وكانت هيلين ومرغريت تنتظران ولديهما منذ غروب الشمس عند سفح الجبل وقد نصبتا حولهما على أبعاد مختلفة بعض المشاعل الكبيرة لتريا على ضوئها وجوه القادمين، فما لمحتا المحفة على بعد حتى طارتا إليها وضمتا ولديهما إلى صدريهما باكيتين منتحبتين، فبكى الولدان لبكائهما، وبكى الجميع لبكائهم، والتفتت هيلين إلى ابنتها وقالت لها: أين كنتما أيها الولدان الشقيان؟ ومن أذنكما بالذهاب وحدكما في هذه الفلاة الموحشة؟ فجثت فرجيني بين يدي أمها وقالت لها: العفو يا أماه، فقد جاءتني اليوم زنجية مسكينة آبقة من سيدها تتضور جوعا، وتسيل نفسها هما وكمدا، فسألتني أن أطعمها وأسقيها، وأن أنقذها من بؤسها وبلائها، فقدمت لها ما شاءت من الطعام والشراب، ثم حرت في أمرها بعد ذلك، فلم أر خيرا لها من أن أصحبها إلى سيدها وأسأله العفو عنها والمرحمة بها، وأبى بول إلا أن يصحبني، فذهبنا إلى شاطئ النهر الأسود، فلما فرغنا من شأننا وأردنا الرجوع ضللنا الطريق، وظللنا حائرين ساعات طوالا حتى وافانا دومينج، وكان التعب قد نال منا منالا عظيما فعجزنا عن المسير، فتقدم هؤلاء السود الطيبون لمساعدتنا، وصنعوا لنا هذه المحفة وحملونا عليها رحمة بنا، ووفاء بذلك المعروف القليل الذي بذلناه لمواطنتهم المسكينة، وكذلك يجزي الله المحسنين خيرا بما فعلوا.
فضمتها أمها إلى صدرها وقالت: قد عفوت عنكما يا ولدي، وأدعو الله ألا يحرمكما نعمة العطف على البائسين والمنكوبين. ثم عادوا جميعا إلى أكواخهم فرحين مغتبطين وقدموا للزنوج كثيرا من الطعام والشراب، فشكروا لهم فضلهم وانصرفوا.
الفصل التاسع
السعادة
وهنا تنفس الشيخ الصعداء ثم، أستطيع أن أقول لك يا بني: إن السعادة ينبوع يتفجر من القلب لا غيث يهطل من السماء، وإن النفس الكريمة الراضية البريئة من أدران الرذائل وأقذارها، ومطامع الحياة وشهواتها، سعيدة حيثما حلت وأنى وجدت: في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور، وبين الآكام والصخور، فمن أراد السعادة فلا يسأل عنها المال والنشب، والفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين، بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه، فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد، وما هذه الابتسامات التي نراها تتلألأ في أفواه الفقراء والمساكين، والمحزونين والمتألمين؛ لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم، وما هذه الزفرات التي نسمعها تتصاعد من صدور الأغنياء والأثرياء، وأصحاب العظمة والجاه، لأنهم أشقياء في عيشهم؛ بل لأنهم أشقياء في أنفسهم، وما كدر صفاء النفوس وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها مثل عاطفة البغض، ولا أنار صفحتها وجلا ظلمتها مثل عاطفة الحب، فأشقى الناس جميعا المبغضون الذين يضمرون الشر للعالم، فيجزيهم العالم شرا بشر، وأسعدهم جميعا المحبون الذين يحبون الناس ويمنحونهم ودهم وصفاءهم، فيمنحهم الناس من بنات قلوبهم مثل ما منحوهم.
وكذلك استطاعت تلك الأسرة الفقيرة المسكينة أن تكون سعيدة هانئة على فقرها وإقلالها وجعجعة المصائب بها، فقد كانت تحمل بين جنوبها نفوسا طاهرة شريفة لا تضمر حقدا، ولا تعرف غلا، فأحبت القريب والبعيد، والمحسن والمسيء، وعطفت على الناس جميعا، من تمت إليه بصلة، ومن لا تمت إليه بشيء.
ولم تحقد على الناس أو تضمر لهم في نفسها شرا، وما لها إلى الناس حاجة، ولا رأي لها في مطالبتهم بشيء مما في أيديهم من مال أو جاه، أو قوة أو سلطان، فقد قنعت من عيشها بما قسم الله لها، ولم تطلب مزيدا، ورضيت من حياتها بهذه العلالة القليلة التي تتعلل بها، فأراحت نفسها من هموم المطامع ومتاعبها.
وكانت أحاديثها التي تجري بينها أحاديث طاهرة بريئة لا تطغى فيها الألسنة ولا الأفكار، ولا تتناول شأنا من شئون الناس - خاصها أو عامها - والغيبة رسول الشر بين البشر، بل هي أس الشرور جميعها، قديمها وحديثها ؛ لأن المرء إذا اعتقد من طريقها الشر في صديقه أو عشيره وملكته فكرة سوء الظن به أبغضه واجتواه، وحذره واتقاه، وكان لا بد له من إحدى اثنتين: إما أن يصارحه ببغضه، فتصبح حياته معه حياة نكدة لا نهاية لهمومها وآلامها؛ أو يماذقه ويداوره، فيصبح رجلا منافقا كذابا، وخير له من هذا وذاك ألا يسمع عن الناس خيرا ولا شرا.
نعم إنها لم تكن تعتمد في حديثها على العلم والتاريخ كما يعتمد الناس في مجتمعاتهم، ولا كانت محاضراتها حافلة بالشواهد والأمثال والعظات والعبر، والمقارنات والموازنات، ولكنها كانت لذيذة شهية، رقيقة مستملحة؛ لأنها كانت تستمد جمالها ورونقها من كتاب الطبيعة المفتوح أمامها، وكتاب الطبيعة هو الكتاب المشرق المنير الذي لا يقبل تأويلا، ولا يحتاج إلى تفسير، والذي يرى فيه قارئه الحياة كما خلقها الله، فلا حاجة به إلى من يدله عليه، أو يرشده إليه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى انتشر لتلك الأسرة الكريمة - بين سكان تلك الجزيرة - ذكر عطر، فأخذ الناس يتحدثون بأدبها ولطفها، ومروءتها وكرمها، وأياديها الظاهرة والخفية، ورحمتها الخاصة والعامة وإن لم يعرفوا لها اسما ولا لقبا، فإذا سأل سائل من السابلة أو الطارئين: من هم؟ كان جواب المجيب: إنهم قوم طيبون وكفى، كشجرات البنفسج المختبئة بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبها، ويحمدون عرفها، وإن لم يعرفوا مكانها.
Halaman tidak diketahui