فقد يؤخذ على سونزي أنه رفع من قيمة القائد وأكد على أهمية دوره - أكثر مما يمكن تبريره - معتبرا إياه، وعلى حد تعبيره «سيد حياة الممالك وسبب أمنها أو ترويعها» بينما احتقر شأن الجندي المقاتل، مما يعد خطيئة لا تغتفر، وليس مجرد سوء تقدير.
ثالثا:
مما يعاب على سونزي أنه، وكنمط عام في كتاباته، يصدر أحكاما مطلقة فيما يتصل بمبادئ الحرب، دون تخصيص يستند إلى حكمة ورؤية التجربة الشخصية التي عاشها بنفسه.
وبرغم كل شيء، فقد كان - وسيظل - كتاب فن الحرب لسونزي هو الكتاب العمدة في تراث الفكر العسكري الصيني بل العالمي، وتشهد سجلات التبادل الثقافي بين الصين والعالم الخارجي أن أول محاولة لنقل الكتاب إلى لغة أجنبية كانت إلى اليابانية، وذلك في عهد أسرة طانغ الملكية (734م) على يد طالب ياباني كان في رحلة دراسية، وحاول نقل الكتابين العسكريين: «فن الحرب عند سونزي»، «أوتزي» إلى بلاده، وذلك بعد أن قام - في زمن بعيد كانت تحكمه مفاهيم في نقل الأفكار وتقاليد مختلفة - بإخفاء المدونتين في لوحات مصورة؛ اتقاء للظنون التي كان يمكن أن تتوصل لكشف محاولته السرية. وفي عام 1782م ترجم الكتاب إلى الفرنسية على يد «أميوت»، عضو الجمعية التبشيرية، والمترجم المشهور، ثم ترجم إلى الإنجليزية، لأول مرة في عام 1908م بقلم أحد الدارسين البريطانيين من المبعوثين إلى اليابان (وهو الرائد البحري: «كالثروب») وجرت ترجمته للمرة الثانية وعلى نحو أكثر دقة في سنة 1910م على يد «ليونيل جايلز» المتخصص في الدراسات الصينية، وتلك هي النسخة المعتمدة في الترجمة الإنجليزية - حتى اليوم - ثم جاءت ترجمة الأمريكي «غريفيث» - في عام 1963م - لتسد النقص الذي وقع فيه «جايلز» وتنتج نصا سليما، ولا غرو، فقد أنفق المترجم سنوات طويلة من عمره في مراجعة نصوص «فن الحرب» وشروحه، بل كان هذا الكتاب وحده هو مجال تخصصه حينما عكف على دراسة الثقافة الصينية القديمة، هذا بالإضافة إلى ما حظي به الكتاب من ترجمات إلى لغات عدة من بينها اللغة العربية، لا سيما ما صدر فيها عن المركز القومي للترجمة (وزارة الثقافة، القاهرة) على يد الأستاذ الدكتور هشام المالكي، وهي واحدة من أفضل الترجمات الصادرة حتى الآن في اللغة العربية إن لم تكن أشمل وأوفى الترجمات على الإطلاق - في العربية أو غيرها - فهي قد شملت بجانب النص الأصلي ترجمة الشروح المصاحبة وأضافت إليه هوامش وإحالات توضح مختلف الظروف والأحوال التي تنعكس فيها تطبيقات النصوص الواردة في الكتاب، مستعرضا في ذلك مجالات متعددة، تتجاوز مجرد الاقتصار على الجانب العسكري وحده، لتشمل ميادين تبرز فيها نماذج الصراعات أو المنافسات كالتبادل التجاري أو العلاقات الدبلوماسية أو أنشطة المال والاستثمار وفنون إدارة الأعمال، مما يمكن أن تكون موطن احتدام لإرادات متنافسة ... إلخ، فهي ترجمة ذكية أدركت مغزى النص في محتواه اللغوي المباشر - وإشاراته التي تنطوي على إحالات مرجعية محتملة - وهذا ليس غريبا على مترجم يملك أدوات الاقتراب من نص في معجمه اللغوي والثقافي بحكم أستاذيته، فقط أرجو أن يستكمل سيادته ترجمة باقي أجزاء الكتاب الذي لم يصدر من ترجمته سوى الجزء الأول.
وبالطبع فإن باقي الترجمات، ولو أنها عن لغات وسيطة، أسهمت في إضاءة الوعي بقيمة هذا الكتاب، ولطالما كنت أعتقد - بمناسبة الكلام عن الترجمة غير المباشرة - بأن التصورات الكهنوتية الجامدة التي تتبناها دوائر الترجمة حول القيمة (المبالغ فيها) للترجمة عن لغات أصلية، بالإضافة إلى كثير من المفاهيم الأخرى المتحجرة عن النشاط الترجمي، يمكن أن تتسبب في تراجع عملية الاتصال الحضاري بصورة خطيرة، فلماذا الإصرار على تفضيل الترجمة عن لغة مباشرة؟! ألا يعلم أولئك المتشددون أن الكثير من روائع الفكر والأدب في مختلف ثقافات العالم عرفناها أولا عبر تلك اللغات الوسيطة، ولولا الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية لما عرفنا مثلا قيمة كتاب مثل «الطاو» أو «محاورات كونفوشيوس» في التراث الصيني، لولا الترجمة الإنجليزية ما كنا لنقف على روعة رباعيات الخيام في الفارسية، ولا الكاماسوترا الهندية، ولا كنا عرفنا أن كتبا مثل «كوليانمول» في الهندية أو «ليتزو» - في الصينية - يمكن أن تحمل قيمة تتوازى مع «ألف ليلة وليلة»، و«المواقف والمخاطبات» في التراث العربي. إن كتابا مثل «فن الحرب» عرفته أوروبا أولا عن لغة وسيطة هي اليابانية - أول الأمر - وكانت اليابانية أيضا، وللغرابة، هي اللغة التي قدمت إلى الصينيين أحد أهم عيون التراث العربي «ألف ليلة وليلة». إن الترجمة عن لغات وسيطة، في رأيي، يمكن أن تكون وسيلة لاكتشاف أهمية نص لم يقرأ أو لم يعرف في لغة الأصل، أقول هذا، وأنا أحد الذين يقدمون أنفسهم للقارئ العربي باعتبار التخصص في الترجمة عن لغة أصلية هي الصينية، لكن المسألة، هنا، لا تتصل بما يراه فرد واحد من قيمة لما يملك من مؤهلات، وإنما يرتبط بما ينبغي أن تملكه أمة كبرى من جسور اتصال ثقافي مع الدنيا من حولها، لكن تلك قضية أخرى.
ولنرجع إلى ذلك العبقري الصيني، العسكري الداهية سونزي، ولو أن حفيده سونبين هو مدار بحثنا موضوع هذه المقدمة والكتاب كله، لكن نبذة عن الرجل الأول يمكن أن تفيد في فهم أفكار الثاني، خصوصا أنه ترسم خطاه وسار على نهجه. وقد قيل في مجال تبيان أهمية كتاب «فن الحرب» التي تأكدت بكثرة وتعدد ترجماته إلى اللغات الأوروبية [ترجم إلى 29 لغة أوروبية] إن مقدمة إحدى الترجمات (عن الإنجليزية) كان قد قدم لها «ليدل هارت» وهو أحد أشهر المفكرين العسكريين في القرن العشرين. وقيل إنه اقتبس الكثير من كلمات سونزي وهو يضع مقدمة مؤلفاته العسكرية، وقيل كذلك إن القادة العسكريين الأمريكيين إبان حرب الخليج كانوا يحملون في جيبهم نسخة منه وهم في قلب ميادين القتال إلى آخره، وهي حكاية تثير التأمل في طريقة استقبال نصوص في وسط ثقافي مغاير وزمن استدعاء له طرق إدراكه وأهدافه وتأويله، وقد يكون فن الحرب الذي كتبه سونزي سعيا للتصالح مع مفهوم جمعي لبيئة حضارية هددتها النزاعات الدامية في مقتل وأوشكت أن تضيع مواريثها الفكرية المقدسة (لاحظ أنه لم يكن مشايعا للخطط الهجومية)، مختلفا عن فن الحرب الذي قرأه ليدل هارت وسط ظروف غابت فيها فكرة البيت الصيني الواحد الذي يدرك أزمته بوعي تاريخي وليس من منظور جغرافي (الصين صيغة تاريخية أساسا في حين أن بريطانيا كيان جغرافي رغم أنفه)، لكن تلك مسألة ثانية، على كل حال، وعموما فلا بد من الإشارة إلى أن ظروف التدوين التي صاحبت عهود التوثيق التراثي في الصين كانت تضع نصوصا مكتملة هذا صحيح، لكنها أيضا نصوص متحركة غير ثابتة في أطر تصنيفية محددة، فأنت تجد شيئا من فن الحرب في كتاب الطاو، وهو مدونة فلسفية، بالدرجة الأولى، ثم تجد فصولا بحذافيرها من كتاب منشيوس واردة في كتاب «حدائق الكلمات» للمؤرخ الأديب «ليو شيانغ»، وتجد في كتاب سونبين اقتباسات مطولة من كتاب «أوتسي»، ومعظم الكتب لا يعرف أصحابها الحقيقيون؛ لأنها من وضع التابعين والدارسين، كلها تقريبا، وهكذا تلاحظ أن الكتب تبدو انعكاسا للمشهد الطبيعي والتاريخي للصين، هي أيضا جزء من ملامح موطنها الثقافي، ممتدة في الزمان بشكل رأسي وفي المكان، متنوعة الخصب والأقاليم، تنتظمها هياكل من تصورات تضع لكل منطقة خصائصها وقد تحيطها بسياج شاهق في ارتفاع السور العظيم، لكنها في نهاية المطاف مجرد حدود وهمية، تخلي مكانها لروابط المتصل التاريخي الكبير. نعم، قد نكون أمام كتاب واحد في التراث الصيني، لكن من الصحيح أن ندرك أننا لسنا أمام نص واحد بأي حال. وكان المترجمون اليابانيون هم الذين أدركوا هذه السمة، فحرصوا على نقل مجموعات من الكتب التي تتناول موضوعات قائمة بذاتها، ففي الموضوع العسكري مثلا نلاحظ أن كتابا مثل «ويلياو تسي» - بموسوعيته وشموله - قد استحق ترجمات بلغ عددها الثلاثين. من هنا، فقد رأيت أنه قد يكون من المفيد أن نطالع مع القراء العرب أكثر من كتاب في فنون الحرب الصينية (وما هذا الكتاب الذي تقرأه الآن إلا بداية لمشروع ترجمة الكتب السبعة الرئيسة في هذا المجال) ليس فقط لأهميتها بالنسبة للدارس المتخصص في تاريخ الفكر العسكري، وإنما أيضا للقارئ في الثقافة الصينية، بل الكتلة الحضارية الكبرى في منطقة أقصى شرق آسيا (فالتراث الصيني مؤثر، بقوة ووضوح، في اليابان وكوريا وغيرهما).
أما عن كتاب سونبين في فن الحرب، فهو ليس كسابقه العظيم سونزي ؛ ذلك لأن نسخته الأصلية كانت قد فقدت تماما في أواخر عصر أسرة هان الشرقية (25-220م) حتى تشكك الناس في العصور اللاحقة في وجود من يحمل هذا الاسم «سونبين» وظنوا أنه يمكن أن يكون مجرد شخصية خيالية، بل نسبوا هذا اللقب إلى سونزي، باعتباره أحد التسميات التي أطلقت عليه معتقدين أنه ليس هناك سوى كتاب واحد فقط، ورثوه عن الأقدمين، بعنوان «فن الحرب» وأن مؤلفه هو سونزي وليس هناك لا كتاب آخر ولا مؤلف غيره، أو بمعنى أدق صادروا على فكرة وجود سونبين وكتابه من الأساس.
وفي السابع من فبراير عام 1972م، وأثناء البحث في إحدى الحفائر الأثرية، بمنطقة «شاندونغ» في الصين، عثر على نسخة من كتاب «فن الحرب لسونبين» وجد على هيئة ثلاثمائة وأربع وستين قطعة من رقائق الخيزران، مقسمة محتوياتها إلى بابين كبيرين، في كل منها خمسة عشر فصلا، وبرغم ذلك، فلم يسلم الكتاب المكتشف من الشك والمزاعم التي لم تدع فيه شيئا إلا اتخذته ذريعة لإثارة الريبة حول صحته، فمن قائل بأن الباب الثاني من الكتاب مقحم على المتن، وآخر زاعم بأن هذا الباب مجرد جزء هامشي من الملاحق المضافة إليه، وثالث يرى بأنه فصل زائد على النص الأصلي، مقتبس من كتاب آخر، وتعليل ذلك أن هذا الباب ليس كسابقه الذي كان يورد في أول كل فصل عبارة «قال سونبين: ...» أو «قال ملك وي: ...» إلخ. وهو الزعم الذي لاقى اقتناع الكثير من الباحثين والدوائر العلمية ذات الصلة، وبناء عليه فقد صدرت طبعة ثانية منقحة في 1985م مشتملة على الجزء الأول فقط بعد أن حذفت الجزء الثاني بفصوله جميعا، إلا فصلا واحدا رأت إضافته إلى الجزء الأول باعتبار أنه صحيح النسب إلى الكتاب، وتصورت أن ما اتخذته من تعديلات هو عين الصواب، بحجة أنها بذلك تكون قد انتهت إلى إقرار نسخة ذات مادة موثوق بصحتها، ومنذ ذلك الوقت توالى صدور طبعات جديدة من الكتاب تنحو هذا المنحى، في الوقت الذي أصرت فيه دور نشر أخرى على تقديم الجزءين معا ، اعتمادا على ما تمخضت عنه جهود الكشف الأثرية من نتائج، وهو الاتجاه الذي انحزت إليه منذ البداية، مقتنعا بأن من حق القارئ العربي أن يطالع نسخة تجمع الجزءين، ولتختلف مدارس النقد وتحقيق التراث الصيني ما شاء لها أن تختلف، هي أدرى بما تدركه وتحتاجه من معالجات لهذا النص، لكن حين يتقرر حذف جزء كامل من كتاب مهم بهذا القدر، فليس أقل من أن يعرف قارئنا ما هو ذلك الجزء الذي يراد له الاستبعاد، ولماذا؟ وربما كان التقدير الصحيح يفرض علي أن ألحق هذا الجزء بالهامش بدل المتن، لكني عدلت عن هذه الفكرة بسرعة، ما دامت بعض دور النشر الصينية قد سبقت إلى احتواء ذلك الجزء داخل النص الأصلي، هذا بالإضافة إلى أن مثل هذا التصرف قد يعد إملاء لقيمة محددة يجري إقحامها على النص من خارجه، والأسوأ أن يتم ذلك على يد المترجم، وبالتأكيد فهناك من المترجمين من يملكون هذا الحق بحكم التخصص أو الأهلية التي يكتسبونها لكونهم متضلعين أو خبراء في المادة موضوع الترجمة، ولست واحدا من هؤلاء، ثم كان الأمر يتطلب، قبل الإحالة إلى هوامش، أن أقدم موضوع الكتاب في إطار خطة بحثية أطرح فيها ما يبرر التصرف في النص على أي وجه كان، باعتباري باحثا أو مصنفا، قبل أن أكون مترجما، وهو ما لم أقصد إليه بأي حال، بل اجتهدت دائما ألا أتجاوز حدودي كمترجم ناقل، لا مترجم متصرف، أو حتى مفسر أو شارح.
وعموما، فقد استبدت بي روح النقل المباشر، حتى إني - ولا أدري إن كان ذلك مفيدا في شيء - حرصت على ترجمة بعض ما ورد من فقرات قليلة بين الفصول، قيل إنها وجدت منبثة بين ثنايا الفقرات والأبواب، دون أن تكون جزءا مكملا للمتن، ولم يترجمها المحققون إلى الصينية الحديثة (التي أترجم منها أساسا) فعمدت إلى ترجمتها معتمدا على ما لحق بحواشيها من تعليقات وشروح، وما توافر لي من معرفة - ضئيلة - بالصينية الكلاسيكية (هل النسبة إلى «كلاسيك» هكذا، ممكنة دون لفظ «كلاسي»؟)
ومفهوم، طبعا، إحجام المحققين عن ترجمة تلك الفقرات وغيرها، ومفهوم أكثر ما قامت به كثير من الطبعات من حذف لفقرات مطولة أو أبواب كاملة لأن المستقر في ذهن النقاد والدارسين أن الكثير من نصوص كتاب فن الحرب لسونبين، تم تدوينه على يد تلاميذه. الكل متفق على ذلك، الاختلاف ينشأ، فقط، حول تقدير الوقت أو الفترة الزمنية التي شهدت تلك الإضافات.
Halaman tidak diketahui