الفصل السابع عشر
الوداع
لم يثقل هذا الأمر كثيرا على نفس هيلين، بل صادف هوى من قلبها، ولم تكن كاذبة في قولها للحاكم إنها لا تتمنى على الله في حياتها شيئا سوى أن ترى ابنتها سعيدة في حياتها، هانئة بعيشها، إلا أنها لا تحب أن تفتات عليها في أمرها، فإن الحاكم لم يتجاوز عتبة باب الكوخ حتى دعت إليها ابنتها وخلت بها، وأنشأت تحدثها حديثا طويلا قالت لها فيه: إنني أصبحت يا بنيتي امرأة عليلة منهوكة، لا قوة لي ولا عزيمة، وما مرغريت بأحسن حالا مني، وقد صار دومينج وماري شيخين ضعيفين، والشيخوخة أسرع إلى سكان هذه المناطق الحارة منها إلى سكان المناطق الأخرى، وبول لا يزال فتى غريرا عاجزا عن أن يستقل بنفسه فيما يعالج من شئونه، فماذا يكون حالكما غدا لو أنكما أصبحتما تحملان وحدكما عبء هذه الحياة الثقيلة على عاتقكما، وكيف يهون عليكما أن تريا أولادكما الصغار غدا بائسين أشقياء لا يملكون لأنفسهم ولا تملكان لهم نفعا ولا ضرا؟ وقد مثلت لنفسي بين أن تعيشي بجانبي فأراك فقيرة معوزة تشقين ليلك ونهارك في جمع قوتك كما تشقى الأجيرة العاملة، وبين أن تفارقيني بضعة أعوام أسمع في أثنائها على البعد من أنباء سعادتك وهناءتك ونعمتك ورغدك ما يثلج صدري ويذهب بوحشة نفسي، فوجدت أني أستطيع احتمال الثانية، وأعجز عن احتمال الأولى، فسافري يا بنيتي، وكوني غدا عكاز شيخوختي وعماد حياتي، ومعينتي على دهري.
فرفعت فرجيني رأسها إليها فإذا دمعة رقراقة تتلألأ في عينيها، ونطقت بتلك الكلمة التي عجزت عن أن تنطق بها قبل اليوم فقالت: «وكيف لي بترك بول يا أماه؟!»
قالت: «إنما أطلب إليك السفر من أجل بول، لا من أجل غيره، فهو غلام مسكين يبذل من راحته وقوته في سبيل العمل ما أحسب أنه قاتله وذاهب بحياته إن طال عليه أمره، فارحميه وأشفقي عليه وأنقذيه من بؤسه وبلائه، ولقد آثرت أن أحتمل كل مكروه في سبيل ذلك حتى الموت ضنا بك وبسعادتك، فكوني مثلي وفارقيه رحمة به وإبقاء عليه، وليكن حبك إياه عظيما مجيدا كحبي إياك، ولن يعظم الحب ولن يمجد إلا إذا بني على أساس من التضحية والبذل.»
قالت: ألم تقولي لي يا أماه قبل اليوم إن للكون إلها يتولى شأنه ويرعاه؟ وقد رعانا وتولى شأننا بالأمس، فلم يتخلى عنا غدا؟
ألم تقولي لي إننا ما خلقنا إلا للعمل، وإن العمل هو ينبوع الحياة ومادتها التي لا تفنى؛ فلم تطلبين إلي اليوم أن أعتمد في حياتي على غيره، وألتمس الرزق من سبيل غير سبيله؟
دعيني أعش بجانبك يا أماه، وبجانب بول ومرغريت ودومينج وماري، وعلى مقربة من شويهاتي وأعنزي، وطيوري وعصافيري، وبين أحضان هذا الوادي الجميل الذي أنست به وأحببته وألفت ليله ونهاره، وكواكبه ونجومه، وأشعته وظلاله، فإنني لا أستطيع أن أعيش بين قوم لا أعرفهم ولا أفهمهم، ولا أحسبني أحمدهم إن عرفتهم وفهمتهم.
دعيني أعش مما قسم الله لي من الرزق، ولقد رزقني الجم الكثير الذي لا أطلب فوقه مزيدا، ولا أبتغي به بدلا ...
لقد عشت في هذا الوادي خمسة عشر عاما ما شكوت ولا تألمت، ولا بت ليلة جائعة أو ظامئة أو ساخطة أو ناقمة، فلم تطلبين إلي أن أترك ما لا يريبني إلى ما يريبني، وأن أبيع هذا الحاضر المعروف بذلك الغائب المجهول؟ إن نفسي لتحدثني بشر عظيم في هذه السفرة التي تدعونني إليها، وما أزعم لنفسي علم ما في الغيب، ولكنني أشعر بخوف شديد لا أعرف له سببا، وحسبي أن أعلم ألا سبيل لي إلى الوصول إلى ذلك العالم الثاني إلا إذا ركبت تلك المطية الوعرة التي يسمونها البحر حتى تسيل نفسي رهبة وجزعا.
Halaman tidak diketahui