من ذلك يتضح أنه منذ القرن السابع والعشرين ق.م كان السلوك قد أصبح أمرا تقليديا وحكمة ذات معيار يرثها الابن عن أبيه.
وكان للنجاح الدنيوي المكانة السامية؛ إذ ذاك، وكانت السبل للتحقق من الوصول إليه عظيمة الأهمية؛ ولذلك شغلت هذه الأمور نحو ثلث نصائح ذلك الوزير المسن (أي 14 فقرة من 43 فقرة). وبعض هذه النصائح يوصي بالتخلق بالحذر في حضرة العظماء، حتى إن بعض فقراتها تعرفنا آداب المائدة في حضرة الرئيس، فتقول: «خذ ما يقدم لك حينما يوضع أمامك دون أن تنظر إلى ما هو أمامه، ولا تصوبن لحظات كثيرة إلى الرئيس؛ أي لا تحملق فيه، وانظر بمحياك إلى أسفل إلى أن يحييك، وتكلم فقط بعد أن يرحب بك، واضحك حينما يضحك، فإن ذلك يدخل السرور على قلبه، وما تفعله يكون مقبولا؛ لأن الإنسان لا يعلم ما في القلب.» ومن المهم جدا ألا يكون الإنسان كثير الكلام في أي موقف، وأن يتجنب على وجه خاص السلوك العدائي والتعجرف على الناس.
وقد خصص جزء أكبر بكثير مما تقدم إلى الحكمة الصائبة في تسيير أعمال الإنسان الرسمية، فمن ذلك قوله: «إذا كان رئيسك فيما مضى من أصل وضيع فعليك أن تتجاهل وضاعته السابقة واحترمه طبقا لما وصل إليه؛ لأن الثمرة لا تأتي عفوا، ولا تعيدن قط كلمات حمقاء خرجت من غيرك في ساعة غضب، والزم الصمت فإنه أحسن من أزهار «تفتف»، وتكلم فقط إذا كنت تعلم بأنك ستحل المعضلات، وإن الذي يتكلم في المجالس لفنان (يعني في الكلام) وصناعة الكلام أصعب من أية حرفة أخرى، وعليك أن تقدم للأمير النصيحة التي تساعده؛ لأن قوتك يتوقف على مزاجه، وبطن الرجل المحبوب تملأ وظهره يكسى تبعا لذلك. كن عميق القلب نزر الكلام ... وكن ثابت الجنان طوال كلامك، فعسى أن يقول الأمير الذي يسمع كلامك: ما أصوب الكلام الذي يخرج من فمه!»
والدافع البديهي لمثل تلك النصيحة هو اتباع سياسة دنيوية مبنية على اليقظة والتفطن. ومن المدهش أنها لم تلوث بشيء يذكر من العقيدة الميكيافلية
7
في مثل ذاك العهد العريق في القدم. ومن الواضح أن ذلك السياسي المسن كان ذا نظرة خارقة في انتهاز الفرصة الهامة لمصلحته، مع أنه في الوقت نفسه لم يحرم حاسة الإدراك لما هو أثمن من ذلك، وعلمه بتقلبات ظروف الحياة الإنسانية قد علمه التواضع، ولذلك قال ينصح ابنه: «إذا أصبحت عظيما بعد أن كنت صغير القدر وصرت صاحب ثروة بعد أن كنت محتاجا ... فلا تنسين كيف كانت حالك في الزمن الماضي، ولا تفخر بثروتك التي أتت إليك منحة من الإله (أي الملك)، فإنك لست بأفضل من غيرك من أقرانك الذين حل بهم ذلك.» وفضلا عن ذلك فإن حياة الموظف المدني محفوفة بالمخاطر، ولذلك يقول: «احذر الأيام التي يمكن أن يأتي بها المستقبل.» وإذن من الحكمة أن تكون سخيا مع غيرك بحسن نية عملا للمستقبل؛ وفي ذلك يقول: «أشبع أصدقاءك بما جد لك بسبب نيلك الحظوة عند الإله (أي الملك)؛ إذ لا أحد يعرف مصيره إذا فكر في الغد، وإذا اعتور حظوته لدى الملك شيء، فإن الأصدقاء هم الذين لا يفتئون يقولون: مرحبا ... فعليك أن تستبقي ودهم لوقت السخط الذي يهدد الإنسان، ولكن سترى فيما بعد: أنه حينما تسوء حالك فإن فضيلتك ستكون فوق أصدقائك.»
ويجب على المرء أن يتحرى أخلاق أصدقائه: «فإذا كنت تبحث عن أخلاق من تريد مصاحبته فلا تسألنه عن شيء، ولكن اقترب منه وتعامل معه، على انفراد معه، وامتحن قلبه بالمحادثة، فإذا أفشى شيئا قد رآه أو أتى أمرا يجعلك تخجل له، فعندئذ احذر حتى من أن تجاوبه.»
على أن مسئوليات الأسرة كانت في نظره أهم من الأصدقاء؛ فتراه يقول: «إذا كنت رجلا ناجحا، وطد حياتك المنزلية، وأحب زوجتك في البيت كما يجب.»
وبعد أن ذهب هذا الكتاب إلى المطبعة أحضر إلي أحد فلاحي «الأقصر» الذين يستخرجون السماد من وسط الخرائب الأثرية بشظية من الحجر الجيري الأبيض عثر عليها في تلك الخرائب، فوجدت عليها كتابات يرجع عهدها إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة كتبت بالحبر، وهي بضعة أسطر اقتبسها كاتبها من نصائح «بتاح حتب» التي كان قد انقضى على وضعها إذ ذاك نحو 1500 سنة، وكان المداد الذي كتبت به لا يزال أسود يقرأ بوضوح. وتلك الأسطر هي صورة معدلة من نصائح ذلك الوزير المسن عن الزوجة، فخيل لي أن ذلك الحكيم القديم قد دخل فجأة إلى حجرتي في الأقصر ليزودني بشيء أكثر مما علمت عن أفكاره؛ لأن إحدى الفقرات المعدلة كانت جذابة في محتوياتها؛ إذ جاء فيها: «إذا كنت رجلا ناجحا فأسس لنفسك بيتا، واتخذ لنفسك زوجة تكون سيدة قلبك.» ولكننا نجد في المتن القديم الذي كان أقل من ذلك شاعرية: «وأحب زوجك كما يجب.» وقد عرف «الحب الذي يجب أن يكون» بأنه حب يحمل في ثناياه الحب العملي الذي يجب على الزوج لزوجته؛ إذ يقول: «أشبع جوفها واستر ظهرها.» ومع أنه لا يوجد حد لمتع الحياة الكمالية تقف عنده مطالب المرأة فإن ما تعزه المرأة الحديثة وتشاركها فيه أختها القديمة فوق ضفاف النيل من العطور ينحصر في الروائح والدهان الغالية، وهي التي لم ينس ذلك الحكيم السياسي المسن أن يضمها إلى قائمة حاجات زوج ابنه؛ إذ يقول: «إن علاج أعضائها هو الدهان.»
وبذلك يرى ذلك الوزير المسن العاقل أن الزوج الكيس هو الذي يجعل زوجته سعيدة أولا بالمحبة التي يلزمه أن يفسح لها في قلبه الاعتبار الأول، ثم يأتي بعد ذلك بمستلزمات الجسم من غذاء وملابس، ثم بالكماليات كالعطور والدهان؛ فنراه يقول: «اجعل قلبها فرحا ما دمت حيا، فهي حقل مثمر لسيدها.» وهذه الملاحظة الأخيرة قد سبقت ما جاء في القرآن المنزل على الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - بعد مضي خمسة وثلاثين قرنا.
Halaman tidak diketahui