3
وقد كان من نتائج تلك التجاريب الطويلة الشاقة أن برناردين اعتقد أن سعادة الإنسان قائمة على سلوك سبيل الحياة تتطلبه الطبيعة والفضيلة، وأن الفضيلة العامة مهما بلغ من اتساعها فإن مكانها المكان الأول في نفس كل فرد؛ ولذلك عدل عن فكرة الجمهورية التي حاول إنشاءها، واقتصر على وصف حياة بعض الأسر المنزوية في ظلال الوحدة تتذوق طعم النعيم في حجر الطبيعة وعند بساطة الفضيلة.
وهكذا ظهر سفره الخالد «بول وفرجيني»، فهز أوتار المشاعر، وملك أزمة القلوب، وكان فجرا لليل الأدب، وتاجا على رءوس الأقلام، وشعلة صافية باردة فاض بها فؤاده الذي غمرته الفضيلة والصبر والرحمة، وكان لظهوره تأثير عظيم في جميع أنحاء فرنسا، فأبكى كل عين، وصعد كل زفرة، ولم تبق أسرة ولد لها ولد إلا سمته بول، أو ابنة إلا سمتها فرجيني.
وكان أكبر ما أثره في نفوس الناس من هذه الرواية أن حوادثها صحيحة ليس فيها من الخيال إلا النسق والترتيب، فقد قال مؤلفها في مقدمتها: «إني لم أتخيل قصة روائية أصور فيها حياة سعيدة تمتعت بها أسرة أوروبية في وسط ذلك الفقر، بل يمكنني أن أقول إن أشخاص هذه الرواية قد عاشوا حقيقة في تلك الأصقاع وتمتعوا بالسعادة التي وصفتها، وإن تاريخهم في مجمله صحيح شهد به كثير من سكان تلك الجزيرة، ولم أضف عليه إلا بعض جزئيات ليست بذات بال.»
وقد تنبأ بمبلغ تأثير روايته في النفوس قبل ظهورها فقال: «أردت عندما وضعت هذه الرواية أن أعرف مقدار تأثيرها في القراء على اختلاف درجاتهم ومراتبهم ومشاربهم وميولهم، فتلوتها على بعض السيدات الجميلات المتأنقات فبكين، ثم تلوتها على بعض الشيوخ المحافظين الرزينين فبكوا، فعلمت أني قد كتبتها للناس جميعا، وأرضاني هذا الحكم الصامت كل الرضى، على أن هذا السفر إذا كان قد هز عالم البيان إلى هذا الحد فإنه لم يكن ابن يومه، وإنما كان ثمرة مجهود بطيء حتى خرج للناس من ظلمات الفكر إلى قضاء الحقيقة وعليه ثوب ذلك الشاب القشيب، فهو كأنه ليس من عمله بل من عمل الطبيعة التي تضع بذورها في السكون وتنضجها في الظل، فإذا وافى اليوم الذي تظهر ثمرتها فيه أخذت بالألباب والأبصار.»
وكثيرا ما كان يسأله الناس كيف وضعه؟ وكيف انتهى منه؟ فيقول لهم: حسبكم أنه أعجبكم، فلا تضعوا بهذه الأسئلة غشاوة على أعينكم تحجب عنها لذة السرور الذي شعرت به، وإلا كان مثلكم كمثل الطفل يقع نظره على وردة فيذهب خاطره إلى محاولة الاهتداء لكيفية صنعها، وعند ذلك ينثرها ورقة ورقة حتى إذا بلغ غايته لا يرى أمامه شيئا.
على أن جمال الكتاب يجعل الحيارى من السائلين في حل من موقفهم هذا، فهم معذورون إذا تساءلوا عن زهرة هذا السفر القيم كيف نشأت، وعلى أية طريقة نبتت، وبماء أي خاطر متقد سقيت، وتحت أي مؤثر من مؤثرات النفس أيعنت ففاضت على الأجيال بالأريج والألوان والجمال.
ولكن عناصر مثل هذا العمل الكبير دفينة في نفس حياة الكاتب إذا صح أن كل مؤلف يتمثل في سطوره.
على أن برناردين إذا كان لم يخلق كاتبا فإن المشاهدة والتجربة والدرس هذبت قلمه وأنضجته، حتى إذا انقضت هزيلة بائسة طائرة في مهاب الحوادث وقد أحاطتها الأيام بإطار من الشيخوخة لم ير له بديلا منها إلا نفثات قلمه بين سطور هذا السفر الفياض؛ ولذلك قال عنه بعض قارئيه: «ليست هذه الرواية أثرا للكاتب، وإنما هي أثر خالد للغة الفرنسية.»
على أن الرواية وإن كانت لم تقم إلا على وصف الطبيعة الجافة الخشنة فإن القارئ لا يكاد ينتهي منها حتى يشعر بدبيب النشوة في مفاصله، لا لترتيب أشخاصها أو غرابة حوادثها، ولكن لقدرة برناردين على وصف أخلاق أهل القرى السهلة بعبارته الساحرة الجذابة، فهي التي أنطقت الطبيعة الجامدة، وجعلت من الكمال تمثالا حيا قدسيا خالدا، حتى إن بعض قرائه صاح وقد هزه الطرب: «إنني لا أرى هنا غير أكواخ بسيطة وأعواد خشنة، ولكنني أرى حولها وجوها ضاحكة مستبشرة، وقلوبا تسيل سعادة وهناء.» وحتى قال شاتوبريان: «إن السحر الذي يتشعع من سطور هذا الكتاب ليس غير عظمة تتلألأ في ثناياه تحكي تألق القمر فوق عزلة مزدانة بالزهور.»
Halaman tidak diketahui