشكل الدال، غير أنه من العبث الذي لا طائل منه أن يخبرني ناقد فني أن شيئا ما هو عمل فني، بل لا بد له أن يجعلني أشعر بذلك بنفسي، ولا بد له لكي ينجح في ذلك أن يصل إلى انفعالاتي من خلال عيوني؛ فليس بإمكانه أن يرغمني على الانفعال ما لم ينجح في أن يجعلني أرى شيئا ما يحرك مشاعري، وليس من حقي أن أعتبر أي شيء عملا فنيا ما لم يمكني أن أستحيب له انفعاليا، ولا هو من حقي أن أبحث عن الصفة الجوهرية في أي شيء لم أشعر إزاءه أنني أمام عمل فني، ولا يملك الناقد أن يؤثر على آرائي الجمالية إلا عن طريق التأثير على خبرتي الجمالية، ولا بد لجميع الأنساق الإستطيقية أن تقوم على الخبرة الشخصية؛ أي لا بد أن تكون ذاتية.
ولكن بالرغم من أن كل النظريات الإستطيقية تستند بالضرورة إلى أحكام جمالية، وأن جميع الأحكام الجمالية هي في النهاية مسألة ذوق شخصي، فمن التهور أن نقول بأن النظرية الإستطيقية لا يمكن أن تتمتع بصواب عام، فرغم أنني قد تحركني الأعمال أ، ب، ج، د، بينما تحركك الأعمال أ، د، ه، و؛ فليس هناك ما يمنع أن تكون الصفة س هي الصفة الفريدة التي يعتقد كلانا أنها القاسم المشترك في جميع الأعمال بقائمته، فقد نتفق جميعا على إستطيقا واحدة ونختلف رغم ذلك حول أعمال معينة؛ أي نختلف حول وجود الصفة س أو غيابها. سيكون هدفي المباشر إثبات أن «الشكل الدال» هو الصفة الوحيدة المشتركة والمميزة لجميع أعمال الفن البصري التي تحرك مشاعري، وسأناشد من لا تنطبق خبرتهم الإستطيقية على خبرتي أن ينظروا ما إذا كانت هذه الصفة في تقديرهم ليست شاملة أيضا لجميع الأعمال التي تحركهم، وما إذا كان بإمكانهم اكتشاف أي صفة أخرى يمكن أن يقال عنها الشيء نفسه.
عند هذه النقطة أيضا يبرز تساؤل - تساؤل خارج عن الموضوع حقا ولكن لا سبيل إلى دفعه - لماذا تتأثر مشاعرنا كل هذا التأثر حيال أشكال متصلة فيما بينها على نحو معين؟ إنه سؤال شائق للغاية ولكنه غير ذي صلة بالإستطيقا، فليس لنا في الإستطيقا المحضة أن ننظر فيما سوى انفعالنا وموضعه؛ ففي حدود أغراض الإستطيقا ليس من حقنا، ولا هو من الضروري بحال، أن ننبش وراء الموضوع في الحالة الذهنية للذي صنعه، ولسوف أحاول لاحقا أن أجيب عن هذا السؤال حتى يتسنى لي أن أقول كلمتي في علاقة الفن بالحياة، غير أنني لن أوهم نفسي عندئذ أن ذلك تتمة لنظريتي الإستطيقية؛ فكل ما يلزم في مبحث الإستطيقا هو أن أثبت فحسب أن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقا لقوانين معينة مجهولة وغامضة، تحرك مشاعرنا فعلا بطريقة معينة، وأن مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا، هذه التجمعات والتنظيمات هي ما أطلقت عليه على سبيل التيسير، ولسبب آخر سنعرفه فيما بعد، اسم «الشكل الدال»
Significant Form .
وهناك مقاطع ثالث علي أن أجيبه، يسألني: «تراك أغفلت مسألة اللون؟» بالطبع لا، فمصطلح «الشكل الدال» هو عندي يتضمن تضام الخطوط والألوان، إن التفرقة بين الشكل واللون هي تفرقة غير حقيقية؛ فأنت لا يمكنك أن تتصور خطا لا لون له، أو تتصور فراغا عديم اللون، ولا هو بإمكانك أن تتصور علاقة بين الألوان لا شكل لها؛ ففي حالة الرسم الأبيض والأسود تكون الفراغات جميعا بيضاء، وتكون جميعا محاطة بخطوط سوداء، وفي معظم اللوحات الزيتية تكون الفراغات متعددة الألوان، وكذلك الحدود، فأنت لا تستطيع أن تتخيل خطا حديا بدون محتوى أو محتوى بدون خط حدي؛ ولذا فحينما أتحدث عن الشكل الدال فإنما أعني تضاما معينا للخطوط والألوان (معتبرا الأبيض والأسود ألوانا) يثير في نفسي هزة إستطيقية.
وقد يندهش البعض لأني لم أطلق على ذلك
beauty (جمال، ملاحة)، إنني بطبيعة الحال أسلم عن طيب خاطر لمن يعرف الجمال بأنه «ضروب من تضام الخطوط والألوان بطريقة تثير انفعالا إستطيقيا.» بحقه في أن يستبدل لفظه بلفظي، غير أن معظمنا، مهما بلغت دقتنا الاصطلاحية، عرضة لأن يخلع نعت «جميل
beautiful » على موضوعات لا تثير ذلك الانفعال الخاص الذي تثيره الأعمال الفنية، فكل منا فيما أظن قد أطلق يوما على فراشة أو زهرة صفة «جميل»، فهل يحس كل منا تجاه الفراشة أو الزهرة بنفس الانفعال الذي يحسه تجاه كاتدرائية أو لوحة؟ من المؤكد أن ما أسميه انفعالا إستطيقيا هو شيء يختلف عما يشعر به معظمنا، بصفة عامة، تجاه الجمال الطبيعي، ولسوف أتطرق فيما بعد إلى أن بعض الناس في بعض الأحيان قد يرى في الطبيعة ما نراه في الفن ويحس إزاءها انفعالا إستطيقيا، ولكن بحسبي الآن أن أقر كقاعدة أن ما يحسه معظم الناس تجاه الطيور والأزهار وأجنحة الفراشات هو صنف من الانفعال مختلف كليا عما يحسونه تجاه اللوحات والأواني الخزفية والمعابد والتماثيل. أما لماذا لا تفعل هذه الأشياء الجميلة في شعورنا ما تفعله الأعمال الفنية فهو سؤال آخر وليس سؤالا إستطيقيا، فلنجتزئ لغرضنا الحالي باستكشاف الصفة التي تعم الموضوعات التي تهزنا بوصفها أعمالا فنية، وآمل في نهاية هذا الفصل، عندما أحاول أن أضع يدي على سبب تأثرنا العميق بضروب معينة من تضام الخطوط والألوان، أن أقدم تفسيرا مقبولا لعدم تأثرنا بنفس العمق تجاه الأشياء الأخرى.
Halaman tidak diketahui