ويجب أن نتعود قراءة الجريدة والمجلة والكتاب كما نتعود القهوة والشاي، ويجب أن نزداد رغبة في امتلاك هذا الكوكب نفسيا وذهنيا وفنيا كلما ازداد هو تقلصا بالمخترعات الجديدة؛ حتى تتسع آفاقنا حسا وذهنان فلا تضيق بحدود القطر أو القارة، بل تشمل شئون العالم كله والبشر جميعهم.
ثم يجب ألا يغيب عنا أن التربية البشرية تخاطب الذهن، أي تزيد الوجدان؛ حتى نعيش في يقظة، ونطلب زيادة هذه اليقظة بتعلم المعارف والفنون، ولا نعيش ذاهلين ذهول الحيوان الذي تسوقه غرائزه. والفرق كبير بين الذهن اليقظ والذهن الذاهل، وهو يعود في الأغلب إلى عادة القراءة. وكذلك الفرق بين شيح هرم قد خرف أو تبلد ذهنه، وبين شيخ لا يزال له حدة وفتوة ويقظة وذكاء، يعود إلى أن الأول لم يتعود القراءة، وأن الثاني قد تعودها. والقراءة تجعل الكلمات مألوفة في الذاكرة سهلة الاستحضار، ولما كانت المعاني مجسمة في كلمات؛ فإن من البعيد جدا أن نجد رجلا يهرم ويتبلد ذهنه ما دامت الكلمات حاضرة معدة لتنبيهه.
ومن هنا القيمة العظمى لصحة الشيخوخة من تعود القراءة؛ لأن الذهن يمرن على الفهم بالقراءة كما يمرن الجسم على الحركة بالرياضة، وتبقى هذه المرانة إلى الشيخوخة.
كذلك يجب أن تكون تربيتنا موسوعية؛ أي يجب أن نلم بجميع المعارف البشرية، وقد أحدثت لنا القنبلة الذرية وجدانا بهذا الإحساس. وصحيح أنه يجب أن تكون لنا بؤرة؛ أي نقطة للتعمق والتخصص في المعارف، ولكن يجب أن نتشعع من هذه البؤرة العميقة إلى التوسع في الآفاق الذهنية الرحبة، كما يجب أن يكون كل منا سقراطيا؛ أي يعرف أنه لا يعرف فيدرس العلوم والفنون والآداب والفلسفات، ويبقى على هذا حتى يموت «وعلى صدره كتاب»، كما قيل عن الجاحظ.
وفي المستقبل القريب، بل القريب جدا، ستتغير التربية من التعليم للحرفة إلى التعليم للحياة، وعندئذ نتجه نحو استخدام فراغنا الذي سيزيد عاما بعد آخر، وكثير منا - حتى في عصرنا هذا - يستمتعون بفراغ يبلغ أربع أو خمس ساعات كل يوم، وعندئذ ستكون مشكلة التربية: كيف يتصرف الشاب أو الفتاة بهذا الفراغ؟ وكيف ينتفع به ويستمتع؟
وهذا السؤال يعود بنا إلى النغمة التي نفتأ نعزف بها، وهي أننا يجب أن نعلم الناس كيف يعيشون الحياة المليئة، وكيف يتعمقون في حياتهم ولا يقنعون منها بالعيش على سطحها أو هامشها، نعلمهم أن غاية التربية أن يحيوا وليس أن يحترفوا، ونحرك فيهم العقل الاستطلاعي اليقظ الذي يشتهي المعارف، ويعرف أيضا أين يبحث عنها ويجدها، ونعلمهم أن هدف الحياة أجل؛ هو الحياة في تعمق وتأنق، وليس هو الحرفة أو المال أو التفوق.
وأخيرا نقول: إن التربية الحقيقية هي التربية الذاتية؛ فلا ييئس أحد لأنه لم يمتز بتعليم جامعي، أو لأن ظروف حياته الماضية لم تهيئ له الفرص للدراسة؛ لأنه يستطيع أن يشرع في أي وقت، وأن يضع البرنامج الدراسي الذي تحتاج إليه تربيته، وهو أقدر إنسان على وضع هذا البرنامج؛ إذ هو الوحيد الذي يعرف حاجاته وكفاءاته.
القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
نحن نعيش في المجتمع المتمدن بدستور أخلاقي نأخذه كله أو 99 في المائة من العائلة التي نشأنا فيها، والشارع الذي مارسنا فيه اختبارات الطفولة، ومن زملاء المدرسة والحرفة، ومن غير هؤلاء ممن تحملنا حياتنا الحرفية أو الاجتماعية أو السياسية على الاحتكاك بهم. ونحن نزن الرذائل والفضائل بميزان هذا المجتمع، ونأخذ بالقيم التي يعينها لنا.
وكثيرا ما نأخذ بقيم وأوزان فاسدة؛ لأن المجتمع الذي نعيش فيه فاسد، وكثيرا ما يخفى علينا هذا الفساد فنندفع في التيار لا نقف ولا نتردد، ولكن أحيانا نقف ونتردد، وعندئذ يكون التقلقل والبحث والتجديد، ثم تكون قيم وأوزان جديدة.
Halaman tidak diketahui