الأدبية تنظيم لتصرف الحي أو سلوكه بحيث يجعل هذا التصرف الحي متقيا الأخطار المهددة لكيانه، ومنتفعا من البيئة: طبيعية واجتماعية؛ حرصا على بقائه. يجعله مطاوعا للبيئة القاسية العتية التي لا تطاوعه، ومكيفا البيئة اللينة التي تطاوعه تكييفا يقدره على أن يدرأ الشر وينتفع بالخير. الأدبية إذن هي التعقل الأسمى، الفضيلة، هي تاج العقل الاجتماعي.
نشأت هذه الأدبية مع الحياة كنشوء العقلية معها منذ أبسط أدوارها؛ أي: منذ نشوء الخلية المفردة، وترقت معها حتى بلغت إلى درجة الإنسانية؛ فهي بسيطة مع الحي البسيط، ومركبة معقدة مع الحي الأعلى المركب المعقد.
الأدبية إذن عالم خامس من عوالم الكون: المادة، الحياة، العقل الفردي، العقل الاجتماعي، الأدبية. (6) فماذا بعد هذه؟
هل يقف التطور الكوني عند هذا الحد؟
لا نظن. بل نعتقد أن التطور مطرد مستمر، لا ندري ماذا يأتي بعد الأدبية من الأنظمة الكونية الرئيسية، ولكننا ننتظر أن يكون في قلب الطبيعة حلقات جديدة من سلسلة الأنظمة، نجهل شكلها وأسلوب حركتها وغايتها، ستبرزها الطبيعة في لوحة المستقبل.
نعتقد ذلك لأننا رأينا أن العقل ما رسا على سطح المادة فقط، بل جعل يبني طبقات فوقها؛ ففي الأحياء الدنيا كانت الغريزة البسيطة كافية للحرص على البقاء، هي ضرب من الفهم، هي فهم داخلي فقط متفاعل مع عوارض البيئة، نقول: إنها فهم داخلي؛ لأنه كان يكيف خليات أعضاء الحي بحسب ما تقتضيه البيئة، ثم ارتقى في الأحياء العليا فصار فهما خارجيا أيضا مضافا إلى الغريزة، صار من جهة يكيف الحي بمقتضى البيئة، ومن جهة أخرى يكيف البيئة ما استطاع لكي تطاوع الحي. في الدرجة الأولى الحي الأدنى آلته أعضاؤه فقط، وفي الدرجة الثانية الحي الأعلى لم يكتف بأعضائه آلة له، بل استنبط آلات خارجة عنه كالعدد الميكانيكية وغيرها يستخدمها في الحرص على بقائه، وقد نجح في استنباط الآلات الخارجية حتى كاد يستغني عن استخدام بعض آلاته العضوية، وقد بطل عمل بعضها بهذا الاستغناء، فلا يدب على الأربع ولا يستعمل أخمص قدمه كفا للقبض ككف يده كبعض أشباه الإنسان، ولا يجتر، ولم يعد يستطيع الركض السريع، ولم تبق له مخالب ... إلخ؛ لأن آلته أغنته عن كل هذه.
ثم ارتقى الفهم في الأحياء العليا أيضا درجة أخرى، إذ صار يدرك أن له إدراكا، وصار يفهم الفهم، وصار يعلل ويفسر ويتفلسف؛ أي: صار له عالم عقلي قائم بذاته مجرد عن المادة؛ فكثير من غرائزه تحولت إلى تعقل مستند إلى الاختبار وإلى استدلال واستنتاج من مجرد التفكير بتحليل الظاهرات.
هنا نشأت درجة التجريد
Abstraetion ، والرياضيات أعظم وأظهر نموذج للتجريد هذا، فما أدرانا أن ينشأ من هذا التجريد الذي هو أعلى ظاهرات العقل عالم آخر ليس لنا الآن أقل تصور عنه؟ ما أدرانا أن يصبح الفهم العادي في المستقبل البعيد كغريزة في الإنسان، فيولد الطفل فاهما أمورا كثيرة كما يولد الآن وهو يفهم أن غذاءه في ثدي أمه فيرضعه بلا تعلم؟ ما أدرانا أنه في المستقبل البعيد يولد وهو يفهم مبادئ الرياضيات والطبيعيات كأن هذا الفهم شيء طبيعي في خليات دماغه سجية من سجاياها؟ وما أدرانا أن شعوره الداخلي يرتقي إلى حد أن يفهم معنى الجاذبية بلا إرشاد ولا تعلم؟ وما أدرانا أنه في ذلك الزمان يفهم النسبية بالبديهة كما يفهم الآن أن القيمتين اللتين كل منهما تساوي قيمة ثالثة هما متساويتان؟
وما أدرانا أن يقوى التيار الكهربائي في أعصابه فيفهم التموج الكهرطيسي فهما طبيعيا، وحينذاك لا يبعد أن يصبح التفاهم عن بعد بلا واسطة ظاهرة - على نمط الراديو - شيئا طبيعيا في الناس؛ إذ تصبح أدمغتهم شديدة الإحساس بالأمواج الكهرطيسية الصادرة من أدمغتهم، وحينئذ يبزغ عالم سادس من عوالم الكون لا نعرف الآن كيف نصفه؟
Halaman tidak diketahui