نشر اليهود في البلاد التي نزلوها في جزيرة العرب تعاليم التوراة وما جاء فيها: من تاريخ خلق الدنيا، ومن بعث وحساب وميزان، ونشروا تفاسير المفسرين للتوراة وما أحاط بها من أساطير وخرافات كالتي أدخلها - بعد - من أسلم من اليهود مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأضرابهما، وكذلك كان لليهود أثر كبير في اللغة العربية، فقد أدخلوا عليها كلمات كثيرة لم يكن يعرفها العرب، ومصطلحات دينية لم يكن لهم بها علم، مثل جهنم والشيطان وإبليس ونحو ذلك.
أضف إلى هذا أن اليهودية حلت بجزيرة العرب بعد أن تأثرت بالثقافة اليونانية تأثرا كبيرا؛ لأنها ظلت قرونا تحت الحكم اليوناني الروماني، ولأنها كانت منتشرة في الإسكندرية وعلى شواطئ البحر الأبيض حيث الثقافة اليونانية، وكان من أحبار اليهود من تعلم الفلسفة اليونانية وتأدب بآدابها، فتسربت تلك الثقافة إلى اليهودية، كما تسرب إليها بعض مبادئ من القانون الروماني.
وقال بلدوين في كتابه معجم الفلسفة: «إن الشرق والغرب اختلطا في الإسكندرية، وامتزجت آراء رومة واليونان والشام في المدنية والعلوم والدين بآراء الشرق الأقصى في ذلك، فنشأت قضية جديدة عمل على إيجادها بحث الغرب وإلهام الشرق، واتصل الدين بالفلسفة اتصالا وثيقا، كان من نتائجه ظهور عقائد دينية لا هي من الفلسفة المحضة ولا من الدين الخالص؛ بل أخذت بطرف من كل، وجاء ذلك من عاملين: أحدهما ميل اليهود إلى التوفيق بين معتقداتهم الدينية والعلم الغربي الذي كان متأثرا بالعلم اليوناني؛ وثانيهما أن المفكرين الذين استمدوا آراءهم من الفلسفة اليونانية رأوا أن يوفقوا بين معتقداتهم الفلسفية والقضايا الدينية المحضة التي جاء بها المشارقة، ومن أي الجهتين نظرنا رأينا أن النتيجة كانت فلسفة دينية لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص»، فلما انتقلت اليهودية إلى العرب كانت تحمل في ثناياها شيئا من ذلك.
النصرانية:
انقسمت النصرانية في ذلك العهد إلى جملة كنائس؛ وإن شئت فقل إلى جملة فرق، تسرب منها إلى جزيرة العرب فرقتان كبيرتان: النساطرة، واليعاقبة، فكانت النسطورية منتشرة في الحيرة، واليعقوبية في غسان وسائر قبائل الشام؛ كذلك كانت هناك صوامع في وادي القرى.
وأهم موطن للنصرانية في جزيرة العرب كان (نجران)، وكانت مدينة خصبة عامرة بالسكان، تزرع وتصنع الأنسجة الحريرية، وتتاجر في الجلود وفي صنع الأسلحة، وكانت إحدى المدن التي تصنع الحلل اليمانية التي تغنى بها الشعراء، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتد إلى الحيرة.
وكان يتولى أمورها رؤساء ثلاثة: السيد، والعاقب، والأسقف، ويظهر أن السيد كان اختصاصه كاختصاص رؤساء القبائل، فهو رئيسهم في الحرب، وهو الذي يدير أمورهم الخارجية، ويتولى أمور العلاقات بينهم وبين القبائل الأخرى؛ والعاقب يتولى الأمور الداخلية الدنيوية؛ والأسقف الأمور الدينية، وهم الثلاثة يتشاورون في المسائل الهامة، قال ياقوت في المعجم: «ووفد على النبي
صلى الله عليه وسلم
وفد نجران وفيهم السيد واسمه وهب، والعاقب واسمه عبد المسيح، والأسقف وهو أبو حارثة، وأراد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Halaman tidak diketahui