وليس شك أن السعادة هي سلام النفس، وهل شك أحد في أن سلام النفس هو فكري وليس ماديا؟
والعجب أن المتع الحقيقية في هذا العالم، تلك المتع التي نسعد بها، أسهل حصولا وأرخص قيمة من المتع الزائفة التي قصارى ما تؤدي أننا نسر بها سرورا وقتيا زائلا، وهي يجب أن تكون كذلك؛ لأن السعادة فكرية، والفكر لا يكلفنا مالا، ولكن السرور مادي يكلفنا مالا وجهدا، وأحيانا تفوتنا فرصة السعادة، فرصة الحياة الفنية؛ لأننا استغرقنا حياتنا في السرور واللذة.
ونستطيع أن نعود هنا إلى المقارنة بين القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية؛ ذلك أن قيمة السعادة بشرية: في الفكر، والاتجاه، والتأنق الفني، والتأمل الفلسفي، والرؤيا للمستقبل والمثليات، والكفاح لهذه الأشياء جميعها. وجميع هذه الصفات ذاتية في ذات أنفسنا، وهي بشرية لها قيمة اجتماعية، ولكن قيمة السرور اجتماعية في الأغلب؛ لأنها تنشأ من اعتبارات المجتمع؛ لأني أسر - مثلا - باقتناء أتومبيل؛ إذ إن مثل هذا الاقتناء قد عده المجتمع تبريزا وتفوقا، أو أسر بالثراء؛ لأن المجتمع يعد الثراء تفوقا ونجاحا.
وهل نستطيع أن نتعلم كيف نكون سعداء؟
أجل، نستطيع ذلك بأن نجعل وجداننا فوق غرائزنا؛ أي نجعل التعقل فوق الشهوات، وكذلك بأن نتعلم ونهتم بما هو أسمى من همومنا الشخصية؛ نهتم بالناس والسياسة، والهند، والإمبريالية، والنجوم والكواكب، والحيوان والنبات، ومستقبل الصحة والحيوان والنبات، ومستقبل البشر وماضي الأحياء، والتطور الماضي والقادم، والمرض والصحة، والدين والأدب والفلسفة. وهذه الاهتمامات المتعددة تبسط لنا آفاقا رحبة للتفكير، فلا تحدنا حدود الشهوة، ولا تستعبدنا الغرائز في اهتمامات مادية غايتها لذة الطعام، ومتعة اللباس والمسكن، واقتناء مواد لا تحصى، بل لا تفتأ تبعث فينا الرغبة في الزيادة. هذه الرغبة التي تجهدنا، بل أحيانا نسير فيها سادرين ذاهلين، وقد نموت قبل أواننا ونحن لا ندري أننا كنا مسوقين باعتبارات اجتماعية هي أبعد ما تكون من السعادة.
قلنا في أول هذا الفصل أننا نسعد بالفكرة أو الإيمان أو الرؤيا أو الأمل إذا كان أحد هذه الأربعة يحفزنا إلى الكفاح. وهنا نحتاج إلى تفصيل موجز: ذلك أن الطاقة النفسية لا تطيق الحبس والكتم والكفاح؛ ولذلك فإن لشأن ما، أي شأن نعتقد أنه حسن، يفتح لنا قناة تنصرف إليها الطاقة. أما إذا حبست هذه الطاقة فإنها تحدث لنا في الحالات الخفيفة نيوروزا؛ أي ضيقا عاطفيا، وفي الحالات الخطيرة تحدث سيكوزا؛ أي جنونا.
ولذلك كثيرا ما نجد الشاب مضطربا متشائما تسوده هموم مبهمة لا يعرف مأتاها، فإذا انضوى إلى حزب سياسي - مثلا - انطلق في تفاؤل يعمل ويسر بعمله، وهو سعيد بهذا الكفاح الذي يبعث فيه نشاطا، ويحمله على الدرس والخدمة والتعاون، ويخرجه من أنانيته، وهو هنا يشعر بالسعادة.
وعلى هذا نقول: إن السعادة تحتاج إلى كفاح، وسلام النفس لا يعني ركودا وجمودا، بل هو أحرى بأن يبعث نشاطا وهمة، وإنجازا لأمل، أو تحقيقا لرؤيا، بحيث يكون هذا الأمل أو هذه الرؤيا عند أحدنا أسمى وأعم من همومه الشخصية الذاتية؛ لأنها بسموها وعموميتها تكسبه كرامة، وتجعل لحياته معنى، بل مغزى. وهنا السعادة.
تعقيب على السعادة
كلنا تقريبا ننشد السعادة ونتحدث عنها كما لو كانت من البديهيات التي لا تستحق مناقشة؛ لأننا نعد السعادة خير ما يطلب في هذا الوجود.
Halaman tidak diketahui