وللغة دلالة أخرى على الحياة العقلية من حيث ما تستخدم فيه اللغة من شعر ومثل وقصص ... وسيتجلى ذلك في الفصول التالية. (2) الشعر
يذهب بعض الباحثين
1
إلى أن الشعراء في الجاهلية كانوا «هم أهل المعرفة»، يعنون بذلك أن طبقة الشعراء في الجاهلية كانوا أعلم أهل زمانهم، وليسوا يعنون بالضرورة أي نوع من أنواع العلم المنظم، إنما يعنون أنهم أعلم بما يتطلبه نوع معيشتهم، كمعرفة الأنساب ومثالب القبيلة ومناقبها؛ وقد يساعد على هذا الرأي اشتقاق المادة، فشعر في الأصل معناه علم، تقول شعرت به: علمت؛ وليت شعري ما صنع فلان: أي ليت علمي محيط بما صنع؛
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون : ما يدريكم، وشعر بكذا: فطن كما في اللسان، فالمادة كلها معناها العلم أو المعرفة، وعليه فيكون الشاعر معناه العالم، والشعراء: العلماء، ثم خصصوا الشعر بهذا الضرب من القول، قال في اللسان: «والشعر منظوم القوم، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرا من حيث غلب الفقه على علم الشرع» اه. وربما ساعد على هذا أيضا ما جاء فيه: قال الأزهري: «الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر؛ لأنه يشعر ما لا يشعر غيره؛ أي: يعلم» اه. ولكن يرى بعض المستشرقين أن كلمة شعر مأخوذة من اللغة العبرية ففيها «شير» بمعنى الترتيلة أو التسبيحة القدسية، ويرجحون ذلك بأنه لم يرد في اللغة العربية شعر بمعنى ألف البيت أو القصيدة، وكل ما فيها شعر بمعنى قال الشعر، وفرق بينهما.
وبعد؛ فهل حق أن الشعراء أعلم الطبقات في الجاهلية؟ نحن نشك في هذا كثيرا؛ لأنا نرى أنه كان في الجاهلية طبقة أخرى هي طبقة الحكام، وهؤلاء كانوا يحكمون بين الناس إذا تشاجروا في الفضل والنسب، وغير ذلك، وكان لكل قبيلة حاكم أو أكثر، واشتهر منهم كثيرون كأكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، وعامر بن الظرب؛ وما روي عنهم في كتب الأدب من أقوالهم وأحكامهم يدلنا على أنهم أرقى عقلية، وأصدق رأيا من الشعراء، وإن كان الشعراء أوسع خيالا وأكثر في القول افتنانا.
نعم، إن الشعراء كانوا من أرقى الطبقات عقلا، بدليل ما صدر عنهم من شعر، وبدليل أحاديث مبعثرة تراها تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، كالذي جاء في سيرة ابن هشام «أن الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها، فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله، قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ، ثم قلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني رجل لبيت شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته».
أضف إلى ذلك أنا نجد أكثر الشعراء في الجاهلية من أكرم الناس على قومهم؛ لأن موقف الشاعر في قبيلته كان التغني بمناقبها، ورثاء موتاها، وهجاء أعدائها، وقل أن تجد في أول أمرهم من كان صعلوكا يتخذ الشعر حرفة كما فعل الحطيئة بعد.
ومع هذا فإنا نرى أن الشعراء كانوا من أرقى طبقاتهم عقلا، ولكن ليسوا أرقاهم.
دلالة الشعر على الحياة العقلية: قديما قالوا: «إن الشعر ديوان العرب»، يعنون بذلك سجل سجلت فيه أخلاقهم وعاداتهم، وديانتهم وعقليتهم، وإن شئت فقل: إنهم سجلوا فيه أنفسهم؛ وقديما انتفع الأدباء بشعر العرب في الجاهلية، فاستنتجوا منه بعض أيامهم وحروبهم، وعرفوا منه أخلاقهم التي يمدحونها والتي يهجونها، واستدلوا به على جزيرة العرب وما فيها من بلاد وجبال وسهول ووديان ونبات وحيوان، وما كانوا يعتقدون في الجن، وما كانوا يعتقدون في الأصنام والخرافات، وألفوا في ذلك جميعه الكتب المختلفة.
Halaman tidak diketahui