Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genre-genre
Therapeutic Analysis
الذي ساد في كمبردج ذاتها طوال الثلاثينيات مع جون ويزدم وموريس ليزرويتز ومالكوم وسواهم. أخذوا عن فتجنشتين أن التحليل المنطقي «علاج» للالتباسات والبلبال الناشئ عن سوء استخدام اللغة، ويشفينا من الترهات الفلسفية ، إلا أنهم لم يهاجموا الفلسفة بالضراوة التي هوجمت بها من فتجنشتين، بل رأوا المشاكل الفلسفية الكبرى تقوم بدور في تنوير العقل البشري، ولا بد أن ثمة أسبابا وجيهة تدفع إلى الانشغال بالمشاكل الميتافيزيقية الكبرى كحقيقة المادة ووجود الآخرين وخصائص المطلق ... إلخ. على هذا رأوا أن مهمة التحليل الفلسفي ليس مجرد التوضيح وإزالة اللبس والغموض، بل أيضا تهدئة القلق الفلسفي وعلاج العقول من الهم الميتافيزيقي وتحريرها من ضغوطه؛ وذلك بالكشف عن حقيقة المشاكل الفلسفية بواسطة التحليل المنطقي الدقيق، حتى إن جون ويزدم في كتابه «الفلسفة والتحليل النفسي 1953» يقارن هذا بالتحليل النفسي. والتحليل الفلسفي العلاجي لا يستأصل شأفة الفلسفة، بل يزيل المشكلة الفلسفية مبقيا على الدور الذي لعبته في تنوير العقول. والفلسفة التحليلية في كل حال نشاط فني احترافي للتوضيح، وقد أصبح هنا أداة للعلاج.
استمر فلاسفة كمبردج في تحليلاتهم للمشاكل الفلسفية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعدها انتقل مركز التحليل إلى إكسفورد متخذا طورا جديدا ينصب على تحليل اللغة الجارية بين الناس مع جيلبرت رايل وجان أوستن وبيتر ستراوسون، هذا بخلاف فروع التيار التحليلي في قلب القارة الأوروبية وعلى رأسها بالطبع الوضعية المنطقية في النمسا. وأيضا التحليلات البولندية التي مورست في ظلال مدرسة المنطق العظيمة في وارسو، وقد كان رائدها تفاردوفسكي يؤكد أن السيمانطيقا وتحليلات المعاني مدخل ضروري للفلسفة، فقط مدخل، وليس كل الفلسفة كما ذهبت الوضعية المنطقية.
وقد حدد سكوليموفسكي
H. Skolimowisk
في كتابه «الفلسفة التحليلية البولندية 1967م» أربع خصائص تجتمع عليها سائر فروع التيار التحليلي، على ما بينها من خلافات وفوارق، حتى إن هذه الخصائص الأربع تمثل صلب الفلسفة التحليلية. أولها الاهتمام الواعي المتزايد باللغة، فأصبحت اللغة نفسها موضوع البحث الفلسفي، حتى قيل: إن الفلسفة التحليلية مجرد دراسة للغة، وكما أوضحنا في الجزء السابق، ليس المقصود اللغة الإنجليزية دونا عن العربية أو الصينية ... إلخ، بل اللغة من حيث هي لغة كما تتمثل في رموز وقواعد للتركيب، أو في السيمانطيقا والسينتاطيقا. الخاصة الثانية هي التفتيت، بغرض معالجة المشاكل الفلسفية جزءا جزءا، وهذا التفتيت يجعل الممارسة الفلسفية أقرب شبها بروح العلم التجريبي ومناهضة للاتجاه الشمولي الهادف إلى بناء الأنساق الميتافيزيقية الواحدية الشامخة. وقد وجد هذا التفتيت التحليلي لغته المنطقية الرسمية في مذهب الذرية المنطقية لرسل وفتجنشتين. يتصل التفتيت بالخاصة الثالثة وهي السمة المعرفية، كل الفلسفات التحليلية ترتبط بشكل أو بآخر بمشكلات المعرفة والعلاقة بعالم العلم التجريبي؛ لذلك اتصلت اتصالا وثيقا بفلسفة العلم وأفضت إلى واحد من أهم مذاهبها هو الوضعية المنطقية. أما الخاصة الرابعة فهي التناول البين- ذاتي، التحليل المنطقي لا يرتبط بذات دون أخرى، بل له دائما معناه ومدلوله المشترك بين الذوات جميعا، كلها تشارك فيه وتتفق عليه. إن البين-ذاتية هي المفهوم المعاصر للموضوعية المتفادي لمشاكلها، وبهذا تتميز الفلسفة التحليلية عن سواها من فلسفات قد تمارس تحليلا لا هو موضوعي ولا هو لغوي ولا هو منطقي، وأبرز الأمثلة تحليلات الوجوديين المسهبة للوضع الإنساني. ويمكن ملاحظة أن الخصائص كلها تستقطب روح العلم، وتمثل طابع الفلسفة العلمية التي سادت القرن العشرين.
هذه الصفات أو الخصائص الأربع تجتمع في سائر فروع الفلسفة التحليلية، حتى «الرسالة المنطقية الفلسفية» لفتجنشتين، ومنطق رسل وفلسفته التحليلية التي قامت هذه الرسالة على أكتافها. إن رسل هو الرائد الأكبر، وانطلقت الفلسفة التحليلية من رحابه؛ لتنمو وتتطور وتتجاوز الحدود التي رسمها، كما يحدث كثيرا للأفكار الفلسفية الكبرى. وكان رسل في كل حال دائم الاستعداد للدفاع عن التحليل، ويسهب في تبيان أن رفضه هو رفض للتقدم العلمي ولروح العلم، وإن ساءته بعض التطورات اللاحقة. منذ البداية أراد جورج مور قصر الفلسفة على التحليل، ورفض رسل هذا مؤكدا أن التحليل اللغوي مجرد وسيلة مفيدة جدا، ولا ينبغي أن يتحول إلى غاية تلهي عن إنجاز الأهداف الفلسفية الكبرى، وجاهر بأن التحليل في حد ذاته لا يكفي أبدا لحل المشكلة الإبستمولوجية والمشكلة الأنطولوجية. هاجم رسل الفروع التي جعلت التحليلات اللغوية غاية وقصرت الفلسفة عليها، مؤكدا أن المأخذ الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ على الفلسفة التحليلية هو أنها أدت إلى هذه الفروع المتطرفة حيث أصبحت الفلسفة معنية أكثر بفهم نفسها وتنكرت للمهمة التي اضطلعت بها منذ طاليس وطوال عهودها، وهي مهمة فهم هذا العالم. أوسع رسل هذه الفروع نقدا، وقال عن فلاسفة اللغة الجارية في أكسفورد: إنهم ينشغلون بالأشياء التافهة التي يقولها البلهاء، وهذا أمر قد يكون مسليا لكنه ليس هاما!
وعلى الرغم من أن الوضعية المنطقية أكثر المدارس استفادة من جهاز رسل المنطقي المهيب، وتوظيفا لنظريته في الأوصاف المنطقية والخلو من المعنى، فإن رسل خص الوضعية المنطقية بالقسط الأكبر من نقده الموجه، وأفرد لهذا مقالا مطولا بكتابه «المنطق والمعرفة 1956م» الذي حمل أهم محاضراته ومقالاته طوال النصف الأول من القرن العشرين، فهل هذا لشدة تطرف الوضعية المنطقية التحليلي أم لعلو صيتها حتى كادت تكون التمثيل الرسمي لفلسفة العلم، ليس في سياق الفلسفة التحليلية فقط، بل في سياق الربع الثاني من القرن العشرين بأسره؟!
رابعا: الوضعية المنطقية
الوضعية المنطقية هي المسئولة عن كل تطرفات وجنوحات التيار التحليلي، فقد تمسكت بمفهوم رسالة فتجنشتين الضيق للفلسفة بوصفها منطقا للغة العالم التجريبي، كما تتبلور في لغة العلم. وشيئا فشيئا تخلق عن هذا مفهوم للفلسفة بأسرها بوصفها تحليلا منطقيا لكل أشكال الأقوال حتى في اللغة الجارية. هكذا نجد الوضعية المنطقية - بتعبير فون رايت - هي ينبوع التحليل، يتدفق ليتفرع ويتشعب في التيار التحليلي العريض.
Halaman tidak diketahui