وما لبثوا جميعا أن عادوا إلى سرورهم وغبطتهم، ولعبهم ومرحهم.
وكانت تلك الحادثة أشبه شيء بسحابة اعترضت وجه الشمس ساعة ثم اضمحلت.
الفصل الثامن
الاستعمار الأوروبي
مضت على ذلك أيام والولدان ينموان في جوهما نمو النبات المحيط بهما، وينمو معهما طيب أخلاقهما وحسن سجاياهما، فبينا فرجيني جالسة في الكوخ ذات يوم تهيئ طعام الإفطار لأسرتها كعادتها، والشمس لا تزال في خدرها، وأماها قد ذهبتا مع دومينج لأداء صلاة الأحد في كنيسة «بمبلموس» وبول في الحديقة يشذب بعض أشجارها، وماري وراء الكوخ تشتغل ببعض شئونها، إذ دخلت عليها زنجية مسكينة آبقة كأنها الهيكل العظمي نحولا وهزالا، ليس عليها من الثياب إلا خرقة بالية تدور بحقويها فجثت على ركبتيها بين يديها باكية منتحبة وأنشأت تقول لها: الرحمة يا سيدتي فإني أكاد أموت جوعا، وقد مر بي يومان وأنا أجوب هذه الأحراش والغابات أتوارى مرة وأظهر أخرى، وأقتات كل ما هو فوق التراب؛ مخافة أن تقع علي عيون بعض الفضوليين من الصيادين فيعيدوني إلى سيدي، والموت أهون علي من أن أعود إليه، فهو رجل قاس غليظ لا يزال يجلدني ويمزق لحمي بسوطه كلما بدا له أن يفعل ذلك.
ثم كشفت ثوبها عن جسمها وأشارت إلى مواضع الضرب منه فإذا خطوط حمراء ملتهبة لا يستطيع نظر الناظر أن يثبت أمامها لحظة واحدة، ثم قالت: ولقد حدثت نفسي كثيرا بالانتحار فما كان يمنعني منه إلا الخوف والجزع، ثم سمعت الناس يحدثون عنكم حديثا حسنا، ويقولون إنكم وإن كنتم من هذا الجنس الأبيض المخيف ولكنكم قوم محسنون راحمون، فأضرع إليك يا سيدتي أن ترحميني وتعودي علي بلقمة أتبلغ بها، وأن تحولي بيني وبين الشقاء! وهنا اشتد بكاؤها ونحيبها فأوت لها فرجيني ورقت لها رقة شديدة، ونهضت إلى الطعام الذي كانت أعدته لأسرتها فأتتها به، فالتهمته في لحظات قليلة، وأخذ وجهها يتطلق فرحا وسرورا، فقالت لها فرجيني: أتحبين أن أذهب معك إلى سيدك وأشفع لك عنده عله يعفو عنك ويرحمك ويكون لك في مستقبله خيرا منه في ماضيه؟ وما أحسبه إلا فاعلا حين يرى بؤسك وشقاءك ومنظر جسمك المعذب المقروح؟ فشكرت لها الجارية فضلها ورحمتها وقالت لها: سأتبعك يا سيدتي حيث شئت، فأنت ينبوع الرحمة والإحسان.
فهتفت فرجيني ببول فحضر، فحدثته حديث الجارية والرأي الذي رأته لها، فوافقها على رأيها واقترح عليها أن يرافقها في رحلتها، ثم سارا معا والجارية تتقدمهما وتخترق بهما الغابات والأجمات في ممرات مستدقة غامضة تعرفها. وكانت تعترضهما في مسيرهما بعض هضبات عالية كانا يجدان مشقة عظمى في تسلقها حتى أشرفا وقت الظهيرة على ضفة النهر الأسود حيث مقام الرجل، فانحدرا إليه، وهناك شاهدا بنية عظيمة فخمة تحيط بها حدائق غناء، وأدواح ملتفة، ومزارع منبسطة، وعبيد كثيرون منتشرون في كل مكان يحرثون ويحصدون، ويحفرون وينقبون، ويخوضون الأوحال، ويحملون الأثقال، ويقطعون الصخور، ولمحا صاحب المزرعة يتمشى بينهم مشية الخيلاء و«غليونه» في فمه ينفث منه الدخان، وبيده عصا خيزران طويلة، وهو رجل طويل القامة، مهزول الجسم، غائر العينين؛ مقرون الحاجبين، أخضر اللون، مقطب الجبين، كأنما قد جثمت روحه الشريرة بين عينيه واستعدت للوثوب على كل من يدنو منها، فارتاعت فرجيني لمنظره المرعب المخيف، إلا أنها لم تجد بدا من التقدم.
فشمت نحوه خائفة مضطربة تعتمد على يد بول والجارية من خلفهما تتبعهما حتى بلغته، فجثت بين يديه وأخذت تضرع إليه أن يعفو عن جاريته المسكينة ويرحمها، وتناشده الله والكتاب في ذلك، فلم يكترث في مبدأ أمره لمنظر فتى وفتاة فقيرين زريين في ملبسهما وهيأتهما، إلا أنه لما وقع نظره على فرجيني ورأى منظرها البديع الجذاب، وشعرها الأصفر الذهبي المسترسل على ظهرها، وتلك العصابة الزرقاء التي تدور بجبينها الأبيض المشرق، ورأى ماء الحياء يترقرق في وجهها ترقرق الطل في ورقات الورد، وسمع صوتها الرخيم المتهدج كأنه ينبعث من آلة موسيقية شجية، بهت وشده وأخرج غليونه من فمه، وابتسم ابتسامة نكراء، وتقدم نحوها قليلا وألقى عليها نظرة فاجرة مريبة، وقال لها: قد عفوت عنها أيتها الفتاة الجميلة، لا من أجل الله ولا من أجل الكتاب بل من أجلك أنت ...
فأشارت فرجيني إلى الجارية أن تتقدم لتشكر لسيدها نعمته وفضله، ثم انكفأت راجعة تركض ركوض الهارب وبول يتبعها حتى ارتقيا الجبل الصغير الذي هبطا منه، وجلسا تحت دوحة من أدواحه يستريحان، وكان التعب قد نال منهما منالا عظيما، فقد قطعا في ذلك اليوم خمسة فراسخ في أرض صخرية وعرة لا يستريحان فيها ولا يهدآن، ولا يتبلغان بطعام ولا شراب، فقال بول لفرجيني ها قد مال ميزان النهار وبيننا وبين مزرعتنا مفازة منكرة لا أحسب أننا نستطيع قطعها قبل الغروب. وليس في هذه البطحاء المحيطة بنا شجرة واحدة ذات ثمر صالح نطعمه أو ننقع ظمأنا بعصارته، وأنت ظامئة جائعة لا طاقة لك بالصبر على أكثر مما صبرت، فخير لنا أن نعود إلى مزرعة مولى الجارية ونطلب إليه أن يمدنا بشيء من الطعام والشراب، وما أحسبه ضانا علينا بهما.
فوجمت فرجيني وقالت: لا يا بول، إن هذا الرجل قد ملأ قلبي خوفا ورعبا، وما أحب أن أرى وجهه مرة أخرى، واذكر تلك الكلمة التي كانت تقولها لنا أمي دائما: «إن خبز الأشرار يملأ الفم حصى»، فلنمض في سبيلنا، وما أحسب أن الله يخذلنا أو يتخلى عنا.
Halaman tidak diketahui