أما ثاني تلك المراحل الزمنية فقد تحدد لنا الآن (وقد كان يسير جنبا لجنب مع تقدم حياة الإنسان) ونعني به عصر «نضوب الماء»؛ ذلك النضوب الذي كان ينتشر تدريجا، فالصحارى المعروفة لنا تمام المعرفة في هذه الأقطار لم تكن قد ظهرت بعد؛ إذ كان كل شمال أفريقيا إقليما ذا أمطار غزيرة ونباتات وفيرة مكونا ميدان صيد أنموذجيا، وقد عثرت على ثلاثة قوارب نيلية لصيادي الهضبة محفورة على الصخور الواقعة في مجاهل صحراء النوبة فيما وراء «أبو سنبل»، وقد كشف حديثا الدكتور «سندفورد» مدير مساحة المعهد الشرقي أسلحة الظران التي كان يستعملها هؤلاء الصيادون مبعثرة في أقاصي الصحراء الجنوبية على مسافة ألف ميل أو أكثر من النيل، ولا تزال هذه الآلات والأسلحة الحجرية الملقاة حيث فقدها أصحابها منذ مئات الآلاف من السنين شاهدا صامتا على المجال الفسيح الذي كان يرتع فيه الصيادون والحيوانات التي كانوا يقتفون أثرها في وقت كان فيه جميع شمال أفريقيا ممرعا خصب الجناب. ولا يغرب عن ذهننا أن الأماكن التي توجد فيها تلك الأدلة الصامتة عن حياة الإنسان الغابر، هي الآن مناطق منعزلة قاحلة موحشة لا يجسر أي صياد حديث أن يدلف إليها في الصحراء؛ لأنه لا يأمل أن يعود على قيد الحياة بعد أن يخترق تلك المجاهل الماحلة.
وقد كان منتصف زمن العصر الحجري القديم مبدأ انحسار المطر، وفي أثره حل الجفاف العظيم الذي حول هضبة شمالي أفريقيا الخصبة إلى تلك البيداء الشاسعة التي نسميها الآن «الصحراء العظمى».
8
ولقد كانت العوامل الجيولوجية في ذلك الوقت آخذة منذ زمن بعيد تعد موطنا جديدا أكثر ملاءمة وأحسن موقعا لصيادي العصر الحجري في الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا، فهنا كانت أفريقيا الحارة تمتد عبر الصحراء إلى الركن الجنوبي الشرقي من البحر المتوسط، وهو ممر خصب منبطح زاخر بالأعشاب النضرة وبحيوان أفريقيا الداخلية مما أعطى صيادي العصر الحجري مأوى لا تنفد موارده في موقع لا مثيل له من الأمن والحماية من الدخلاء المغيرين.
ولا بد أن حيوانات أفريقيا الشمالية الشرقية بعد أن طردها من الهضبة تناقص الطعام المستمر عندما أصبحت النباتات قليلة جدا لا تكفي دفع غائلة الجوع وحفظ الحياة، قد لجأت إلى شواطئ النهر العظيم عند الجزء السفلي من وادي النيل، فجعلت منه مرتعا للصيد منقطع النظير، وجنة الخلد هذه الواقعة في الجزء السفلي من وادي النيل، والتي نسميها الآن مصر، كانت تجذب إليها أحيانا منذ البداية صيادي العصر الحجري الذين كانوا يسكنون هضبة شمال أفريقيا، ولكن لما اضطرهم الجفاف في النهاية إلى اقتفاء حيوان الصيد في هذا الاتجاه بدءوا يتخذون وادي النيل الضيق موطنا مختارا لهم. وقد أقام الجفاف في النهاية حول جنة الصياد هذه حاجزا منيعا من الصحراء لا يمكن اختراقه من ثلاثة جوانب من حدود مصر - الشرق والغرب والجنوب - وحول وادي النيل الأسفل إلى معمل اجتماعي منعزل لا مثيل له في سائر بقاع العالم؛ لأن النيل هو النهر الوحيد على كرتنا الأرضية الذي ينبع من المناطق الحارة وينساب نحو الشمال مخترقا نحو 700 ميل في «المنطقة الإقليمية» التي ظهرت فيها أول النظم القومية العظيمة، وهي المنطقة المعتدلة للدول القديمة بين خطي عرض 25، 45 شمالا، وفيها نمت،
9
كل العاهليات القديمة، هذا فضلا عن أن وادي النيل في عصور ما قبل التاريخ كان يتمتع بمزية فريدة؛ إذ لم يكن معرضا لشدائد عصر الجليد، بل كان منفصلا عنها ومحتميا منها بمياه البحر الأبيض المتوسط الملطفة الواسعة الأرجاء، على حين أن حياة صيادي العصر الحجري الأوروبي في شماله قد عاقها عن التقدم الرياح القطبية واندفاع الثلوج التي لا تقاوم.
ولقد كان غربي آسيا على تمام النقيض من مصر، تحوط دائرته الشمالية تلك الهضبة الجبلية الممتدة من البوسفور حتى بلاد إيران، فكان معرضا بدرجة عظيمة لأخطار ذوبان الجليد المخربة وزمهرير برده القارس، وقد ترجع قصة الطوفان العام التي ورد ذكرها في «بابل» ثم في التوراة إلى فيضان جليدي من هذا النوع. ولقد كانت هذه القوة الطبيعية المزعجة المغيرة من المرتفعات الشمالية الواقعة في غرب آسيا نذيرا لغارات بشرية متتابعة كانت كذلك تنزح من هذه المرتفعات وتغمر الإقليم في دورات معلومة؛ فتقلب النظام الاجتماعي والحكومي القائم. ولذلك كان التقدم البشري في الإقليم إذا خطا خطوته الأولى نحو التطور الاجتماعي لا يلبث أن يعثر وتزل به قدمه، فيرجع إلى سيرته الأولى فيحاول النهوض مرة أخرى ويعاني نفس العملية المرة بعد المرة. بمثل هذا تناوبت القوى المغيرة من طبيعية وإنسانية على وقف التطور الاجتماعي في بابل، وقد كان لزاما علينا أن نعتبر دوافع الغزو الأجنبي قوة مجددة لولا ما ظهر لنا من أن تلك الفكرة قد غالى في تقديرها بعض المؤرخين؛ فالشجرة الضخمة تقف في وجه الرياح بفضل قوة تلك الحلقات الصلبة التي تنمو في جذعها سنويا، والتي ربما كانت تنمو فيها منذ قرون وتبقى متأصلة في داخل تركيب جذعها العظيم، فالقوة في مثل هذه الشجرة يمكن أن تتخذ مثالا لتوضيح نمو النظام القومي الذي اكتسب زيادة قوته بالبناء المستمر، ولكن الشجرة التي تعصف بها الريح مرارا وتزعزعها من الأرض أحيانا تبقى دائما قصيرة عارية. ولم يكن من باب الصدفة أن سقوط المدنية البابلية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وغزوها على يد الدولة الكاسيلية بعد أن بلغت قوتها في عهد أسرة «حمورابي» أعقبه نضوب ثقافي استمر مدة ألف سنة أو يزيد.
وعلى العكس من ذلك نرى - كما أسلفنا - أن الجفاف الذي حدث في شمال أفريقيا قد جعل وادي النيل في معزل، وكون منه ذلك الممر الضيق المحمي الذي لا مثيل له على سطح عالمنا، وهو يمتد شمالا وجنوبا، فأحد طرفيه في المناطق الحارة، والطرف الآخر يشرف على بحر داخلي عظيم في المنطقة المعتدلة، وكان يتمتع بميزات طبيعية فريدة في نوعها، فقد كان منعزلا ومحميا بشكل جعل التطور البشري فيه سهلا؛ ذلك التطور الذي رغم بعض الغزوات الأجنبية ظل مستمرا آلافا من السنين دون أي عائق جدي. وفي أيامنا هذه تتكشف التربة المصرية على حدود الصحراء عن قبور أقدم الجبانات المعروفة في العالم كله، ونجد في هذه القبور خلف صيادي العصر الحجري في وادي النيل عندما كانوا في بداية الانتقال إلى عصر المعادن، وذلك قبل 4000 سنة ق.م بزمن يذكر، ومن الجائز أن يكون قبل هذا العهد بكثير، وكانوا قد استأنسوا أهم الحيوانات المنزلية، وانتقلوا إلى دور حياة الفلاح.
والدلائل تؤيد رأي من قال إن هؤلاء المصريين الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ المدفونين في أقدم الجبانات، هم وأجدادهم كانوا أقدم مجتمع عظيم على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاء ثابتا باستئناس الموارد البرية من نبات وحيوان، على حين أن تغلبهم على المعادن فيما بعد وتقدمهم في اختراع أقدم نظام كتابي، قد جعل في أيديهم السيطرة على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة.
Halaman tidak diketahui