وكان البر بالوالدين من أهم الفضائل البارزة في عصر الأهرام، فإننا نجد مذكورا في النقوش القديمة مرارا وتكرارا في جبانات الأهرام أن المقابر الضخمة التي بها، كانت من صنع الأبناء البررة لآبائهم المتوفين، وأن الابن كان يعد لوالده مدفنا فاخرا، بل إن أحد الأبناء من أهالي ذلك العصر قد فاق كل من كان سواه من الأبناء في بره بوالده، فقد ذكر في نقوش قبره ما يأتي:
والآن قد عملت على أن أدفن في نفس القبر مع «زاو» هذا (يعني والده) لكي أكون معه في مكان واحد، على أني لم أفعل ذلك لأني لست في مكانة تؤهلني لبناء قبر ثان، بل فعلته حتى أتمكن من رؤية «زاو» هذا كل يوم، ولكي أكون معه في المكان عينه.
ولدينا حالة أخرى أعظم من هذا في بر الابن بأبيه أيضا، وهي قصة «سبني» (حارس الباب الجنوبي)؛ أي المحافظ على الحدود المصرية من جهة السودان عند شلال النيل الأول، فقد حدث أن «مخو» والد «سبني» قد قام برحلة خطيرة في قلب السودان طلبا للاتجار، وهناك انقض عليه بعض القوم من الهمج وذبحوه، فلما سمع ابنه «سبني» بذبح والده قام على الفور برحلة تحفها المخاطر في قلب ذلك الإقليم المعادي، واستخلص منه جثمان والده بعد أن تعرضت حياته خلال ذلك للموت، وأحضر جثمان والده ليحفظ في مصر. ولا يزال قبر «سبني» باقيا في أسوان حتى الآن، ويحتوي ذلك القبر على النقوش الدالة على ما قام به الابن «سبني» نحو أبيه «مخو» من ضروب الشجاعة لاستخلاص جثمان والده المذكور من أيدي أولئك الأعداء الهمج في زمن عصر الأهرام العتيق.
على أن الأدلة المنقوشة على تلك الآثار التي تركتها لنا أقدم طائفة أرستقراطية عرفت في التاريخ القديم يؤيد صحتها وجود تلك الرسوم الجميلة الزاهية الألوان التي كانت تلك الأسر الشريفة قد اعتادت أن تزين بها جدران مزارات القبو، وبخاصة تلك التي بقيت إلى يومنا هذا بجبانات منف المترامية الأطراف. وتعرف تلك الجبانات الآن بجبانة «سقارة»، وإن تلك المناظر الفخمة التي نجدها أحيانا حافظة لألوانها الأصلية الزاهية للآن ليست في الواقع إلا بيانا خلابا عن الحياة اليومية لأشراف عصر الأهرام.
وتلك المناظر المذكورة تؤلف في وقتنا هذا صورة جذابة يتمتع بمشاهدتها للآن غالب رواد وادي النيل، والسائحون الذين يفدون زرافات ووحدانا في كل شتاء إلى مصر لمشاهدة آثارها القديمة. غير أني أشك كثيرا في أن واحدا من أولئك السائحين الذين يمتطون ظهور الحمير فتسير بهم وسط خمائل النخيل التي تغطي الآن طرقات مدينة «منف» القديمة وبيوتها يفقه أن ما يراه ويشاهده الآن في أطلال جبانة مدينة «منف» يعد أقدم مظهر عرف لنا في التاريخ عن حياة الأسرة، وعندما يجتاز ذلك الزائر الحديث خمائل النخيل المذكورة يقع بصره على منحدرات من كثبان الرمال المنتهية إلى قمة هضبة صحراوية تغطيها الرمال. تلك هي جبانة «منف» القديمة، ومن ثم يمكنه أن يطل على ما بقي من آثار تلك المدينة الشاسعة الأطراف التي تغطيها الآن الحقول الزاخرة بالزرع والنخيل الدانية القطوف.
ففي هذه البقعة كان يسكن أهل أولئك الأجيال الأقدمون البائدون في مدينة عظيمة أقاموها منذ آلاف مضت من السنين، وعند نهاية أجلهم كانوا يحملون إلى تلك الهضبة التي يصعد إليها الآن ذلك الزائر الحديث، حيث كانوا يدفنون فيها في مقابر فسيحة مبنية بالحجر الجيري الضخم، وتلك المقابر القديمة التي يبلغ عمرها الآن حوالي خمسة آلاف من السنين ترى الآن صامتة خربة تغطيها الرمال القاحلة، غير أنه ما زال في مكنتنا أن ندخل مزارات تلك المقابر ونتجول في حجراتها.
وجدران تلك الحجرات مغطاة بكثير من النقوش والمناظر ذات الألوان الزاهية التي تمثل لنا صورا من الحياة القديمة،
3
ففي تلك المناظر المحفورة نشاهد صاحب إحدى تلك الضياع التي كانت تحيط بمدينة «منف» منقوشا على الجدار بحجم عظيم وهو يقوم بالإشراف على رجال ضيعته الذين نقشوا معه في الصورة بحجم أصغر منه كثيرا، فنراه يتفقدهم وهم يبذرون الحبوب أو يحصدون محاصيل الحقول أو يسوقون الماشية والقطعان غادين أو رائحين، أو يخوضون ترع الري أو يعملون في أحواض بناء قواربهم أو حوانيت تجارتهم أو مصانع عمل النحاس أو مكان صنع الفخار، وغير ذلك من مئات الصور التي تنبئنا عن كثير من نواحي نشاطهم وأعمالهم في حياتهم الدنيوية.
بهذا قد صورت على تلك الجدران جميع مظاهر حياتهم الواسعة النطاق من زراعة وتربية ماشية وصناعة مما درجت على أساسه تلك المدنية القديمة وترعرعت. وترى فيها الشريف المصري القديم يصحب معه زوجته في كل تلك الجولات الفسيحة في أرجاء ضيعته الشاسعة، فكانت ترى تتهادى بجانبه حينما كان يدخل من الباب العظيم المؤدي إلى حديقته الغناء التي أقيمت في وسطها كرمته البهيجة، فكانت زوجته في الواقع تشاطره كل حياته وكل أعماله كما كانت ترافقه في الوقت نفسه في كل لحظة، وكانت أطفالهما في صحبتهما دائما. ومن أمتع المناظر التي نشاهدها بين تلك الصور المنقوشة على جدران تلك القبور منظر يصور لنا طفلا صغيرا يجري بجانب والده ويقبض بإحدى يديه على هدهد صغير، كما نشاهد رب البيت يصطاد في المستنقعات المخصصة لذلك الغرض وبجانبه زوجته وطفله، وكلهم في قارب من القصب يسبح بهم بين أزهار البردي الطويلة. ويلاحظ في هذه الصورة أن الطفل كان منحنيا نحو الماء ليقطف زهور السوسن المائية. أو نشاهد كذلك الشريف مرسوما جالسا بحديقته، وأطفاله أمامه يلعبون الكرة أو يعبثون في ماء بركة الحديقة وهم يصطادون السمك .
Halaman tidak diketahui