Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genre-genre
Inductive Rationalism .
8
لقد صحبه في السنوات الأخيرة من عمره شعور حاد بأن الاستقراء لا يكفي. لم يكن عصره يسمح بإسقاط الاستقراء، فاكتفى هيوول بأن الاستقراء والاستنباط يصعدان ويهبطان نفس الدرج. وعلى أساس المفهوم العقلي العبقري أو النقطة الغامضة، عمل هيوول على تطوير المنهج التجريبي؛ ليتخذ صورة المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يعني إبداع فروض علمية ثم اختبارها تجريبيا، والحكم عليها والاختبار بينها وفقا لنتائج التجريب. ولم تعرف قيمة هذه الدعوة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، حين تبلورت صورة المنهج التجريبي بوصفه اختبارا للفروض وليس البتة تعميما لوقائع مستقرأة، وأصبحت الأطراف المعنية تتفق على أن المنهج التجريبي هو المنهج الفرضي الاستنباطي؛ لذلك قلنا: إن هيوول سبق روح عصره.
لقد أدرك بجلاء أن المسألة أعمق من التعميم الاستقرائي، وأن المعرفة العلمية ليست محصلة التجريب، بل محصلة تفاعل العقل مع معطيات الحواس. وبينما انشغل أصحاب النزعة الاستقرائية بالوقائع الجزئية الملاحظة، انشغل هيوول بإبداع الفرض العلمي وبالنظرية ودور العالم وإمكانياته العقلية، مؤكدا خطأهم في إهمال الفرض والتعويل على التعميم. من هنا صب جون ستيوارت مل جام نقده على هيوول، واعتبر فكرة الفرض عنده تأثرا منه بكانط ونزوعا نحو المثالية الألمانية.
9
فتراجعت نظرية هيوول الأكثر نفاذا واستبصارا التي تقرر دور العقل الإنساني المحوري في الإنجاز العلمي، مثلما تراجعت رؤيته لفلسفة العلم المسلحة بتاريخه، وساد الاتجاه المقابل لأصحاب النزعة الاستقرائية التبريرية اللاتاريخية. إنهم التجريبيون المتطرفون، وقد التفوا حول علم أعلام فلسفة العلم آنذاك، جون ستيوارت مل، بكل ما ملكه من ألق اجتماعي ومقام رفيع يغرينا بأن نتعرف على شخصيته كمدخل لعرض فلسفته للعلم التي سادت.
لقد قيل: إن حياة جون ستيوارت مل
J. S. Mill (1806-1873م) تلخيص لمسار الأمة الإنجليزية في تلك الحقبة من العصر الفيكتوري - حكم الملكة فيكتوريا - الذي يعد من أزهى عصورها. وكان مل رفيع الخلق، جم الفضائل، مرهف المشاعر، وإذا كانت قدراته الإبداعية محدودة فإنه أنموذج للباحث الجاد والمفكر الملتزم، ومحل احترام وإكبار من الخصوم قبل الأنصار ومن الأعداء قبل الأصدقاء، وقد نشئ تنشئة خليقة بإخراجه هكذا، فأبوه جيمس مل (1773-1836م) من أعلام فلاسفة عصره، أدرك منذ نعومة أظفار ولده تألق قواه العقلية، فاستشعر المسئولية إزاء تربيته وتثقيفه وإعداده للمهام الفكرية، لم يأل الأب جهدا ولا وقتا من أجل هذا، وبلغ إحساسه بالمسئولية إزاء الطفل النجيب أن استبد به الخوف من أن توافيه المنية قبل أن يتم تنشئته، فأهاب بصديقه الفيلسوف الأبعد منه صيتا وأثرا جيرمي بنتام
J. Bantam (1748-1832م) بأن يشاركه العبء في حياته، وأن يتكفل بالفتى إن هو توفي، فرحب بنتام بهذا، غير أنه قضى نحبه قبل صديقه جيمس مل بأربع سنوات!
ومن جراء هذا نشأ الصبي بين طوفان من عوالم المعرفة، ينهل على عقليته بمنهجية وإحكام، فأتقن اليونانية قبل أن يتم عامه الثامن واطلع على تراثها الزاخر، وتراث الرومان. علم نفسه الرياضيات واتصل - طبعا - بمنجزات العلوم في عصره. قرأ كثيرا في التاريخ والقوانين وأصول التشريع والاقتصاد السياسي، وانتابته أزمة نفسية عنيفة في العشرين من عمره، خرج منها بأهمية الشعر والأدب. وبينما بدت الفلسفة الألمانية في نظره كتابا مغلقا بسبعة أختام لم يجد في نفسه أدنى رغبة لفضها، فتن فتنة شديدة بالحضارة الفرنسية وأتقن لغتها وتتبع منجزاتها، وكان كثير التردد على فرنسا. أمضى جون ستيوارت مل حياته في قصة حب رومانسية غريبة لليدي هارييت تيلور التي ما فتئ يعدد مناقبها وأياديها البيضاء على إنجازاته الفكرية. ظل أكثر من عشرين عاما ينتظرها، حتى توفي زوجها عام 1849م وتزوجها جون ستيوارت عام 1852م وبعد ست سنوات أسلمت الروح وكانا في فرنسا، فواراها التراب هناك واشترى منزلا بجوار قبرها المحبوب. كان صديقا لأوجست كونت، رفيقه في نفس المنطلقات. ألف مل عام 1865م كتابا عن فلسفته الوضعية وناصره بحماس في دعواه بضرورة إخضاع العلوم الاجتماعية للمنهج التجريبي.
Halaman tidak diketahui