أطار بليلى طائرا كان في صدري
ثم قول كثير عزة:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني
بدل يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة
وخلفت ما خلفت بين الجوانح
وقد علق الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في الكتيب الذي كتبه عن الشعر سنة 1918 كواحد من ثلاثة من رواد التجديد في الشعر العربي الحديث وهم: المازني، والعقاد، وشكري في صفحة 18 من ذلك الكتيب بقوله:
هذان بيتان ليس فيهما معنى رائع ولا فكر دقيق، لكنهما يصفان حال قائلهما أبلغ وصف، ويتغلغلان إلى النفس تغلل الماء إلى كبد الملتاح، وإنما يرجع الفضل في ذلك إلى قوة الخيال. وشرح ذلك أن الشاعر لم يتجاوز الإشارة في بيتيه إلى التبيين، والتلميح إلى التصريح، فذكر الدل ولم يذكر كيف دلها، وإن يكن مثل لك فعله وتأثيره، وقال «وخلفت ما خلفت بين الجوانح» ولم يقل ماذا خلفت، فترك بذلك مضطربا واسعا من الخيال ليتصور لطف دلها وسحره وفتنته وصبابة الشاعر وشغفه وحرقته، وسائر ما ينطوي تحت قوله «وخلفت ما خلفت» فجاءا بيتين كلما زدتهما نظرا وترديدا زاداك جمالا وحسنا. ولو أن الشاعر أراد الإحاطة بجميع ما خلفت، لكلف نفسه أمرا شديدا إذا لانت لها جوانبه كان استيعابه هذا قيدا للخيال وحملا ثقيلا يرزح تحته وينوء به؛ لأن الشعر يلذ قارئه إذا كان للمعاني التي يثيرها في ذهن القارئ في كل ساعة تجديد، وفي كل لحظة توليد، فأما ما يأخذ على الخيال مذهبه، ولا يترك له مجالا فهذا هو الغث الذي لا خير فيه؛ لأن حالات النفس درجات، فإذا أنت صورت أقصى درجاتها لم تبق للخيال من عمل إلا أن يسف إلى ما هو أحط وأدنى، ولذة الخيال في تحليقه، ومن هاهنا قالوا في تعريف الشعر إنه لمحة دالة ورمز لحقائق مستترة. يعنون بذلك أن الشاعر ليقذف بالكلمة فتأخذها الأسماع وتعيها النفوس، ويستوعب معانيها الخيال.
وبهذا التعليق وأمثاله تتحقق الفلسفة الشعرية التي نادى بها هؤلاء الرواد، وهي فلسفة أقرب ما تكون إلى فلسفة الرمزية التي لا ترى أن وظيفة الشعر هي استنفاد كل ما في وجدان الشاعر وسكبه في وجدان الآخرين، بل ترى أن وظيفته هي الإيحاء عن طريق الصورة والموسيقى بحالات نفسية إيحاء ينير - عن طريق التأمل - للآخرين نفوسهم، فيستشعرون وقع التجربة التي عاناها الشاعر في واقع حياته أو بطاقته التصويرية التي تخلق التجارب، بل وتستطيع أن تخلق الحياة ذاتها. والواقع أن هذا الاتجاه الرمزي في مدرسة التجديد الشعري في أدبنا المعاصر يكاد يتفق عليه جميع رواد التجديد في تلك الدعوة سواء منهم جماعة الديوان أو شعراء المهجر أو الشاعر المجدد الكبير خليل مطران الذي كون وحده مدرسة قائمة بذاتها امتدت خصائصها إلى جماعة التجديد في الجيل التالي، وهي جماعة أبوللو التي ازدادت إيمانا بطرائق التعبير الرمزي والتصوير البياني أمثال: بودلير، وفيرلين، ومالارميه، وفاليريه، وإدجار ألن بو الذي كان يقول إنه يسمع قدوم الليل، كما كان يقول إنه يرى من كل قنديل صوتا ناعما رتيبا ينساب إلى أذنيه، ثم رابندرانات طاغور شاعر الهند الأكبر الذي رأينا - كما سبق أن قلنا - الشاعر الأبوللي الشاب محمد عبد المعطي الهمشري يصيح معجبا في مقال له عن الإبهام الرمزي بمجلة أبوللو بقوله «السكون المشمس».
وفي الحق إن أروع تجديد نلمحه في شعرنا المعاصر ويميزه عن شعرنا التقليدي إنما هو المنهج الرمزي في التعبير؛ أي تفضيل الصورة دائما على التعبير المباشر والقصد إلى الإيحاء أكثر من القصد إلى الإبانة والإفصاح، وفي هذا يفترق التعبير الرمزي افتراقا دقيقا عن التعبير الكلاسيكي الذي كان يكره الغموض والإبهام، ويرى أن كل ما يدرك بوضوح يسهل التعبير عنه بوضوح، ومن المؤكد أن الرمزية السليمة لا يرجع ما فيها من إبهام إلى غموض في الإدراك أو في الرؤية الشعرية، وإنما يرجع إلى فلسفتها الشعرية التي ترى أن وظيفة الشعر هي الإيحاء بحالات نفسية مركبة لا يسهل دائما تحليلها إلى عناصرها الأولية، بل إننا حتى لو نجحنا في هذا التحليل لن نستطيع بفضله نقل العدوى بتلك الحالة النفسية المركبة من نفسنا إلى نفوس الآخرين؛ وذلك لأن كل مركب توجد فيه خصائص ناتجة عن التركيب نفسه وليست موجودة في العناصر المكونة لهذا المركب، وفي مثل هذه الحالات لا يكون أمام الشاعر وسيلة ناجحة غير وسيلة الإيحاء عن طريق الصورة والرمز، ومن المؤكد أن الذي يطربنا ويشجينا ويهز وجداننا في قصيدة مثل قصيدة العودة لشاعرنا الكبير المرحوم الدكتور إبراهيم ناجي إنما هو الإيحاء القوي عن طريق الرمز والتصوير البياني؛ حيث يقول:
Halaman tidak diketahui