ويغدو التاريخ أمرا مستحيلا إذا ما وجبت دراسة تعاقب العلل البعيدة التي تعين كل حادثة؛ ولذلك يجب أن يسلم بدراسة العلل مباشرة، ثم ببحث موجز في العوامل العامة التي كانت ذا أثر في تكوينها زمنا طويلا، أجل، تتألف حوادث التاريخ من الوقائع غير المنتظرة، كقيام أديان عظيمة قادرة على تغيير الحضارة، وخضوع أوربة لضابط بسيط صار إمبراطورا. ولكنه يشاهد بجانب هذه الانقلابات العارضة تسلسل على شيء من الانتظام في تطور الأمم وتتبع العناصر الأساسية للحياة الاجتماعية، كالنظم السياسية والتملك والأسرة، إلخ، سيرا وثيقا كالذي تتحول به الخلية الدنيا إلى بلوطة خضراء، فحال الأمة الحاضر يعين بتعاقب أحوالها السابقة، ويخرج الحاضر من الماضي كما يخرج الزهر من البذر. •••
وفي دور بعيد قليلا حين لخص بوسويه مبادئ زمنه في الكون والإنسان في رسالة مشهورة، كان يمكن فلسفة التاريخ أن تصاغ في بضعة أسطر فيقال: إن قدرة صمدانية قاهرة كانت توجه مجرى الأمور وتنظم مصير المعارك، فلا تقع أية حادثة خارج إرادتها.
وقد عدل العلماء عن هذا المبدأ على العموم ومع ذلك لا يزال منتشرا؛ ومن ذلك أن صرح أحد رؤساء الوزارة البريطانية، منذ سنين قليلة من فوق المنبر، بأن الحكمة الربانية قضت علانية بأن تحكم إنكلترة في العالم، وقبل ذلك بقليل كانت هذه الحكمة الربانية قد فوضت إلى ألمانيا تمثيل هذا الدور كما قال إمبراطورها.
ومع أن تأثير العزائم الربانية الموجهة لسير العالم لا يزال حيا في حياة الأمم، يزول بالتدريج أمام الجبرية التي تبصر في الضرورة ما يسير الأمور من روح.
وبما أن التاريخ ليس علما، بل مركب من علوم مختلفة، فإن مبدأه يختلف بين جيل وجيل بحكم الضرورة، وتتضمن فلسفته الحاضرة بفضل مبتكرات العلوم بعض المبادئ الجوهرية في تطور العالم وطبيعة الإنسان، وهكذا حملنا على درس موضوعات لا ترى في كتب التاريخ عادة، وإن كانت أسسه الحقيقية. •••
وإلى دور حديث نسبيا - ما دام لا يفصلنا عنه غير قرن ونصف قرن تقريبا - كانت معارفنا فيما خلا منطقة الرياضيات والفلك لا تجاوز على الإطلاق ما يعلمه أرسطو تلميذه الملكي الإسكندر منذ ألفي عام، فكان يعد الهواء والنار والتراب والماء دائما عناصر مكونة للعالم، وكان لا يخطر ببال أمر الكهربا والبخار وجميع القوى التي تسيطر على النشاط الحديث، وكان يظل مجهولا عالم الكمية الصغرى، وكان يبقى غير معروف أمر الموجودات التي ظهرت على الكرة الأرضية قبل الإنسان، وألوف ما قبل التاريخ من السنين التي مضت قبل فجر الحضارات. وكانت الكتب الدينية تبسط تاريخ كرتنا تبسيطا عظيما، فتقول مؤكدة إن إلها قادرا أخرج الأرض منذ ستة آلاف سنة فقط من العدم بغتة مع جميع الموجودات التي تسكنها، وكان الفلاسفة يجهلون وحشية جيل الكهوف، فيعجبون بكمال المجتمعات الفطرية الخيالي، وكان نظريو الثورة الفرنسية يزعمون إعادتهم العالم بعنف إلى دور السعادة الوهمية ذلك.
بدد العلم جميع هذه الأوهام، وجدد تجديدا تاما أفكارنا حول أصل الأرض والبشر، وحول حوادث الحياة وتطورها، وحول قرابة الإنسان من الحيوان وأصلهما المشترك. •••
وسرعة تحول الأفكار العجيبة من خصائص الجيل الحاضر؛ فتولد هذه الأفكار وتنمو وتدور وتموت بسرعة خارقة للعادة، وتلاحظ هذه الدورة في جميع حقول المعرفة.
وفي علم الحياة تترك مبادئ تحول الموجودات بتطور مستمر بعد أن كانت تؤثر في عالم العلم تأثيرا عميقا منذ نصف قرن تقريبا، ويحل محلها مبدأ التحولات المفاجئة.
وظهرت التحولات في الفيزياء أبعد مدى، فقد أصبحت ذرة قدماء الفزيويين الجامدة نظاما شمسيا مصغرا، ويخسر الأثير، الذي عد عنصرا جوهريا لنقل النور، وجوده، وتستبدل به مؤقتا معادلات لا تظهر شيئا من الجوهر الذي يصلح سندا لها.
Halaman tidak diketahui