شرح كتاب الباعث الحثيث
شرح كتاب الباعث الحثيث
Genre-genre
شرح كتاب الباعث الحثيث - المستخرجات والمستدركات وموطأ مالك
لقد صنف أهل العلم في علوم الحديث وفنونه كتبًا كثيرة، منها المستدركات والمستخرجات، كمستدرك الحاكم ومستخرج الإسماعيلي، ومنها المعاجم وغيرها من فنون الحديث وكتبه.
1 / 1
ضابط المستدركات
مثال المستدرك: أن البخاري يقول: أنا سأخرج الأحاديث التي توافر فيها الشرط الفلاني والشرط الفلاني، فخرج والتزم هذا الشرط، ولكن فاتته أحاديث، فعندما آتي وأستدرك عليه الأحاديث التي لم يخرجها وهي على شرطه، ففي هذه الحالة سأقول: إنني استدركت على البخاري حديثًا على شرطه ولم يخرجه في الصحيح، مثلما فعل الحاكم في مستدركه صنع هذا الصنيع، أورد أحاديث يستدرك فيها ما فات البخاري ومسلم في صحيحيهما، ويقول: هذا حديث على شرط البخاري ولم يخرجه هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجه هذا الحديث على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه؛ فكأنه يستدرك عليهما ما فاتهما مما توافرت فيه الشروط.
ولا يشترط أن يلتقي مع المصنف وشيخ شيخه أو في شيخه كما هو في المستخرج، وكذلك يشترط في المستدرك ألا يكون من نفس طريق المستدرَك عليه، الذي هو البخاري ومسلم؛ لأنه إذا التزم إسناده، ففي هذه الحالة لا تقدر أن تقول: إن الحاكم في هذه الحالة استدرك عليه؛ فلا بد أن يكون إسناد المستدرِك من غير طريق المستدرَك عليه.
والإمام الدارقطني عمل كتابًا على الصحيحين اسمه: الإلزامات والتتبع، ومعنى الإلزامات، أي: الاستدراكات، أي: أن الإمام الدارقطني يلزم البخاري ومسلمًا بإخراج الحديث الذي فاتهما؛ لأنه قد تحقق فيه شروط البخاري ومسلم، أو شروط البخاري، أو شروط مسلم، فيقول: إن هذا الحديث على شرط البخاري ولم يخرجه، أو على شرط مسلم ولم يخرجه، أو على شرطهما ولم يخرجاه، ففي هذه الحالة وكأنه يلزم الإمام البخاري أو الإمام مسلمًا أنه كان ينبغي لهما أن يخرجا هذا الحديث، ولذلك سماه: الإلزامات.
أما مسألة التتبع فهي تتبع أحاديث الصحيحين التي لم تكن على شرط صاحبها، بأن يتتبع بعض الأحاديث عند البخاري لم يتوافر فيها الشرط، فهو تتبع البخاري حديثًا حديثًا، ومسلمًا حديثًا حديثًا، فأي حديث وجد أنه ليس من شرط البخاري بين أنه لم ينطبق فيه شرطه، وليس معنى ذلك أن الحديث ضعيف؛ لأن هذه الشروط إنما هي في داخل الكتاب فقط، ليس في أصل الصحة.
يقول الحافظ ابن الأخرم: قل ما يفوت البخاري ومسلمًا من الأحاديث الصحيحة.
ابن الأخرم يقول: إن البخاري ومسلم لم يتركا من الحديث الصحيح إلا القليل جدًا، وابن الأخرم رجل عالم، وحتى نحسن الظن به نقول: هذا الكلام صحيح إن كان يقصد شرط البخاري ومسلم، فيكون فاتهما الشيء القليل، إنما لو كان يقصد مطلق الصحة فلا وألف لا، وهذا الكلام مردود؛ لأن البخاري نفسه فيه من الأحاديث الصحيحة أربعة ألاف فقط.
والبخاري نفسه يقول: أحفظ من الصحيح مائة ألف، يعني: ستة وتسعون ألف حديث صحيح كانت عند البخاري من حفظه لم يخرجها في الصحيح، فهل يستقيم هذا الكلام مع كلام ابن الأخرم: أن البخاري ومسلمًا رويا من الصحيح شيئًا يسيرًا جدًا؟ أبدًا، لكن لو كان ابن الأخرم يقصد ما كان على شرطهما فكلامه بلا شك معقول شيئًا ما، أما إذا كان يقصد مطلق الصحة فهذا الكلام مردود بلفظ البخاري ولفظ مسلم أيضًا.
وابن الصلاح ناقش ابن الأخرم في ذلك، وذكر أن الحاكم قد استدرك عليهما أحاديث كثيرة، وإن كان في بعضها مقال، إلا أنه يصفو له شيء كثير؛ لأن الحاكم استدرك على البخاري ومسلم أحاديث كثيرة، هذه الأحاديث ربما تكون في ظن الحاكم في محلها، والصحيح والصواب غير ذلك؛ لأن مستدرك الحاكم فيه الصحيح والحسن والضعيف، بل والموضوع، فكيف يكون صحيحًا، بل كيف يكون على شرط البخاري ومسلم؟! والكلام عليه سيأتي.
قال ابن كثير: وفي هذا الكلام نظر؛ فإنه يلزمهما بإخراج أحاديث لا تلزمهما؛ لضعف رواتها عندهما أو لتعليلهما ذلك.
والله أعلم.
1 / 2
ضابط المستخرجات
ثم انتقل من مستدرك الحاكم إلى المستخرجات، فقال: وقد خرجت كتب كثيرة على الصحيحين يؤخذ منها زيادات مفيدة.
وهذه أيضًا من فوائد المستخرج، فالحديث الذي استخرجه المستخرِج على أصل الصحيح يحمل زيادة؛ إما في السند، وإما في المتن، وهذه أيضًا فائدة من فوائد المستخرج.
قال: يؤخذ منها زيادات مفيدة، وأسانيد جيدة.
يعني: هناك أسانيد في المستخرجات أنظف من أسانيد المصنفات الأصلية، وهذه أيضًا فائدة.
قال: كصحيح أبي عوانة، وأبي بكر الإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم الأصبهاني وغيرهم، وكتب أخر التزم أصحابها صحتها: كـ ابن خزيمة، وابن حبان البستي وهما خير من المستدرك بكثير، وأنظف أسانيد ومتونًا.
رغم ما فيهما أيضًا من ضعيف؛ لأن ابن خزيمة وابن حبان يشترطان أصل الصحة، حتى سمي الكتابين: صحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، ومع هذا تخلف هذا الشرط أحيانًا، فإن في هذين الكتابين من الضعيف شيئًا ليس يسيرًا.
وكذلك يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيء كثير مما يوازي كثيرًا من أحاديث مسلم، بل والبخاري، بل وأنظف من أسانيد البخاري، بل ولم يخرجه واحد من أصحاب الكتب الستة ولا الأربعة، وهي: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأما الأربعة فهم أهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ولذلك تجد عند أحمد أحاديث انفرد بها، فمثلًا: قد يوجد في مسند أحمد حديث ليس موجودًا في أي من الصحيحين أو السنن، بل يكون في مسند أحمد فقط هو الذي أخرجه، وأخرجه بإسناد الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وهذا الإسناد يعتبر السلسلة الذهبية، فيكون هذا الإسناد الذي انفرد به الإمام أحمد أنظف من كثير من الأسانيد التي أخرجها البخاري ومسلم.
فنقول: على العموم البخاري ومسلم هما أصح الكتب بعد كتاب الله ﷿، ثم البخاري يتفوق على مسلم، وفي بعض الكتب الأخرى كالسنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء والفوائد أسانيد على حدة وعلى انفراد توازي وتعادل بل وتفوق بعض الأسانيد المنفردة عند البخاري وعند مسلم على انفراد، أما الكتابين في مجملهما - البخاري ومسلم - فقد تلقتهما الأمة بالقبول، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله ﷿.
وليس هذا القبول لكل حديث ولكل كلمة في الكتابين، وإنما لعموم الكتابين، ثم هناك أحرف يسيرة قد انتقدت على البخاري وعلى مسلم، هذه الأحرف اليسيرة التي طال فيها الخلاف بين إثبات ما كانت على شرط صاحب الصحيح أو لم يكن على شرطه، وظهر فيها الخلاف أيضًا بين الصحة والضعف، هذه الأحرف لم تتلقها الأمة بالقبول، وإنما الأمة تلقت بالقبول ما اتفق على صحته.
1 / 3
الكلام على المسانيد والمعاجم
تكلمنا عن الكتب التي خرجت أحاديث في مثل قوة الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم، أو ما يناهزها، وذكرنا منها المستخرجات والمستدركات، ثم ذكرنا منها مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكذلك كتب السنن، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وكذلك يوجد بعض الأحاديث بأسانيد نظيفة ومتينة في معجمي الطبراني الكبير والأوسط، أما المعجم الصغير ففيه من الغرائب والعجائب الكثير.
وكذلك في مسندي أبي يعلى والبزار، وغير ذلك من المسانيد والمعاجم والفوائد والأجزاء، يعني: هذه الكتب المصنفة كلها فيها أحاديث كثيرة صحيحة، وربما أخذت في الصحة مرتبة أعلى من مرتبة بعض الأحاديث عند البخاري ومسلم، وليس معنى كلام ابن الأخرم أن البخاري ومسلم فاتهما الشيء اليسير من الصحيح.
وفي هذه المسانيد والأجزاء والفوائد والمعاجم ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منها، لكن لا يكون ذلك إلا من المتبحر في هذا الشأن، أي: في كلام وقرائن ومصطلحات أهل العلم في التصحيح والتضعيف، يعني: لا يكون التصحيح والتضعيف مبنيًا على الوجد أو العقل، فتجد من يحكم على حديث بالضعف؛ لأنه لا يمكن أن يعقل، وأنتم تعرفون أن هناك نابتة في كل زمان ومكان تقول بهذا، وهؤلاء تلامذة وأبناء المعتزلة في كل زمان ومكان يحكمون العقل ويقدمونه على النقل، فتجد من يحكم على حديث من الأحاديث بالضعف فإذا سألته: لماذا؟ قال: لأنه لا يتفق مع العقل، وهو على كل حال لا يتفق مع العقل الغبي، إنما يتفق مع العقل السليم، فيظن أنه لم يخطئ.
يقول: (ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه)، أي: بصحة كثير من الأحاديث التي وردت في هذه الكتب والمسانيد والمعاجم والأجزاء والفوائد.
قال: (بعد النظر في حال رجاله، وسلامته من التعليل المفسد)، أي: التعليل الذي يفسد صحته.
قال: (ويجوز له الإقدام على ذلك)، أي: ويجوز للمتبحر الإقدام على التصحيح والتضعيف لهذه الأحاديث الموجودة في غير الصحيحين إذا كانت له القدرة والمؤهلات التي تجعله يتفوق في هذا المجال.
قال: (وإن لم ينص على صحته حافظ قبله، موافقة للشيخ أبي زكريا يحيى النووي، وخلافًا للشيخ أبي عمرو بن الصلاح).
لأن ابن الصلاح أغلق باب الاجتهاد مطلقًا، فضلًا عن الاجتهاد في علم الحديث، يعني: هو بدأ بإغلاق باب الاجتهاد في الحديث، ثم سحب هذا الحكم على عموم الاجتهاد.
قال: لا يوجد اجتهاد، وما كان كان، والذي لم يكن لم يكن، ثم قال: الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم هذه صحيحة قطعًا، والأحاديث التي حكم عليها أهل العلم بالصحة أو الضعف فهي صحيحة أو ضعيفة، لا خلاف على هذا، وأما الأحاديث التي لم يحكم عليها أهل العلم بصحة ولا ضعف، ولا توجد في كتاب من الكتب التي التزمت الصحة، فنتوقف عن قبولها والعمل بها.
وهذا الكلام خطأ، وهو حجة عليه؛ لأن كونك تتوقف عن العمل بها هذا ذاته حكم، وهو رد، وهو اجتهاد لكن الإمام النووي رد على ابن الصلاح ردًا مفحمًا جدًا بقوله: ما الذي يمنع المتبحر من الحكم ومن الاجتهاد؟ فكم ترك السابق للاحق! وكثير ممن لحق تفوق على من سبقه، فما فائدة إغلاق باب الاجتهاد.
وإغلاق باب الاجتهاد في كل زمان ومكان مصيبة على الإسلام وعلى المسلمين، ولكن بشرط أن يكون المجتهد ملتزمًا بالبصيرة العلمية، لا يأتي شخص ويقول: بقي للاجتهاد كذا شهرًا، فأنا سأجتهد.
1 / 4
الكلام على كتاب المختارة للمقدسي والمستدرك للحاكم
يقول: (وقد جمع الشيخ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي في ذلك كتابًا سماه: المختارة).
وهذا الكتاب يشبه كتاب شرح السنة للبغوي، وهو كتاب نظيف، وأحاديثه عالية، وليس فيه ضعيف إلا الشيء اليسير، وكتاب المختارة قدمه كثير من أهل العلم على المستدرك للحاكم، ومستدرك الحاكم الكلام عليه يطول، ولكن باختصار جمَّع الحاكم هذه الأحاديث التي رواها في الاستدراك على البخاري ومسلم في كتاب، وكثرت أخطاء الحاكم في هذا الكتاب، وخالف كثيرًا مقصوده من الكتاب؛ لأنه قسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام: قسم منه صحيح تم فيه غرض الحاكم، وهو الاستدراك على البخاري ومسلم.
وقسم منه صحيح ولكنه ليس على شرط البخاري ولا على شرط مسلم.
وقسم فيه الضعيف، بل وفيه الموضوع، وطبعًا عندما تأتي تقرأ في كتاب المستدرك على الصحيحين تفاجأ بأن ثلث الكتاب ضعيف أو موضوع.
لكن اعتذر عما فعل الحاكم باعتذار، وهو ما يعبر عنه العلماء بمصطلح التقميش والتفتيش، يعني: عند كوني أريد أن أؤلف كتابًا أجمع كل المقالات وكل ما أجد من آيات وأحاديث وأقوال أهل العلم وأقوال الشراح وغير ذلك، أجمعها بحيث تكون أمامي، لكن عندما أصنف كتابًا سأفتش في هذا الكلام جيدًا، بحيث يكون اختياري أثناء التصنيف صحيحًا ومرتبًا.
وقد اعتذر الحافظ ابن حجر عن الحاكم حيث بيَّن أنه جمَّع هذه المادة وهذه الأحاديث ووضعها في كتاب، فنقح من كتابه جزءًا، ثم أدركته المنية قبل أن يتم التنقيح لباقي الكتاب؛ فكثر بعد ذلك الانتقاد لبقية الكتاب، وأما الجزء الأول منه فقلما تجد فيه ضعيفًا.
والحافظ الذهبي ﵀ لخص كتاب الحاكم، في هذا التلخيص قد يوافق الحاكم فيما ذهب إليه من حكم على الحديث، وقد يخالفه، فإذا رأى أن الحاكم قد أصاب الحكم وقد أصاب غرضه من هذا الحديث وافقه على هذا الصواب، وإذا رأى أن الحاكم أخطأ خالفه، وقال: لا، بل ليس على شرطهما، أو قال: بل ليس على شرط البخاري، أو بل ليس على شرط مسلم.
والغريب أن الحافظ الذهبي في مسألة موافقة أو مخالفة الحاكم أخطأ كثيرًا، ولسنا نحن من يحكم عليه بالخطأ، بل هو نفسه، فإن الذهبي ﵀ صنف كتبًا كثيرة في الرواة، أعلاها وأجلها قدرًا: كتاب تاريخ الإسلام، ثم أخذ من كتاب تاريخ الإسلام كتاب سير أعلام النبلاء، ثم أخذ من سير أعلام النبلاء كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال، هذا الكتاب أربعة مجلدات، وهو في متناول كثير من الناس، فربما يقول الحاكم عن حديث ما: هذا الحديث على شرطهما ولم يخرجاه، ثم تجد من هؤلاء الرواة من قد حكم عليه الذهبي في ميزان الاعتدال أو في غيره بأنه ضعيف.
وقد يقول الحاكم: هذا الحديث على شرط مسلم، ثم لا تجد الحديث على شرط مسلم، وإن كان رواة الإسناد أخرج لهم مسلم، وهذه نكتة عظيمة، وهي أنه ليس بلازم أن يكون الرواة الذين أخرج لهم مسلم إذا اجتمعوا في إسناد أن يكون هذا الإسناد على شرط مسلم، فمثلًا: أخرج لي مسلم، ومحمد قد أخرج له مسلم، وإبراهيم قد أخرج له مسلم، فنحن الثلاثة متفقون أن مسلمًا احتج بنا، لكن الحقيقة أن هذا الإسناد ليس على شرط مسلم، ولو كان الرجال رجال مسلم؛ لأن مسلمًا احتج برواية محمد عن غير إبراهيم.
ولو احتج مسلم مثلًا بمحمد وإبراهيم وحسن؛ فالثلاثة من رجال مسلم، لكن مسلم احتج بكل واحد من هؤلاء الثلاثة عن غير من ذكر هنا، فمثلًا: يقول مسلم: محمد أنا أحتج بروايته إلا عن إبراهيم؛ لأنه لم يعرف إبراهيم، محمد ثقة في كل الناس إلا في إبراهيم، وهذا الأمر وقع فيه الحاكم وتبعه عليه الذهبي، يقول: محمد وحسن وإبراهيم على شرط مسلم، والحقيقة أنهم من رجال مسلم، ولكن ليس على شرط مسلم؛ لأن مسلمًا احتج برواية حسن عن غير محمد، وبرواية محمد عن غير إبراهيم.
فهناك فرق كبير بين أن تقول: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وأن تقول: هذا الإسناد على شرط الصحيح.
فقولي: هذا الإسناد على شرط الصحيح يلزم أن يكون الرجال رجال الصحيح، هذا عند العلماء كافة إلا عند الحاكم، فإنه قال: لا يلزم أن يكون الرجال أخرج ل
1 / 5
الكلام على موطأ مالك
الكلام على موطأ الإمام مالك: معنى الموطأ: الممهد السهل المعبد، يقال: طريق موطأ، يعني: معبد وسهل، والإمام الشافعي ثبت عنه أنه قال: لا أعلم كتابًا في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك، الذي هو الموطأ.
فهل الذي يقدم كتاب البخاري بتلقي الأمة له بالقبول، أم موطأ مالك بنص الشافعي؟ الإمام مالك مات سنة (١٧٩)، والإمام الشافعي كان تلميذ الإمام مالك.
والإمام البخاري مات سنة (٢٥٦)، وذكرت سنة وفاة مالك ووفاة البخاري لأجل أن نلاحظ صحة الأخبار واستقامتها، وهو ما يسمى بمعرفة تواريخ المواليد والوفيات، فالإمام البخاري مات سنة (٢٥٦)، أما مالك فمتقدم على ذلك ولم يدركه البخاري؛ لأنه مات سنة (١٧٩)، دل ذلك على أن الإمام البخاري متأخر عن الإمام مالك، أما الإمام الشافعي فكان تلميذ الإمام مالك، بل هو أوثق من روى عن مالك، ولذلك من ذهب إلى أن السلسلة الذهبية: مالك عن نافع عن ابن عمر، قال: ولكون الشافعي أوثق من روى عن مالك فنقول: السلسلة الذهبية: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر.
والإمام الشافعي عندما ذهبت به أمه إلى المدينة وعمره عشر سنوات ليحضر دروس مالك، قيل: إن مالكًا لم يهتم به في أول الأمر، حتى شعر الشافعي بذلك فقال: يا إمام! إني أحفظ الموطأ، فتعجب الإمام مالك من ذلك، والإمام الشافعي تلقى العلم على الإمام مالك، وكان شيخه في الفقه وفي الحديث، وإن كان الإمام مالك ينسب مذهبه كثيرًا إلى الرأي، بخلاف الإمام أبي حنيفة فإن مذهبه هو مذهب أهل الرأي، وبخلاف مذهب الشافعي في الفقه ومذهب أحمد بن حنبل فإنه مبني على الدليل.
والإمام الشافعي قال هذه المقولة: (ما تحت أديم السماء كتاب أصح من موطأ الإمام مالك)، ولم يزل الإمام البخاري غلام يتلقى العلم، ولم يكن بعد قد صنف كتاب الصحيح.
ثم هناك فرق كبير بين أول من صنف في الصحيح المطلق، وأول من صنف في الصحيح المجرد، فأول من صنف في الصحيح المطلق هو مالك، ولكن أول من صنف في الصحيح المجرد هو الإمام البخاري.
ولو جئنا نرى موطأ الإمام مالك فإننا نجده مليئًا بالمراسيل والغرائب والمقطوعات، فكيف -والحال هذه- يقول عنه الشافعي: أصح كتاب تحت أديم السماء؟
و
الجواب
أن وصل هذه الأحاديث المقطوعة والغريبة والمرسلة لم يخف على الشافعي، فـ الشافعي قد عرف مخارج حديث مالك، فإنه كان خبيرًا بحديثه وأخص تلاميذه، فقال هذا الحكم بناءً على علمه بوصل تلك الأسانيد، ولذلك الحافظ ابن عبد البر عليه رحمة الله أتى بعد ذلك في القرن الخامس والسادس فوصل -كما فعل غيره مع غير هذا الكتاب- هذه الأحاديث كلها، إلا أربعة أحاديث إلى الآن لم توصل، فالحافظ ابن عبد البر خدم موطأ الإمام مالك في أنه شرحه ووصل أسانيده، حتى صارت كل هذه الأسانيد المرسلة والمنقطعة والمعضلة أسانيد موصولة، وبذلك صحت جميع الأخبار والأحاديث التي رواها مالك في موطئه إلا أربعة أحاديث توقف أهل العلم فيها، على أن من سيأتي بعد ذلك ربما يهديه الله ﷿ إلى معرفة أسانيد هذه الأربعة.
وهذا الكتاب الذي بذل فيه ابن عبد البر ذلك الجهد اسمه التمهيد.
1 / 6
الكلام على جامع الترمذي
الكلام على جامع الإمام الترمذي: والإمام الترمذي عندما سمى كتابه: الصحيح الجامع، شمل هذا الاسم فائدة وحكمًا: أما الحكم فهو سحب حكم الصحة على ما بداخل هذا الكتاب؛ لقوله: الصحيح، وكأنه أيضًا اشترط في كتابه أنه صحيح، أو أنه لا يورد فيه إلا الصحيح، ثم خالف ما بداخله هذا الحكم؛ لأن الإمام الترمذي أحيانًا يقول على حديث: حسن صحيح، وأحيانًا يقول: صحيح، وأحيانًا يقول: حسن، وأحيانًا يقول: حسن صحيح غريب، وأحيانًا يقول: صحيح غريب، وأحيانًا يقول: حسن غريب، وأحيانًا يقول: غريب فقط من غير صحيح ولا حسن؛ وكل مصطلح من هذه المصطلحات له مدلول عند الترمذي.
الشاهد من هذه المصطلحات كلها: لو قال الإمام الترمذي بعد أن أخرج حديثًا: هذا حديث غريب؛ فالذي يفهم من هذا المصطلح أنه غالبًا يقصد الضعف، وهذا مأخوذ بالاستقراء.
فإذا كان الترمذي نفسه يحكم على بعض ما رواه بأنه ضعيف -وهو المعني بقوله: غريب- فكيف يسمي كتابه الصحيح؟ وسماه الجامع لأنه يتكلم في كل أبواب العلم: من العقائد والأحكام والحدود والفقه والتفسير وغير ذلك؛ ولذلك الشيخ أحمد شاكر ﵀ لما بذل جهده في التعليق على الكتاب غمز هذا الاسم على غلاف الكتاب، فقال: سنن الترمذي المسمى بالصحيح الجامع.
وهذا إنكار من الشيخ أحمد شاكر أن يتسمى هذا الكتاب بالصحيح، وكذلك ما قيل في سنن الترمذي يقال في سنن النسائي، فكتاب النسائي المسمى والمعروف بسنن النسائي هذا أيضًا ليس أصل كتاب النسائي، إنما هو اختصار وتهذيب لأحد تلامذة الإمام النسائي وهو الإمام ابن السني، طلب منه أن يختصره وأن يجتبيه؛ فسمي المجتبى والمنتقى والمختصر لأصل كتاب الإمام النسائي وهو السنن الكبرى، فأصل كتاب النسائي فيه كثير من الأحاديث الموضوعة، بل فيه الحديث الموضوع، وقيل: إن ابن السني اجتهد ألا يقع في ذلك، ولكنه أيضًا وقع فيه، وروى أحاديث حكم عليها العلماء بعد ذلك بالوضع.
ونتوقف على مسند الإمام أحمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
1 / 7
شرح كتاب الباعث الحثيث - مسند أحمد والكتب الخمسة
يعتبر مسند الإمام أحمد ﵀ من أهم دواوين السنة، فقد جمع فيه طائفة كبيرة من الأحاديث النبوية، وقد عني به العلماء عناية كبيرة، كما عني علماء المسلمين وغيرهم بالحديث النبوي عمومًا، فوضعوا كتب الأطراف والمعاجم المفهرسة وغير ذلك من طرق العناية بالحديث.
2 / 1
الكلام على مسند بقي بن مخلد
نفس الموضوع والمنهج الذي سار عليه أحمد هو الذي سار عليه قبله بقي بن مخلد، لكن بقيًا أسبق من أحمد.
ثم قام بعض الأفاضل من الأساتذة المتخصصين بالدراسة في كتاب سماه: مقدمة مسند بقي بن مخلد، عرف بالمسند وعدد أحاديثه ومنهج بقي بن مخلد في مسنده، وغير ذلك، وقد أخذ هذه المعلومات كلها من ترجمة بقي بن مخلد في كتب التراجم.
2 / 2
الكلام على مسند أحمد بن حنبل
الكلام على مسند أحمد بن حنبل: مسند أحمد كتاب عظيم، وهو من أعظم دواوين السنة كما قلنا، يقول الإمام أحمد لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند؛ فإنه سيكون للناس إمامًا، فما اختلف فيه المسلمون فليرجعوا إليه، فإن لم يجدوا فيه حل قضية فليس بحجة، أو كما قال الإمام أحمد.
وأبو موسى المديني يقول: مسند أحمد صحيح، وكلام أبي موسى المديني في حكمه على مسند أحمد بأنه من الصحاح هذا كلام غير صحيح، والصحيح أن مسند الإمام أحمد فيه الصحيح والضعيف، بل والموضوع، وبعض الناس قالوا: إنه ليس فيه الموضوع وإنما الضعيف، أقروا بالضعيف؛ لأن الإمام أحمد قال: إن في المسند أحاديث ضعيفة، كما روى أحد السلف في فضل عسقلان ومرو وغيرها من البلاد.
لكن منعوا أن يكون في المسند حديث موضوع، والحافظ العراقي كذب هذه الدعوى، وجمع من المسند حوالي أربعين حديثًا موضوعًا أو يزيد قليلًا من الأحاديث التي حكم عليها العراقي ومن سبقه بالوضع، لكن الحافظ ابن حجر العسقلاني ﵀ رد على الحافظ العراقي ونفى أن يكون في المسند حديث موضوع، ورد على هذه الأربعين التي انتقدها الحافظ العراقي حديثًا حديثًا، وسمى كتابه: (القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد)، وإذا قرأت هذا الكتاب فستجد أن الحافظ ابن حجر ﵀ أحيانًا يجامل الإمام أحمد، وأحيانًا يكون صادقًا في الرد على العراقي، وهذا شأن أئمة العلم السابقين، خاصة الحافظ ابن حجر، كان في غاية الأدب مع شيوخه، حتى إنه انتقد على بعض أهل العلم في زمانه من مشايخه انتقادات بين أقرانه، ولم يبلغ هذا الانتقاد مشايخه، فلما طلب منه أن يبرز هذه الانتقادات التي في كتب أشياخه رفض وقال: أبتغي بذلك طيب خاطرهم، وليس في هذا منافاة لمراد العلم، فإنه قد أفرد ذلك بعد وفاتهم، بل بعد وفاته هو طبع ذلك النقد.
الشاهد من ذلك: أن الإمام ابن حجر قد ذب ودافع عن الإمام أحمد إيراده الحديث الموضوع في كتابه (القول المسدد).
وأقول: أحيانًا تشعر بأن الحافظ معه الحق، وأحيانًا تشعر بأن الحافظ متساهل في جهة إثبات الحديث لا في جهة الذب، فهذه الأحاديث يصفو بعضها للحافظ ابن حجر في رده، ولا يصفو له البعض الآخر.
والشاهد من ذلك: أن المسند فيه أحاديث موضوعة، قلَّت أم كثرت، وأن من قال: إن المسند فيه الحديث الصحيح والضعيف والموضوع، لا شك أن ذلك صدر عن سبر غور هذا الكتاب، وتتبع أسانيده وطرقه.
ثم إن الإمام أحمد قد فاته في كتابه هذا -مع أنه لا يوازيه في الكثرة والعدد مسند آخر- أحاديث كثيرة، رغم سعة هذا المسند، بل قد قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين روي لهم في الصحيحين، يعني: بعض الناس قالوا: إن مسند الإمام أحمد رغم سعته وحسن سياقته وترتيبه قد فاته أحاديث صحابة كثيرين، وليست أحاديث مروية ولا أحاديث سنن، إنما هي أحاديث صحابة، ومسانيد صحابة.
ولما كان موضوع المسند أنه يفرد أحاديث كل صحابي على حدة قالوا: قد فاته أحاديث حوالي مائتي صحابي، وهذا القول مبالغ فيه جدًا.
ولكن فاته أحاديث في غاية الشهرة، وكان ينبغي ألا تفوته، مثل حديث أم زرع، وهو من حديث عائشة عند البخاري ومسلم وهو من الشهرة بمكان، بحيث لم يكن يسع أحمد ترك هذا الحديث.
يقول الشيخ أحمد شاكر: إن الذي فات المسند من الأحاديث شيء قليل.
وهذا القول من الشيخ أحمد شاكر فيه مجازفة؛ لأن الإمام أحمد نفسه انتقى هذا المسند من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث، فهذا المسند الذي بين أيدينا لا يكمل ثلاثين ألف حديث، فكيف يكون المسند -وهو ثلاثون ألف حديثًا منتقى من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث- لم يفته إلا الشيء اليسير من الحديث؟! بل هذا المسند الذي بين أيدينا هو انتقاء لأعداد كثيرة من الأحاديث بلغت سبعمائة وخمسين ألف حديث، فهذا الانتقاء بالنسبة لأصله الموجود عند الإمام قليل جدًا، فكيف بالأحاديث التي لم تقع لـ أحمد بن حنبل، ولم تكن في مسموعاته؟! ومسند الإمام أحمد خدم مرات قليلة، وأول خدمة عليه كانت من الشيخ أحمد شاكر ﵀، وهو من علماء الأزهر الأفاضل، بل هو فخر الأزهر، فليفخر الأزهر أن خرَّج مثل هذا الإمام العظيم الذي عمل قاضيًا شرعيًا على مدار عشرين عامًا في المحاكم المصرية.
وأبوه كان وكيلًا لمشيخة الأزهر، فهو من بيت علم، وهو حسني النسب، ينسب إلى
2 / 3
كتب أصول السنة
والعلماء اتفقوا منذ القديم على أن كتب أصول السنة هي كتب الستة الأصول، وهي: الصحيحان: البخاري ومسلم، وهو ما يعبر عن الحديث بأنه متفق عليه، فإذا قلت لك: حديث متفق عليه، فالمراد: رواه البخاري ومسلم، ولو قلت لك: حديث رواه الستة، فالمراد: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه؛ هذا الذي يقال عنه: رواه الستة.
وإذا قيل: رواه أصحاب السنن؛ فاعلم أنهم: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، هذه الكتب الأربعة تسمى كتب السنن، وبإضافة الصحيحين إليها تسمى: الكتب الستة.
وأبو طاهر السِلفي -بكسر السين؛ لأن جده كان اسمه سِلفة- قال: الكتب خمسة: عد الستة ما عدا ابن ماجه، لماذا يا أبا طاهر لم تعد ابن ماجه؟ قال: لأنه لا يساوي أي أصل من الأصول؛ لأن كل ما انفرد به ابن ماجه عن بقية الكتب الخمسة إنما هو ضعيف أو منكر، وما رواه ابن ماجه وهو موجود في أحد الكتب الخمسة: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، فهو موجود فيها، سواء كان صحيحًا أو ضعيفًا، وعلى أي حال العبرة بما انفرد به ابن ماجه عن الكتب، ولما كان انفراد ابن ماجه عن بقية الكتب ضعيفًا ومنكرًا لم يعد أبو طاهر هذا الكتاب من أصول الإسلام، وهذا رأي في غاية الوجاهة، والأوجه منه أن يعد سنن الدارمي من أصول الإسلام الستة؛ لأن سنن الدارمي أعلى وأنظف أسانيد وأصح متونًا مما في سنن ابن ماجه، بل الدارمي نفسه متقدم في الطبقة على ابن ماجه، وأعلى إسنادًا منه؛ فكان الحق أن يعد كتاب سنن الدارمي من أصول الإسلام.
والمستشرقون عندما أتوا ليعملوا المعجم المفهرس لألفاظ الحديث اختاروا كتاب ابن ماجه.
وهذه الأحاديث التي انفرد بها الإمام ابن ماجه إن قيست بالنسبة لبقية الإفرادات فهي قليلة، لكن بالنسبة لحجم كتاب سنن ابن ماجه ليست قليلة، وقد جمعها الحافظ البوصيري في كتاب سماه: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، كما عمل ابن حجر الهيثمي ﵀ زوائد على كثير من الكتب، فعمل زوائد مسند أحمد بن حنبل على الكتب الستة سماه: غاية المقصد في زوائد المسند، ومعنى كلمة (زوائد)، أي: الأحاديث التي رواها صاحب الكتاب زائدة عما في الكتب التي تسمى أصول الإسلام الستة، وهناك زوائد ابن حبان وزوائد أبي يعلى وهما من الزوائد التي جمعها الإمام ابن حجر الهيثمي.
إن السر في ذلك أن المستشرقين عندما جاءوا ليعملوا معجمًا مفهرسًا لألفاظ الحديث اختاروا البخاري ومسلمًا وأبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ثم أدخلوا مع هذه الكتب الستة ثلاثة كتب أخرى: مسند أحمد بن حنبل، وموطأ مالك، وسنن الدارمي، وهنا يمكن أن تقول: أن المستشرقين هم الذين أدخلوا سنن الدارمي، فكان بالإمكان أخذ سنن الدارمي وترك سنن ابن ماجه.
2 / 4
معاجم الحديث النبوي وأطرافه
والحافظ المزي عمل فهرس أطراف لأصول الإسلام، هذا الفهرس هو استخدم أطراف الكتب الستة ومنها سنن ابن ماجه، وضم إليها كتاب الشمائل للترمذي، وعمل اليوم والليلة للإمام النسائي.
إذًا: الحافظ المزي استبعد كتاب سنن الدارمي، فاجتمع لسنن ابن ماجه معجم للألفاظ ومعجم لأطراف الأسانيد، أما معجم الألفاظ فهذا عمل المستشرقين في كتاب معجم ألفاظ الحديث، وأما أطراف الأسانيد فهي في كتاب يسمى: تحفة الأشراف في معرفة الأطراف للإمام المزي.
ومعنى الأطراف: ذكر أول المتون، مثلًا: عندما أقول: خرج لي الحديث الذي يقول: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، ومعك كتاب أطراف المتون، فأنت عندما تبحث في هذا الكتاب الذي بين يديك ستبحث فيه عن حرف العين ثم اللام، ثم اللام ألف، هذا يسمى طرف المتن، أو يسمى طرف الحديث، والحديث له طرفان: طرف من جهة الإسناد، وطرف من جهة المتن، فهذا طرف المتن، وأما طرف الإسناد فهو الصحابي الذي يروي هذا الحديث، فلو أن أبا هريرة هو الذي روى هذا الحديث فأنت تذهب إلى كتاب تحفة الأشراف مباشرة، وتأتي بمسند أبي هريرة، ثم تنظر في سنن ابن ماجه من الراوي عن أبي هريرة، فإذا كان مثلًا سعيد بن أبي سعيد المقبري تبحث في حرف السين من الرواة عن أبي هريرة، وإذا كان الراوي عن سعيد الزهري تبحث في حرف الميم؛ لأن اسمه محمد بن شهاب الزهري، وإذا كان الذي روى عن الزهري حماد تبحث في حرف الحاء عن حماد وهكذا؛ حتى تصل إلى طرف الحديث من جهة السند.
وطرف الحديث من جهة المتن تبحث عنه عن طريق المعجم المفهرس أو عن طريق الفهارس، فهناك لكل كتاب فهارس، والفهارس هي الأطراف، فهذا طرف الترمذي، وهذا طرف ابن ماجه، وهذا طرف البخاري، ومعنى ذلك أنك تستطيع الحصول على أي حديث في أي كتاب من كتب السنة عن طريق هذا الكتاب الذي يسمى (أطرافًا) أو يسمى (فهرسًا).
وأريد أن أقول: إن الفهارس غير المعجم المفهرس، فعندما أقول: أنا أريد أن أعمل فهرسًا لسنن ابن ماجه؛ لأجل أن يسهل علي الرجوع إلى الحديث؛ لأن أول ما أعرف طرف الحديث يسهل علي الرجوع إليه، فهذا شيء والمعجم المفهرس شيء آخر.
فالمعجم المفهرس وظيفته: أنني أبحث عن الحديث من خلال كلمات الحديث، وليس من خلال طرف الحديث، بل من خلال كلمة في نفس الحديث، ولا يشترط أن تكون أول كلمة ولا الثانية ولا الثالثة، ولا آخر كلمة، وإنما أي كلمة في الحديث، ويحسن بك أن تتخير أغرب كلمة في الحديث، كما في الحديث الذي مثَّلنا به: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، فعندما آتي وأبحث على هذا الحديث في المعجم المفهرس أبحث عن أطراف المتن، أما أطراف الأسانيد فليس للمعجم المفهرس أي علاقة بالأسانيد، والذي له علاقة بالأسانيد تحفة الأشراف، وعندما أبحث في تحفة الأشراف لا أستطيع أن أبحث فيه عن أطراف المتن وألفاظ المتن، إنما لابد أن يكون بين الإسناد؛ حتى أستطيع البحث فيه.
أما معجم ألفاظ الحديث أو المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، فلم يقل: لأطراف الحديث أو مقدمات الحديث أو أوائل الأحاديث، وإنما قال: لألفاظ الحديث، وهذا اللفظ سواء كان في الأول أو في الوسط أو في الآخر، الأمر لا يهمنا، فمثل هذا الحديث الذي مثلنا به (علامة المنافق) أبحث عنه في عدة مواضع، أبحث عنه في مادة (علم) التي هي مأخوذة من علامات، ومادة (نفق) المأخوذة من المنافق، ومادة (ثلث) المأخوذة من ثلاث، ومادة (أمن) المأخوذة من اؤتمن، ومادة (خون) المأخوذة من خان، ومادة (حدث) المأخوذة من حدَّث، ومادة (كذب) وغير ذلك من المواد؛ لأنك تفرغ الكلمة وترجعها إلى أصلها الثلاثي، ثم تبحث عنها، ثم تذهب إلى المعجم المفهرس فستجد ضبط الكلمة التي تبحث عنها موجودًا، مثل كلمة حَدَثَ وحَدَّثَ وحُدِّثَ، وغير ذلك من الأوجه التي أتت بها الكلمة، فأنت ستبحث مثلًا عن حدَّث، فلابد أن تكون عارفًا كيف تبحث، فالأصل أنني سأرجع إلى أصل الكلمة وهو مادة: حَدَث، وتحت هذه المادة تأخذ الكلمة بجميع تصاريفها وضبطها، فنرجع إلى الحرف المطلوب الذي أريده في الحديث الذي أمامي، وأول ما تذهب إلى مادة حدث ستجد قول النبي ﷺ: (وإذا حدث كذب)، ثم يقول: رواه البخاري في كتاب كذا وكذا، رواه مسلم في كتاب كذا وكذا، رواه أحمد في مسند كذا وكذا.
وموضوع المعجم المفهرس تسعة كتب: الكتب الستة: البخاري ومسلم و
2 / 5
الموقف من الاستفادة من كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي
ودع عنك من لم يكن له كبير ولا صغير باع في الحديث أن يقول لك: لا يحل اقتناء المعجم المفهرس في بيتك، ويشهد من أهل العلم على هذا الكلام، ولكنهم في الحقيقة من أهل العلم بالفقه والأصول، أما في الحديث فهو حاطب ليل، وكل إنسان تكلم في غير ميدانه أتى بالطامات.
وبناءً عليه فتلاميذه وأتباعه ومريدوه كل واحد فيهم قاطع المعجم المفهرس وحرقه، والمعجم المفهرس الآن ثمنه في السوق ثلاثمائة وسبعون جنيهًا، ولكن انظر إلى أين أدى الجهل! إلى أي نتيجة؟ كل واحد منهم ذهب وحرق المعجم المفهرس، لقيت طالبًا منهم فقال لي: هل لديك المعجم المفهرس؟ فقلت له: نعم، فقال لي: لا يحل لك اقتناؤه، فقلت: لماذا؟ هل ورد في الكتاب أو السنة أنه حرام؟ قال: لا، شيخنا يقول: إنه حرام! الإنجيل نفسه اقتناؤه ليس حرامًا، وأيهما أكثر شرًا: الإنجيل أم المعجم المفهرس؟ فقال: هذا شر من الإنجيل! هو يحمل أحاديث النبي ﷺ؟! قال: شيخنا قال هذا! فهل شيخك معصوم لا يخطئ أبدًا؟ فقال: على أي حال أنا قلت لك.
فقلت له: هل يمكن أن تقول لي: لماذا هو حرام؟ قال: أنا لا أدري، لكن شيخي هو الذي قال ذلك، ثم ذهب وسأل شيخه وأتى، ثم قال: إن الشيخ تتبع مادة هود ونصر الخاصة باليهود والنصارى، فوجد أنه لا توجد مادة في كتاب المعجم المفهرس اسمها: هود أو نصر، فقلت له: صحيح؟! قال: نعم، فقلت له: والله إن صح هذا عن شيخك؛ فأنا أوقن أنه لم يفهم كيف يفتح هذا المعجم.
وكان هذا الكلام في المعرض الدولي للكتاب، وبما أنه معرض دولي فأكيد سيكون الكتاب موجودًا، فبحثنا عن مادة (هود)، ومادة (نصر) فوجدناها، فقلت له: اليهود والنصارى موجودة بكثرة، هل أنت متأكد أن شيخك فتح الكتاب؟ فقال لي: يمكن أنه فيه نقص، فقلت: على أي حال هذا عمل علمي مبارك ينتفع منه المسلمون، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التمسها.
ولو أن يهوديًا مرَّ على مسلم وهو يزني، وقال للمسلم: هذا حرام، ما موقف المسلم في هذه الحالة؟ هل يقول: أنت يهودي لا أريد أن آخذ منك نصيحة.
تعال إلى العصر الحديث الذي نحن فيه الآن، حيث أريد جمع السنة على الكمبيوتر، والدعوى هذه معظمكم سمعها.
وقصة جمع السنة على الكمبيوتر طويلة ملخصها أنني كنت أعمل مع مؤسسة الرسالة، مع الشيخ شعيب الأرنؤوط عام اثنين وثمانين وثلاثة وثمانين وأربعة وثمانين وخمسة وثمانين، واستمريت مع الشيخ شعيب في مؤسسة الرسالة لأنه يعتبر الممسك بمكتب التحقيق في المؤسسة، فـ أبو مروان الذي هو دعبل صاحب المؤسسة طلعت بيني وبينه معرفة، وأنا صاحبه في المدينة، أنا كنت أعمل معه أربع سنوات، كان يفكر قبل أن أولد أنه يجمع السنة على كمبيوتر، لكن كان فقيرًا أيامها، ثم لما صار مليونيرًا أعوزه ورده عن الفكرة الجهاز العلمي: طلاب الفقه والسنة، يعني: هو يحتاج ما لا يقل عن ألف عالم وطالب علم يشتركون في المشروع، ثم لما صار عنده المال والجهاز العلمي؛ لأنه ما شاء الله مؤسسة الرسالة الآن لها مكتب تحقيق في القاهرة في المغرب في الجزائر في تونس في السينمائية مكاتب، ويشرف عليها الشيخ عبد المحسن التركي مدير جامعة ابن سعود في الرياض، وأنا وجدته في الأردن، هو مكتب الشيخ سعيد في المركز الرئيس، المهم أنه لا ينقصه الجهاز العلمي، قلت له: أنت الآن عندك المال وعندك الجهاز؟ قال: لا، أنا يلزمني أن يشترك معي واحد خشية الفشل، طيب! ما هو وجه الفشل؟ قال: إن التقدم التكنولوجي في استمرار ودوام، فربما نجمع السنة على الكمبيوتر بصفة معينة، ثم يخرج العام القادم كمبيوتر آخر أحدث منه فينتهي مشروع الرسالة.
ثم جاء شخص غيره وقال: أنا كنت أعمل مع الريان وكان ممسكًا بمكتب التحقيق، وهذا الكلام كان سنة (١٩٨٥ - ١٩٨٧)، قابلني في المعرض وقال لي: أنا عرفت أنك تعمل مع الريان، وأريدك أن تتوفق في مسألة مشاركة الريان لي في المشروع.
فأنا كلمت أحمد توفيق فقال لي: أنا مستعد، رضوان دعبل قال: يكلف المشروع عشرة ملايين، أحمد توفيق قال: أنا أضع في حساب هذا المشروع عشرين مليونًا، أنا كنت فرحًا جدًا، لا لأننا سنشترك في المشروع، ولا لأجل أن أخانا رضوان دعبل سيشترك في المشروع، أنا وأنتم المستفيدون، وقعوا العقد، وأنا كنت حريصًا، لكن انظر كيف أن السوق يظهر المكر والدهاء لو لم يكن لهم دين يردعهم عن ذلك.
اجتمعنا في مكان ما نحن الثلاثة، واتفقنا على المشروع، وبعدما اتفقنا ووصلنا إلى المراحل الأخيرة وجدت رضوان يتحول بزاوية (١٨٠ْ) ويخوف أحمد من المشروع، ومن الخسائر التي يمكن أن تلحق بالمشروع، حتى اعتذر أحمد في نفس المجلس في آخره، وقال: لا، أنا لست مستعدًا أن أضيع أموال المسلمين، فقال رضوان: والله! للأسف الشديد -يا أخي- أنا كنت فعلًا أفتقد لجوارك، ثم لما خرج رضوان وسافر إلى
2 / 6
تعقيب على كلام الحافظ أبي طاهر السلفي في صحة الأصول الخمسة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وهكذا قال الحافظ أبي طاهر السلفي في الأصول الخمسة -يعني: البخاري ومسلمًا وسنن أبي داود والترمذي والنسائي -: إنه اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب.
وهذا تساهل منه؛ فلم يتفق على صحة هذه الكتب الخمسة أهل المشرق والمغرب، إنما القبول هو لما في كتابي البخاري ومسلم، أما بقية الكتب الخمسة -وهي: الترمذي وأبو داود والنسائي - فلم يتفق على صحتها أهل المشرق والمغرب كما قال أبو طاهر السلفي.
وقد أنكر عليه ابن الصلاح وغيره، قال ابن الصلاح: وهي مع ذلك أعلى رتبة من كتب المسانيد، يعني: لم يتفق عليها أهل المشرق والمغرب، لكن هذه الكتب الخمسة تبقى أعلى رتبة من كتب المسانيد، كمسند عبد بن حميد، ومسند بقي بن مخلد، ومسند أحمد بن حنبل والدارمي وأبي يعلى والبزار والحسن بن سفيان وإسحاق بن راهويه وعبيد الله بن موسى، وغيرهم، فتبقى هذه الكتب التي نسيمها كتب الإسلام أعلى رتبة وأنظف أسانيد وأصح أحاديث من هذه الكتب التي ذكرناها بعد ذلك؛ لأنهم يذكرون عن كل صحابي ما يقع لهم من حديثه، بغض النظر عن الصحة والضعف.
وقد ذكرنا أن البخاري كان له شرط، ومسلمًا كان له شرط، وأبا داود كان له شرط، والترمذي كان له شرط، والنسائي كان له شرط، حتى ابن ماجه كان له شرط، وإن كان كل واحد لم يلتزم به أحيانًا، إلا أن من اشترط يبقى أقوى في المعتبر ممن لم يشترط، بل كان بعض أصحاب السنن شرطه أشد من شرط البخاري، وفي هذا الكلام نزاع بين أهل العلم، لكن على أي حال بعض أهل العلم قالوا: إن النسائي كان له شرط في كتابه أشد من شرط البخاري ومسلم، وإن كان هذا الكلام فيه نظر، إلا أنه على أي حال قد قيل.
2 / 7
الأسئلة
2 / 8
الاجتهاد في طلب العلم
السؤال
من خلال حديثك تأخذ نفسي الهمة في طلب العلم والشد للرحلة لتحصيل العلم، ولكن أنى ذلك وأنا أريد الطلب وفقير، وما أذكر أنني أكملت قراءة كتاب، فماذا أفعل لأجل الاستفادة من هذه الهمة، وكيف أسير في خطوات للوصول إلى ما أطمع إليه؟
الجواب
كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لا يجيبون في المسألة إلا إذا وقعت، فإن وقعت أعانهم الله عليها، وما كانوا يسألون: ماذا نفعل بعد أن نفعل كذا؟ وإذا وقع كذا فماذا نفعل؟ ولكنهم كانوا إذا وقعت الواقعة تكلموا فيها وتحدثوا فيها، وهذا باب جيد جدًا معقود في كتاب أصول الاعتقاد للالكائي، فارجع إليه؛ فإنه في غاية الأهمية، حيث ذكر بابًا في أن السلف لم يكونوا يفتون ولا يجيبون في مسائل لم تنزل، فإذا نزلت أعانهم الله عليها؛ هذه مسألة.
وأما هذه الهمة العالية فنسأل الله تعالى أن يحفظها عليك وأن يزيدها علينا وعليكم، فكان أهل العلم سابقًا لهم مراتب ولهم أصول في طلب العلم، فما كان الواحد منهم يرحل في طلب العلم إلا بعد أن يفرغ من علم أهل بلده، فإذا فرغ من علم أهل بلده وتمكن من الرحلة فذلك مستحب في حقه، وأنت إذا فرغت من طلب العلم هنا فلك أن ترحل بعد ذلك إلى أجلة مشايخنا فتأخذ عنهم إن كنت قادرًا على ذلك.
ونسأل الله أن يرزقك البلغة التي تتبلغ بها في طلب العلم حتى تصير عضوًا نافعًا في جماعة المسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
2 / 9
شرح كتاب الباعث الحثيث - تعاريف أخرى للحسن
الحسن وصف لنوع من الأحاديث المروية، وقع في حده خلاف كثير يرده ابن الصلاح إلى الحسن لذاته والحسن لغيره، وأول من أصل للحديث الحسن هو الإمام الترمذي، والناظر في سننه يستبين ذلك بجلاء.
3 / 1
مناقشة تعريف الإمام الخطابي للحديث الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: ففي الدرس الماضي تعرضنا لشرح الحديث الحسن، وقلنا: إن الحديث الحسن هو مرحلة وسط بين الحديث الصحيح الذي لا خلاف على صحته، وبين الحديث الضعيف الذي لا خلاف على ضعفه.
وفي الدرس الماضي تعرضنا لتعريف الحافظ ابن حجر للحديث الحسن، وقلنا: إنه قال في النزهة عن الحديث الصحيح: هو ما اتصل سنده بنقل العدل تام الضبط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فإن خف الضبط فالحسن لذاته.
إذًا: تعريف الحديث الحسن لذاته عند الحافظ ابن حجر هو نفس تعريف الحديث الصحيح، إلا فقدان شرط واحد وهو تمام الضبط في حق الثقة الذي يروي الحديث الصحيح، فيخف هذا الضبط شيئًا يسيرًا جدًا؛ فينزل الراوي من الثقة إلى الصدوق، فإذا كان في الإسناد رجل واحد صدوق أو أكثر فيكون إسناده حسنًا، لا لغيره وإنما لذاته؛ لأنه استجمع أسباب الحسن في ذاته هو، ولم يأت بها من خارج الإسناد، وإنما توافرت في ذات الإسناد.
وهناك تعريف للإمام الخطابي قال: هو ما عرف مخرجه، واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء.
وهذا التعريف انتقد على الخطابي؛ لأننا نعرف أن أي تعريف اصطلاحي لابد أن يتوافر فيه شرطان: أن يكون جامعًا، وأن يكون مانعًا.
أي: جامعًا لأوصاف المعرف، ومانعًا من دخول أوصاف غيره فيه، فعندما أعرف الحديث الحسن لا يمكن أن أعرفه تعريفًا مانعًا يمكن أن ينطبق على الصحيح والحسن والضعيف، فإذا أردت أن أعرف الحديث الحسن فسأعرفه بتعريفات دقيقة جدًا منضبطة تجمع كل شروط الحديث الحسن، وفي نفس الوقت تأبى أن يدخل في هذا التعريف غيره من أنواع الحديث، فلا يدخل في هذا التعريف الصحيح ولا الضعيف.
فقول الخطابي: (هو ما عرف مخرجه)، معنى (عرف مخرجه): يعني: صحة طريقه، أي: أن يأتيني من طريق صحيح لا خلاف فيه، أو من طرق أخرى تدل دلالة قوية على أن للحديث أصلًا، كأن يأتي مثلًا من وجه مرسلًا، ومن وجه آخر مرفوعًا ضعيفًا فيه ضعف يسير، ومن طريق ثالث فيه مدلس لم يصرح بالسماع، ومن طريق رابع فيه راوٍ مجهول وهكذا، فإذا جمعت لك هذه الطرق توقن أنت بأن هذا الحديث له أصل؛ لأنه عندما تختلف هذه الطرق كلها -وإن كان في كل طريق على حدة نوع ضعف- هذا يعطيني في النهاية انطباع أنه لا بد أن يكون لهذا الحديث أصل.
إذًا: اختلاف الطرق يؤدي أو يثمر أن للحديث أصلًا، وهذا مخرج الطريق أو مخرج الرواية.
وهذا الكلام يصدق على الحديث الضعيف، بل على الحديث الموضوع، فإذا أتاني الحديث الموضوع من غير طريق، وفي كل سند من هذه الأسانيد وضاع أو كذاب؛ فهذه الطرق لا يرتقي بها الحديث، بل هي قرينة ودلالة على أن هؤلاء الرواة اختلقوا هذا الحديث، وفي النهاية أقول: هذا الحديث معروف مخرجه بالكذب.
والحديث الصحيح إذا أتاني من غير طريق كل طريق ازداد به قوة، ربما تصل هذه الطرق إلى درجة التواتر؛ فيكون الحديث معروف المخرج يقينًا.
ففي هذه الحالة عندما أريد أن أعرف الحديث الحسن لا يصح أن أقول: هو ما عرف مخرجه؛ لأن هذه كلمة غير مضبوطة؛ لأن الحديث الحسن يشترك مع الضعيف ويشترك مع الصحيح في هذا القيد: هو ما عرف مخرجه؛ لأن الصحيح كذلك، والضعيف كذلك، إذًا: الحسن لم ينفرد بهذا التعريف.
وقوله: (واشتهر رجاله)، الصحيح كذلك، والضعيف كذلك، فالصحيح رجاله مشهورون بالتوثيق، والضعيف رجاله مشهورون بالضعف.
إذًا: هذا القيد كذلك غير مجد في تعريف هذا النوع من الحديث وهو الحديث الحسن.
وقوله: (وعليه مدار أكثر الحديث)، الكلام هذا أيضًا فيه نقاش، فلماذا لا يكون مدار أكثر الحديث على الصحيح؟ وهل هناك من أحصى السنة فعلم أن معظم الأحاديث الحسنة هي التي عليها مدار الفقه والعلم دون الأحاديث الصحيحة؟
الجواب
لا يوجد.
وقوله: (وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء)، كل قيد من هذه القيود عليه انتقادات؛ لأن أكثر العلماء ومعظم الفقهاء اعتمدوا كذلك على الحديث الصحيح.
إذًا: في هذه الحالة نقول: إن تعريف الإمام الخطابي فيه نظر.
3 / 2
مناقشة تعريف الإمام الترمذي للحديث الحسن
والإمام الترمذي له تعريف، وبعض الناس قالوا: الإمام الترمذي لم يعرف الحديث الحسن، وإنما عرف هذا من استقراء سننه، والصحيح أنه عرف الحسن بهذا التعريف الذي سنذكره الآن في نهاية كتابه السنن في الجزء المسمى بعلل الحديث.
قال الترمذي: (هو الحديث الذي لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب)، يعني: هو ضعيف لكن ليس ضعفًا قويًا ولا شديدًا، إنما ضعفه يسير، ولذلك عبر عنه هنا فقال: هو الحديث الذي يكون في إسناده راوٍ لم يتهم بالكذب، يعني: سيئ الحفظ أو لين أو مقبول أو مجهول الحال؛ فإن كل هذه العلل يسيرة تتقوى، لكن لو انفرد الراوي الذي حكم عليه أهل العلم بأنه مقبول، وقال عنه الحافظ في التقريب: مقبول -هذا مصطلح خاص بالحافظ ابن حجر؛ لأنه قال في المقدمة: وما قلت فيه: مقبول؛ فحين المتابعة وإلا فلين، يعني: إذا توبع- إذا كان هناك من يشهد له ففي هذه الحالة حديثه حسن، إنما إذا كان الحديث مداره على الراوي ولا يروى من وجه آخر، وليس له متابع ولا شاهد؛ فالحديث فيه لين، أي: ضعف، فهو هنا يقول: هو الحديث الذي لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، أما الضعف اليسير فيمكن.
قال: (ولا يكون شاذًا)، يعني: لا يكون هناك مخالفة، يعني: الراوي الضعيف إذا روى حديثًا معينًا يشترط ألا يكون هذا الراوي ضعيفًا جدًا.
والشرط الثاني: ألا يخالفه غيره من الثقات؛ لأنه لو خالفه غيره من الثقات فسيكون حديثه شاذًا.
ثم قال: (ويروى من غير وجه نحو ذلك)، يعني: يأتي هذا الحديث الذي هو المتن بإسنادين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو عشرة، وإن كان في كل إسناد نفس نوع الضعف، يعني: لو أن الحديث روي بأربع طرق، فجئت أنظر في كل طريق فوجدت في كل إسناد راويًا مقبولًا، والمقبول هو من إذا توبع قبل حديثه، وإذا لم يتابع وانفرد برواية الحديث يرد حديثه؛ لأنه حينئذ لين، فهذا الحديث له أربع طرق، وفي كل طريق من هذه الطرق راوٍ مقبول، أو راوٍ لين، أو راوٍ سيئ الحفظ، كل هذه علل ترتقي، لكن انفراد كل راوٍ برواية حديث واحد على هذا النحو يكون ضعيفًا؛ لأن مدار الإسناد على هذا الراوي، وهذا الراوي فيه ضعف، فإذا انفرد ولم يتابعه عليه غيره ولم يكن لهذا الحديث شاهد من أحاديث أخر فهو في حالة انفراده يكون حديثًا ضعيفًا.
ففي هذه الحالة أقول: إن الإمام الترمذي يشترط ثلاثة شروط للحديث الحسن: الشرط الأول: ألا يكون الراوي ضعيفًا جدًا، بل يكون الضعف يسيرًا.
الثاني: ألا يخالفه أحد من الثقات، بمعنى: ألا يكون شاذًا.
والثالث: ويروى من غير وجه على هذا النحو، بأن يكون في كل إسناد راوٍ ضعيف ضعفًا يسيرًا.
3 / 3
مناقشة تعريف الحافظ ابن حجر للحديث الحسن
والحافظ ابن حجر له تعريف، وهو: ما اتصل سنده بنقل العدل خفيف الضبط، وقلنا: إن الراوي الذي خف ضبطه في مقابل تام الضبط؛ لأنه هو نفسه عندما عرف الحديث الصحيح قال فيه: هو ما اتصل سنده بنقل العدل تام الضبط، وعندما عرف الحديث الحسن قال: هو ما اتصل سنده بنقل العدل خفيف الضبط.
فأنا عندي الآن راوٍ تام الضبط روايته صحيحة، وراوٍ خفيف الضبط، وهو ثقة مشابه للأول، لكن الفرق أن ضبطه ليس كضبط من روى الحديث الصحيح، هذا الراوي تنزل رتبة حديثه شيئًا يسيرًا عن رواية الثقة؛ فيكون حديثه حسنًا لذاته.
فإن نزل في الضبط أكثر من ذلك -كأن يكون سيئ الحفظ- فالحديث ضعيف، وسيئ الحفظ ضبطه اختل؛ لأن الترتيب كالتالي: تام الضبط خفيف الضبط سيئ الحفظ.
فتام الضبط هذا حديثه صحيح.
وخفيف الضبط حديثه حسن لذاته.
وسيئ الضبط عند الانفراد حديثه ضعيف.
ونحن الآن نتحدث عن الانفراد في ثلاث حالات: انفراد الثقة، وحديثه صحيح.
انفراد الصدوق، وحديثه حسن.
انفراد الضعيف، وحديثه ضعيف.
وعندما أقول: الحديث الصحيح لذاته: هو ما اتصل سنده بنقل العدل تام الضبط عن مثله من أوله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، هذا هو تعريف الحديث الصحيح، فإذا استجمع هذه الشروط يكون صحيحًا.
حديث آخر أتاني من طريق متصل السند، ورواته عدول، وأحد رواته خف ضبطه شيئًا يسيرًا؛ فسينزل إلى درجة الحسن.
ونفس هذا الحديث أتى من طريقين أو ثلاثة أو أربعة طرق، فلما نظرت في كل الطرق وجدت في كل إسناد راويًا حكم عليه أهل العلم بأنه صدوق، ولم يقولوا عنه: ثقة، وإنما نزل عن هذه المرتبة قليلًا، ففي هذه الحالة أقول: هذا الحديث روي من أربع طرق أو من ثلاث طرق أو من طريقين، كل إسناد من هذه الأسانيد في ذاته حسن، ولو قلت في هذا الحديث في النهاية: هذا الحديث بمجموع طرقه حسن لذاته؛ فهذا الكلام غير صحيح، وتعدد الطرق في هذه الحالة لا قيمة له، فإذا كان كل إسناد لذاته حسنًا؛ فإذا تعددت الطرق والأسانيد فلابد أن أرتقي قليلًا بالحديث، فأقول فيه: صحيح لغيره، يعني: قد استجمع أسباب الصحة والقوة من خارج كل إسناد، كأن يوجد شخص قوي شباب قد استجمع جميع أوصاف القوة والصحة البدنية في ذاته، ففي هذه الحالة سأقول: هذا إنسان قوي في ذاته، بمعنى: أنه قد استجمع أسباب القوة في ذاته هو، بخلاف أخيه الذي أصابته علة وآفة ووهن في بدنه، فالناس يرهبونه ويخافونه لا لأجله؛ لأنهم يعلمون أنه معلول ومريض وفيه ضعف، وإنما يخافون هذا الضعيف لأجل أخيه الذي يتوقعون منه البطش في أي وقت، ففي هذه الحالة سأقول: إن هذا الضعيف استجمع أسباب القوة من غيره.
إذًا: أسباب الصحة إذا اجتمعت في رواة الإسناد -أي: في ذوات رواة الإسناد- ففي هذه الحالة سأقول: هذا الحديث صحيح لذاته، يعني: لم يجمع أسباب الصحة من خارجه، وإنما أسباب الصحة الخمسة قد اجتمعت في ذات الإسناد، سواء في كيفية روايته بأنه ليس شاذًا ولا معللًا بالانقطاع ولا غير ذلك، أو رواته؛ فإنهم ثقات عدول ضابطون.
فإذا استجمع الإسناد أسباب القوة فسأقول فيه: هذا الإسناد قوي وصحيح في ذاته.
لو نزلنا قليلًا في ضبط الراوي فنقول: إن هذا الراوي ليس تام الضبط، وإنما خفيف الضبط، يعني: يمكن أن يكون ضبطه تأثر قليلًا بضياع كتبه بمرض أصابه بعمى أصابه في آخر عمره وكان قارئًا، فلما عمي اختل ضبطه نظرًا لعدم اجتهاده ونشاطه في المراجعة والحفظ والضبط وغير ذلك من الأسباب التي هي آفات تصيب ابن آدم، ففي هذه الحالة سأقول في هذا: من يوم أن عمي وخف ضبطه بدأ يخلط في الأحاديث: يأتي بإسناد من هنا ويركبه في هذا، وهكذا، فنقول عن هذا الراوي: قد اختلط، فهذا الاختلاط علة وآفة، لكن لا يرد بها رواية الراوي مطلقًا، والاختلاط فيه تفصيل سنذكره.
ففي هذه الحالة سأقول: هذا الراوي اختل ضبطه شيئًا يسيرًا؛ فينزل من مرتبة الثقة إلى مرتبة الصدوق، وأي إسناد فيه راوٍ صدوق يكون إسنادًا حسنًا لذاته.
فإذا قلت عنه: إسناد صحيح فلا فرق بينه وبين الثقة، فأي إسناد أقل الرواة فيه رتبته صدوق فينزل من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن لذاته.
ولو أتاني حديث في كل إسناد من أسانيده المتعددة راوٍ صدوق أو أكثر فكل إسناد من هذه الأسانيد على حدة حسن لذاته، فإذا تعددت الطرق على هذا النحو فيكون صحيحًا لغيره.
نأتي إلى الحديث الحسن لذاته وهو ما قلنا فيه: أن ينفرد به الراوي الصدوق، فننزل عن هذه الرتبة نجد أن الراوي ليس متهمًا بالكذب، فإذا كان الراوي متهمًا بالكذب فليس بينه وبين الكذب إلا مرتبة واحدة، وينزل ويسقط تمامًا، ومهما أتى حديثه من طرق متعددة فلا يقبل؛ لأن الكذب علة قوية جدًا لا يمكن أن يرتقي بها الحديث، وإن أتى من ألف طريق على هذا النحو، يعني: لو أتاني حديث من ألف طريق، في كل طريق راوٍ كذاب؛ فسأقول: هؤلاء تواطئوا واتفقوا على اختلاق هذا الحديث.
ففي هذه الحالة سأقول: الراوي لم يبلغ هذا المبلغ، بل هو بين خفة الضبط وبين الكذب.
وأريد أن أقول من هذا الكلام: إن ضعفه يس
3 / 4