وما من أحد يجهل أنه من السهل على الخصم أن ينقض حجج خصمه بعد وفاته. ولذلك سهل على القديس توما أن ينقض فلسفة ابن رشد ويظهر ما فيها من المخالفة لفلسفة أرسطو. فأجله معاصروه أعظم إجلال. وبعد وفاته صوروه في عدة صور تدل على انتصاره على جميع فلاسفة المتقدمين. منها صورة في كنيسة القديسة كاترين في بيزه
1
موضوعة بجانب المنبر الذي يقال أن ذلك المعلم العظيم قد علم الناس منه. وهذه الصورة هي من تصوير فرنسيسكو تريني أحد مشاهير المصورين في القرن الرابع عشر، وقد صورها في سنة 1340 على الأرجح. وهي تمثل في أعلاها العزة الإلهية تحيط بها الملائكة، ومنها يصدر النور إلى موسى والإنجيليين الأربعة والرسول بولس، وجميعهم واقفون في السحاب. وتحت السحاب صورة القديس توما تنعكس على وجهه تلك الأنوار، فضلا عن ثلاثة أشعة خصوصية صادرة إليه من العزة الإلهية نفسها. وفي جانبي الصورة على موازاة كتف الحكيم توما أي في مكان أدنى من مكانه قليلا شخصان يمثلان أرسطو وأفلاطون. وفي يد كل واحد منهما كتاب من كتبهما. ومن كل كتاب من هذين الكتابين يصعد خيط من النور نحو رأس القديس توما، ويمتزجان بالنور الإلهي النازل من فوق. أما القديس توما؛ فهو جالس في الصورة في كرسيه وفي يده الكتاب المقدس مفتوحا عند هذه العبارة: «إن فمي يحدث بالحق وشفتاي تبغضان الضلال»
وحول كرسي القديس توما تحت قدميه أي على مزاراتهما علماء الكنيسة الذين سبقوه وأشعة النور منتشرة عليهم من مؤلفاته العديدة الموضوعة على ركبتيه. ومن هذه الأشعة شعاع يصيب شخصا ساقطا على الأرض في جانب الرسم مع كثيرين غيره من الفلاسفة المخالفين. وهذا الشخص هو شخص ابن رشد دلالة على انتصار توما عليه.
أما هذه الصور هي تدعى «مجادلات القديس توما».
وقد صور القديس توما عدة صور بهذا المعنى للدلالة على أنه نقض فلسفة ابن رشد، وأقام مكانها فلسفة أرسطو الحقيقية. ولعل الآباء الدومينيكيين معذورون في هذا التصوير الذي كانوا يغرون به مشاهير مصوري تلك القرون لرغبتهم في تأييد حجتهم. ذلك أنهم كانوا يرومون إحياء فلسفة أرسطو كما يفهمونها هم، لا كما فهمها العرب، وكان فلاسفة العرب بمثابة عثرة في سبيلهم. ولذلك وجدوا أنفسهم في حاجة إلى إسقاط سلطة العرب لإقامة سلطتهم. ومع ذلك فهم لا يلامون على أنهم حملوا تلك الحملة على الفلسفة العربية؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا في تأييد آرائهم، وإنما اللوم يقع عليهم لعدم احترامهم حكيما عظيما كابن رشد كان يحترمه وصيفه وتلميذه القديس توما نفسه. ولو كان هذا القديس في قيد الحياة حينما صوروه تلك الصور؛ لأنكر عليهم ولا شك ذلك التصوير لأن الرجل الكبير يحترم دائما الرجل الكبير.
ولما توفي القديس توما كانت الفلسفة اللاهوتية في غاية القوة، ولكن المبادئ العربية كانت تتقدم - أيضا - فقام بعده ريمون مارتيني واعتمد في مقاومة أنصار المبادئ العربية على الإمام الغزالي. وكان يقول: إنه من الأفضل الرد على الفلاسفة بفم فيلسوف. كأنه كان يعتبر الغزالي من أنصار الفلسفة لا من خصومها. ثم قام بعده جيل دي ليسين وبرنار دي تربليا وهرفه نديليك ودافعوا عن مذهب القديس توما - أيضا - وبعدهم قام دانتي الشاعر الإيطالي المشهور وضرب - أيضا - ابن رشد في هذه الحرب الفلسفية، ولكن ضرباته كانت خفيفة. ولما كتب كتابه المشهور «الجحيم» لم يضع فيه ابن رشد في أماكن الكفرة والملحدين بل وضعه في مكان خصوصي احتراما لحكمته. وبعد ذلك قام جيل دي روم لمقاومة فلسفة العرب خصوصا فلسفة ابن رشد. فبلغ في ذلك شيئا من الشهرة التي بلغها القديس توما وألبير الكبير. ثم خلفه تلميذه جيرار دي سيسين في هذه المقاومة.
ولكن كل ما تقدم من المقاومة لمبادئ ابن رشد ليس بالشيء الذي يستحق الذكر بالقياس على مقاومة ريمون لول لها. فإن هذا الرجل الطائش صرف عمره خصوصا من سنة 1310 على سنة 1312 في الجولان بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوي ونابولي وبيزه محرضا الناس على العرب وفلسفتهم ومبادئهم. ولما اجتمع مجمع فيينا في سنة 1311 رفع على البابا أكليمنضس الخامس عريضة يطلب فيها ثلاثة أمور. الأول إنشاء جمعية عسكرية كبرى للسعي في إسقاط الإسلام. والثاني إنشاء كليات لدرس اللغة العربية. والثالث حرم المسيحيين الذين كانوا ينصرون مبادئ ابن رشد وتحريم التعليم في كتبه في المدارس الأوربية، ولكن المجمع لم يهتم بهذه العريضة ولا بحث فيها.
الرهبان الفرنسيسكان
(نصراء فلسفة ابن رشد ضد مذهب القديس توما)
Halaman tidak diketahui