Explanation of the Six Principles
شرح الأصول الستة
Genre-genre
شرح الأصول الستة - الأصل الأول
لا فوز للعبد ولا نجاة إلا بإفراد ربه بالعبادة والإخلاص له، هذا الأصل الأصيل هو الذي أنزل الله من أجله الكتب، وأرسل للدعوة إليه الرسل، وعلى هذا الأصل يقوم سوق الجنة والنار، وشرع لأجله الجهاد، وكل الأوامر والنواهي في الشريعة تبع له، فعلى العبد أن يحرص على إخلاصه وتوحيده.
1 / 1
بيّن الله ﷿ الدين بيانًا واضحًا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀: [من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلّاب ستة أصول بينها الله تعالى بيانًا واضحًا للعوام فوق ما يظن الظانون، ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم وعقلاء بني آدم، إلا أقل القليل!] .
هذا هو الدرس المتعلق بستة أصولٍ عظيمةٍ مفيدة، وهو من رسائل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، والظاهر أن هذه الرسالة مقتطعة من كتابات الشيخ رحمه الله تعالى؛ فإنه ﵀ لم يفتتحها بافتتاحٍ واضحٍ فيما نرى -في النسخة التي بين أيدينا- ولعل لها مقدمةً مستقلةً أو محذوفة.
أشار الشيخ رحمه الله تعالى في بداية هذه الرسالة المباركة إلى أن هناك أصولًا ستة، هذه الأصول الستة بينها الله ﷾ بيانًا واضحًا شافيًا ساطعًا في كتابه الحكيم.
قال ﵀: [من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاّب ستة أصول بينها الله ﷾ بيانًا واضحًا للعوام] .
قوله: [للعوام] ليس المراد أن ذلك خاصٌ بهم، بل مراده أن تلك الأصول الستة واجبةٌ على الجميع، وأنها واضحة لعموم الناس، يدركها الذكي والبليد، ويدركها العالم والجاهل، ويدركها كل من سمع الخطاب كائنًا من كان إذا كان قد توافر فيه عقل الإدراك؛ فإن كل من توافر فيه عقل الإدراك والتمييز فإنه يدرك هذه الأصول من كلام الله ﷿.
والمؤلف ﵀ بدأ الرسالة بالتعجب من وضوح هذه الأصول وغفلة الناس عنها، والتعجب هنا معناه: الدهشة والانبهار من هذه الحال، بغضّ النظر هل سببه معلوم أو غير معلوم، وهل سببه معروف أو غير معروف؛ فإنه ليس من لازم العجب جهل السبب كما هو معلوم مقرر؛ فإن العجب يطلق على ما جهل سببه، ويطلق على ما علم سببه ولكنه خارج عن العادة، وخارج عن نظائره وأمثاله مما يظهر ويلفت النظر، فالكلام هنا ليس بحثًا في السبب، وإنما هو بيان للتعجب من حال هؤلاء.
قال رحمه الله تعالى: [من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلّاب] .
(الغلّاب) ليس من أسماء الله ﷿، ولكن ذكره المؤلف رحمه الله تعالى على وجه الصفة، ومعلوم أن باب الأوصاف أوسع من باب الأسماء، فالأسماء توقيفية، أما الأوصاف فالأصل فيها التوقيف، لكنها أوسع من باب الأسماء؛ لأن الأسماء لابد فيها من توقيف على الكتاب والسنة، أما الصفات فيمكن أن تشتق من الأفعال، فكل فعل ثبت لله ﷿ فإنه مشتق منه صفة لله ﷾، وقد جاء في بعض الروايات والآثار وصفه جل وعلا بالغالب، وهو من معاني اسمه العزيز؛ فإن الغالب هو من معاني اسم العزيز كما تقدم؛ لأن من معاني العزّة الغلبة والقهر.
قال ﵀: [ستة أصول بينها الله تعالى بيانًا واضحًا للعوام فوق ما يظن الظانون، ثم بعد هذا غلط فيه كثير من أذكياء العالم] يعني: بعد هذا البيان الذي لا يتوقع بعده وقوع الخطأ؛ لأنه كان بيانًا واضحًا، وما كان بيانه واضحًا ساطعًا يدركه عوام الناس ولا يحتاج إلى علماء وأفذاذ فإن المتوقع فيه ألا يكون فيه غلط، وألاَّ يغفل عنه، وألاَّ يقع فيه خلاف؛ لوضوحه وظهور أدلته وآياته.
وقوله ﵀: [ثم بعد هذا غلط فيه كثير من أذكياء العالم] .
الذكاء: هو حدة في الفهم يدرك بها الإنسانُ الغامضَ من الأمور، ولا صلة بين الذكاء والإيمان، إنما الصلة بين الزكاء والإيمان؛ لأن الزكاء في القلب، والذكاء في الفهم، فقد يكون الإنسان ذكيًا كافرًا، لكنه لا يمكن أن يكون زكيًّا إلا إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله.
فقوله ﵀: [أذكياء العالم] أي: فطناؤه من أصحاب الفهم الذين لا تخفى عليهم الأمور.
وقوله ﵀: [وعقلاء بني آدم إلاّ أقلّ القليل] يعني: غلط فيها كثير إلا أقل القليل الذين لم يغلطوا فيها، ونسأل الله ﷿ أن نكون ممن يدخل في قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ:١٣] وهذه هي حال بني آدم، فإن أكثرهم ضالون، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام:١١٦]، ولذلك لا يجوز الاستدلال على صحة القول أو المذهب أو الطريقة بكثرة السالكين لها، وإن هذا أمر مهم؛ لأن الله ﷿ لم يذكر الكثرة على وجه المدح، بل قال ﷾: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه﴾، وقال الله ﷾: ﴿وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَاْدِيَ الشَّكُوْرُ﴾، وقال جل وعلا: ﴿إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَاْنَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء:٨]، فالكثرة لا تدل على صحة الطريق، ولا على سلامة المنهج، بل الذي يدل على صحة الطريق وسلامة المنهج هو التزام الكتاب والسنة، فهما الحاكمان على كل قول ورأي وعمل، فما وافق الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة فهو الصواب، وما خالفه فهو الخطأ المردود، وإن كان عليه أكثر الناس.
1 / 2
إخلاص الدين لله جل وعلا أصل الأصول
بدأ المؤلف ﵀ من هذه الأصول بالأصل الذي هو الأصل الأصيل، وهو توحيد الله جل وعلا، فقال ﵀: [الأصل الأول: إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم لمّا صار على أكثر من الأمة ما صار أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم] .
هذا هو الأصل الأول من الأصول الستة وهي أصول مهمة.
فالأصل في هذه الدنيا وفي هذا الوجود هو عبادة الله جل وعلا التي قال عنها الله جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، والتي جاء الأمر بها في أول الكتاب الحكيم؛ فإن أول أمر في كتاب الله هو الأمر بالتوحيد في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:٢١]، فأول خطاب في كتاب الله الحكيم وجهه للناس عمومًا هو الأمر بالتوحيد، وهذا يدل على أهمية هذا الأمر وخطورته ووجوب العناية به.
قال رحمه الله تعالى: [إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له] .
(إخلاص) أي: تخليص.
فهو مصدر بمعنى: تخليص الدين.
والدين هو العمل المراد إخلاصه لله تعالى، أي: تخليص العمل.
ومعنى تخليصه وإخلاصه: تبرئته من كل لوث وشرك مع الله ﷾ فإخلاص العمل تبرئته من كل نصيب لغير الله جل وعلا، والعمل يشمل العمل القلبي وعمل الجوارح -العمل الظاهر-، فيشمل الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، ويشمل الأعمال الواجبة والأعمال المستحبة، فإن الجميع يجب إخلاصه لله ﷾.
وهل هناك دليل في الكتاب يدل على أن الدين يأتي بمعنى العمل؟ الجواب: نعم.
وهو قول الله تعالى: ﴿أَلاَ ِللهِ الدِّينُ الخَالِصْ﴾ [الزمر:٣]، وقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين﴾ [الكافرون:٦] أي: لكم عملكم ولي عملي.
أما قوله تعالى ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:٤] فالدين هنا بمعنى الجزاء والحساب، وليس بمعنى العمل، وعلى هذا لا يكون المعنى: مالك يوم العمل؛ لأن يوم العمل هو هذه الدنيا، أما الآخرة فليست دار عمل، وإنما هي دار حساب وجزاء.
قال رحمه الله تعالى: [إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له] .
ألم يكن يكفي أن يقول: [إخلاص الدين لله تعالى] عن قوله: [وحده لا شريك له]؟ الجواب: بلى.
لكن قوله: [وحده لا شريك له] تأكيد لمعنى الإخلاص، فـ (وحده) تأكيد لمعنى التوحيد، و(لا شريك له) تأكيد لمعنى نفي الشرك، وأنه لا شريك له ﷾ في شيء من أموره، لا شريك له في ملكه، ولا شريك له في خلقه، ولا شريك له في ربوبيته، ولا شريك له في إلهيته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، ولا شريك له فيما يجب له من العبادة، فيجب إفراد الله ﷿ بكل ما يستحق، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء في شيء من شئونه، كما قال سبحانه عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] .
1 / 3
بيان خطر الشرك
ثم قال رحمه الله تعالى: [وبيان ضده الذي هو الشرك] .
أي أن الشرك هو ضد التوحيد والإخلاص.
والشرك دائر على معنىً واحد، وهو تسوية الله بغيره، سواءٌ أكانت التسوية فيما يتعلق بالخلق والرزق والملك والتدبير، كأن يعتقد العبد أن هناك خالقًا أو رازقًا أو مالكًا أو مدبرًا غير الله جل وعلا، أم كانت تسوية الله ﷿ بغيره فيما يجب له من الأسماء والصفات، كأن يعتقد العبد أن صفات الله كصفات المخلوق، فهذا -أيضًا- من الشرك الذي يجب أن يتخلص منه المؤمن؛ ليكمل توحيده وإيمانه من الشرك.
وأخطر الشرك وأعظمه الشرك في الإلهية، وهو الشرك في العبادة، ومعناه: أن يجعل العبد مع الله من تُصْرَفُ له العبادة فيصوم لغير الله، أو يصلي لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يطوف تعبدًا بقبر، أو يدعو غير الله في دفع المدلهمات، أو كشف الكربات، وما إلى ذلك مما يكون من كثير من الناس، وكل هذا من الشرك الذي جاءت الشريعة بالنهي عنه والتحذير منه.
1 / 4
القرآن يدعو كله إلى التوحيد
وقد بين القرآن هذين الأمرين -التوحيد والشرك- غاية البيان.
ولذلك قال ﵀: [وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل]، ولا إشكال أن أكثر القرآن هو في تقرير هذا الأصل الذي هو وجوب إفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك بجميع صوره، والقرآن كله توحيد، فهو يدعو في جانب الدعوة إلى التوحيد إلى إخلاص العمل لله ﷿، ويبين فضائل ومصالح التوحيد، ويبين عاقبة أهل التوحيد، أما في جانب النهي عن الشرك فإن الله نهى عنه وحذر منه، وبين أنه ظلم عظيم، وبين الله جل وعلا سوء عاقبة الشرك على أهله في الدنيا قبل الآخرة.
وبين عاقبة المشركين وأنهم في نار تلظى؛ لعظم ما جاءوا به واقترفوه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اَللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾ [النساء:٤٨]، فالله لا يغفر الشرك بالكلية، ويغفر مادون ذلك لمن يشاء، وما هذا الامتناع من الرحيم الرحمان البر الرؤوف إلاَّ لعظم الجرم؛ فإن الشرك ظلم عظيم كما وصفه رب العالمين، فالقرآن كله بيان للتوحيد وفضله وفضل عاقبته وعاقبة أهله، وبيان للشرك وسوء عاقبته وسوء حال أهله في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك كان بيان التوحيد في القرآن واضحًا لكل أحد.
ولذلك قال رحمه الله تعالى: [وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى] يعني: ليس من وجهٍ واحد، وليس -فقط- بالأمر بالتوحيد، أو بالنهي عن الشرك، بل بينه من جميع الوجوه، سواءٌ أكان أمرًا بالتوحيد، أم نهيًا عن الشرك، أم بيانًا لمحاسن التوحيد، أم بيانًا لمساوئ الشرك، أم بيانًا لعاقبة أهل التوحيد، أم بيانًا لعاقبة أهل الشرك.
قال: [بكلام يفهمه أبلد العامة] يعني: لا يحتاج إلى فهم، ولا إلى قوة بلاغة، ولا إلى عظيم إدراك حتى يصل إلى فهم هذه المعاني، بل هي ظاهرة لكل أحد، فمثلًا قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اَللهُ أَحَد﴾ [الإخلاص:١] هذه الآية يدرك معناها كل أحدٍ من الناس، وأنه ﷿ أحد فيما يجب له ﷾ من الربوبية والإلهية والأسماء والصفات.
1 / 5
حيل الشيطان في إيقاع الإنسان في الشرك
قال ﵀: [ثم لما صار على أكثر من الأمة ما صار -يعني من ترك الصراط المستقيم، والانحراف عن الهدي المستقيم هدي النبي ﷺ أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم]، وهذا هو دأب الشيطان -أعاذنا الله وإياكم منه-؛ فإنه يأتي للمؤمن ويظهر له الطاعة بثوبٍ قبيح تنفر منه النفس وتزهد فيه، وتنصرف عنه، ويأتي إلى البدعة والمعصية فيكسوها أجمل الحلل، ويبهرجها ويزخرفها بأحسن الزخارف، حتى يقبل عليها من ضعف إيمانه ولم يرسخ يقينه، وأما أهل الإيمان والبصائر فإنهم لا تغريهم هذه المظاهر، بل ينظرون إلى الأمور بالبصيرة التي يمنّ الله ﷾ بها على المتقين، فيفرقون بين الحق والباطل، ولا تختلط عندهم هذه الأمور، بل هي عندهم في غاية الظهور، فالشيطان يظهر الشرك بمظهر محبة الصالحين، ويظهر الداعين إلى التوحيد بأنهم لا يحبون الصالحين ولا يعظمونهم حق تعظيمهم، فإذا جئت إلى رجلٍ وقلت له: يا أخي! لا تتوجه إلى القبر في الدعاء، وتوجه إلى القبلة، واسأل ربك الذي يملك خزائن السماوات والأرض جلّ وعلا، ولا تسأل هذا المقبور الذي لا يملك لنفسه حولًا ولا طوْلًا قال: أنت لا تعرف قدر الصالحين، ولا تقدر أولياء الله.
وهذا في الحقيقة من جهله، وأنه لم يقدر الله حق قدره، ولو قدر الله حق قدره ما توجه إلى مقبور بين التراب، ولتوجه إلى رب الأرباب، لكن لضعف يقينه وقلة بصيرته انطلت عليه هذه الصورة، وجعل تعظيم أهل القبور والصالحين بالانحناء لهم والركوع أو السجود، وغير ذلك مما يفعله أهل الشرك، وكل هذا مما يخالف هدي النبي ﷺ، ومما يوقع في الشرك، والواجب على المؤمن أن يبعد نفسه عن كل ما خالف هدي النبي ﷺ، وأن يعلم أن خير الهدي هدي النبي ﷺ، وإذا وقع المؤمن في شيء من هذا فإن الشيطان سيزيِّنه له، لكن إن راجع المؤمن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وهدي السلف الصالح سلم من هذه الشبه.
وليعلم أنه لا أحد أعظم اتباعًا للكتاب والسنة من رجل جعل الله ﷿ قصده ومعبوده، ولم يصرف إلى غيره نوعًا من العبادة، فليحذر المؤمن من الشيطان، فإنه يأتي إلى هؤلاء ويزين لهم الشرك، ويقول لهم: هذا ليس شركًا، إنما هذا من إجلال الصالحين ومن تعظيمهم.
وحتى ينفرهم من دعوة التوحيد يقول: هؤلاء إنما يدعون إلى تنقص الصالحين والوقيعة فيهم، ولا يعظمونهم ولا يقدرونهم حق قدرهم.
وهذه شبهة ضعيفة لا تنطلي إلاّ على ضعاف العقول.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم]، والصحيح أنها غلو في الصالحين، ومجاوزة للحد، وإلاَّ فالمؤمن لا يقع في هذا ولا يقرب منه، بل لا يعظم إلاّ ما عظمه الله ورسوله.
ثم إن محبة الصالحين عبادة، لكن لا يجوز أن يتجاوز المؤمن في هذه العبادة حدها حتى يقع في الشرك، هذا هو الأصل الأول الذي ذكره المؤلف ﵀ في هذه الأصول الستة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 6
شرح الأصول الستة - الأصل الثاني
إن قوة الأمة لا تكون إلا في وحدتها واجتماعها، ولهذا لما تفرقت الأمة شذر مذر، تسلط عليها أعداؤها وساموها سوء العذاب، فإذا أرادت الأمة أن يعود لها مجدها وعزتها وقوتها فعليها بالاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وعليها أن تنبذ التفرق والاختلاف.
2 / 1
الاجتماع في الدين ونبذ الفرقة من الأصول التي جاء بها الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀: [الأصل الثاني: أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بيانًا شافيًا تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه، ويزيده وضوحًا ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون] .
يقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀: (الأصل الثاني) أي: من الأصول التي دل عليها القرآن، وجاءت بها السنة على وجه الاستفاضة، قال: (أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه) الاجتماع في الدين لا يمكن ولا يتحقق إلاّ بالاعتصام بالكتاب الحكيم والأخذ بسنة خاتم النبيين ﷺ، والسير على صراط الصحابة والتابعين من خير القرون، هذه الأمور الثلاثة بها يحصل الاجتماع في الدين، ومن غيرها لا يمكن أن يحصل اجتماع، بل غيرها هو الفرقة التي نهى الله ﷾ عنها، وحذر منها رسوله ﷺ.
وقد أمر الله ﷿ بالاجتماع في الدين في آياتٍ كثيرة، كما أنه نهى عن الفرقة في آياتٍ كثيرة، فمن الأمر بالاجتماع في الدين قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣] فهذا هو الذي شرعه الله ﷿ لهذه الأمة، كما أنه أمر به من تقدم من الرسل، وأمره للرسل أمر للأمم، فإن الله ﷿ أمر الرسل وأمر أممهم بإقامة الدين فقال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، وإقامة الدين لا تتحقق إلاّ بالأخذ بالكتاب الحكيم وسنة سيد المرسلين، ﷺ، فالواجب على الأمة إذا أرادت الاجتماع أن تنبذ ماعدا هذين الوحيين: كتاب الله وسنة النبي ﷺ، وكذلك ما أجمع عليه السلف؛ لأن ما أجمع عليه سلف الأمة لابد أن يكون له دليل من الكتاب أو السنة، وقد قال الله جل وعلا في بيان ذلك: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:١٠٣]، وحبله هو شرعه الذي أوحاه إلى رسوله ﷺ، فالأمر بالاجتماع ليس مجرد الاتفاق على أي وجهٍ كان، كما يدعو إليه بعض من قل نصيبه من العلم، فيقول: الواجب على الأمة أن تجتمع مذاهبها على اختلافها، وعلى تناحرها، فهذا هو الواجب على الأمة في نظره، ونحن نقول: هذا هو الواجب، لكن مع أمرك بالاجتماع لابد أن تبين طريق الاجتماع، وهو ما بينه الله في كتابه، أما أن تطلق الدعوة إلى الاجتماع دون بيان الطريق الموصل للاجتماع فهذا لا يحقق المقصود؛ لأن الله لما أمر بالاجتماع لم يأمر به مطلقًا، بل أمر به أمرًا واضحًا مقيدًا فقال ﷾: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ وقال جلّ وعلا: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣]، وإقامته لا تكون إلا بأخذه من مصادره الأصيلة الكتاب والسنة، فالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق مما دل عليه الكتاب والسنة دلالةً واضحة، ولذلك قال المؤلف ﵀: (فبين الله هذا بيانًا شافيًا تفهمه العوام) يعني: لا يختلط، ولا يحتاج إلى عميق نظر وكبير تأمل حتى يتوصل الإنسان لهذه النتيجة، بل هي واضحة بينة لكل من أحسن قراءة أو سَمْع القرآن، فإن الله ﷾ أمر بذلك أمرًا واحدًا.
وأما النهي عن الفرقة فإنه كثير، ومن ذلك قوله ﷾: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران:١٠٥] ثم قال ﵀: (ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا) .
نهانا كما ذكرنا في الآية: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وقوله جلّ وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام:١٥٩]، والآيات التي تحذر من التفرق في الدين كثيرة جدًا.
2 / 2
أسباب الاختلاف في الدين
واعلم أن التفرق في الدين له أسبابٌ كثيرة، لكن الذي يجمع هذه الأسباب على اختلافها وتنوعها هو الإعراض عن الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، فبقدر ما يحصل عند الناس من الإعراض عن هذه الأمور يحصل بينهم من الفرقة والاختلاف بقدر إعراضهم؛ لأن الناس إذا أعرضوا عن الكتاب والسنة يرجعون إلى أهوائهم، وإلى آرائهم وأذواقهم، وإلى ما يشتهون ويحبون، وهل هذا مما يتفق فيه الناس؟ الجواب: إن هذا مما يختلف فيه الناس اختلافًا عظيمًا، فاختلاف الناس في آرائهم وأقوالهم وعقولهم وما يحبون أشد وأعظم من اختلافهم في ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم، ولو أردنا أن نحصي ما يتكلم به الناس من اللغات فهل نستطيع إحصاءها؟ الجواب: إننا لا نستطيع؛ لأنها كثيرة متنوعة، حتى اللغة الواحدة يتفرع عنها لغات عديدة، فاختلاف الناس في آرائهم وعقولهم أشد من اختلافهم في لغاتهم، وأشد من اختلافهم في ألسنتهم، وأشد من اختلافهم في ألوانهم، ولذلك فالمرجع الذي يجتمع عليه الناس ولا يختلفون فيه ولا يختلفون عليه هو الكتاب والسنة، ولذلك فمن دعا إليهما فهو الداعي إلى الاجتماع، ومن دعا إلى غيرهما فهو الداعي إلى الفرقة.
فعرفنا الجامع لأسباب الفرقة، والجامع لأسباب الاجتماع، فأعظم أسباب الفرقة هو البغي، والبغي: هو مجاوزة الحد ويقابله العلم؛ فإن العلم من أعظم أسباب الاجتماع؛ لأنه كلما كثر علم الإنسان ورسخ كان داعيًا إلى الاجتماع ونبذ الفرقة.
ومن البغي الذي يسبب الفرقة والاختلاف الحسد والكبر، والحسد: هو كراهة ما أنعم الله به على الغير ولو لم يتمنَّ زواله.
فكل من كره ما أنعم الله به على غيره في دينٍ أو دنيا فهو حاسد، سواء تمنى أن تزول النعمة أم لم يتمنَّ ذلك، وانتبه إلى هذا؛ لأن بعض الناس يظن أن الحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير.
وهذا تعريف قاصر للحسد، بل الحسد: هو أن يكره الإنسان ما منَّ الله به على غيره من النعم الدينية أو النعم الدنيوية.
والكبر أيضًا هو سبب من أسباب الفرقة والاختلاف؛ لأن الكبر يحمل الإنسان على رد الحق، فالمتكبر يأنف ويستعلي أن يأخذ الحق من غيره، ويقول: أنا آخذ الحق من هذا! فما الذي تميز به عليَّ؟ أنا أحسن منه في كذا.
إما في مالٍ، أو في جاه، أو في منصب، أو في نسب، أو في لون، ويرد الحق بسبب كبره، فتقع الفرقة.
2 / 3
افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة
قال: [وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في دينهم، ونهاهم عن التفرّق فيه، ويزيده وضوحًا -أي: هذا الأصل- ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك] .
والعجب العجاب أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما قال النبي ﷺ: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) .
ولذلك يجب على المؤمن أن يحرص على أن يكون من هذه الواحدة التي بشرها رسول الله ﷺ بالنجاة، وصفتها جاءت في سنة رسول الله ﷺ؛ فإنه ﷺ في رواية الترمذي لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي)، وفي رواية أخرى قال: (هي الجماعة)، والجماعة هم المجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
2 / 4
انقلاب الموازين عند كثير من الناس
قال رحمه الله تعالى: [ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه من العلم والفقه في الدين] .
أصول الدين مسائل الاعتقاد، وفروعه مسائل الفقه، وهذا لا إشكال فيه، فقد أصبح الأمر على خلاف ما أمر الله به، فأصبح الناس يدعون إلى فرقٍ وإلى مذاهب شتى، ويعدون أن الدعوة إلى هذه الفرق وإلى هذه المذاهب وإلى هذه الأحزاب هي الموصلة إلى ما دعت إليه الرسل، والرسل لم تدعُ إلى مذهب معين، إنما دعت إلى عبادة رب العالمين، ودعت إلى صراط الله المستقيم، وإلى كلمة سواء، وهي أن يخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يطيعوا الله ﷿ فيما أمر، وأن يتركوا ما عنه نهى وزجر.
ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون) أي: أن من يأمر الناس بالإقبال على الكتاب والسنة ونبذ الأقوال المخالفة لهما مهما كانت مصادرها، سواء أكانت في الاعتقاد أم في الفقه يصفونه بالزندقة، أو بالجنون، والزنديق في كلام السلف هو المنافق، فقوله: (إلاَّ زنديق) أي: إلاَّ منافق، (أو مجنون)، أي: فاقد العقل، والزنديق هو فاسد الدين، والمجنون: هو فاقد العقل، فيصفونه بأحد هذين الوصفين، وهو نظير ما وصف به الجاهلون رسول الله ﷺ، والأمر كما قال الله جل وعلا: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات:٥٣] أي أن هذه المقولة سببها الطغيان والخروج عن الصراط المستقيم.
إذًا: الواجب على كل مؤمنٍ أن يسعى إلى الاجتماع، وأن يأمر به، وأن يحث عليه، لكن ما هو الاجتماع الذي دعت النصوص إلى الأخذ به؟ الجواب: هو الوارد في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران:١٠٣]، والحبل في هذه الآية هو شرع الله المتين الذي جاء به رسول الله ﷺ.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
2 / 5
شرح الأصول الستة - الأصل الثالث
لا يصلح الناس إلا بقائد يقودهم ويسوسهم حتى تستقيم أحوالهم وتصلح أمورهم، والناس بغير قائد تضطرب أمورهم، ويقعون في هرج ومرج واختلاف، ولهذا كان من الأصول التي جاء بها الإسلام السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان ظالمًا، ما لم يصدر منه الكفر صريحًا.
3 / 1
السمع والطاعة لولي الأمر من أصول الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀: [الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدًا حبشيًّا.
فبين الله له هذا بيانًا شائعًا كافيًا بوجوه من أنواع البيان شرعًا وقدرًا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به؟!] .
هذا الأصل الثالث هو تابع للأصل الذي قبله.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدًا حبشيًّا)، يعني: أن مما أمر الله به السمع والطاعة لمن تأمر علينا، أي: لمن ولي أمرنا.
والسمع هو القبول، والطاعة: هي الانقياد والامتثال، وهما مقرونان في كثيرٍ من المواضع، قال الله جل وعلا في كتابه في آخر سورة البقرة: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة:٢٨٥] وقال النبي ﷺ: (لا تقولوا سمعنا وعصينا، وقولوا: سمعنا وأطعنا) .
، فالسماع المراد به القبول، والطاعة المراد بها الامتثال والعمل، فالواجب على الأمة لتحقيق الاجتماع أن تسمع وأن تطيع لمن ولي أمرها.
ولذلك قال رحمه الله تعالى: (لمن تأمر علينا، ولو كان عبدًا حبشيًّا)، وهذا هو الذي أمر به النبي ﷺ أصحابه، ووعظهم به، وأمر به الأمة أن تسمع وأن تطيع، ولو تأمر عليهم من يحتقرونه، ولذلك قال: (ولو كان عبدًا حبشيًا)، لاسيما في ذلك الوقت الذي كان مثل هذا في غاية الدنو عند أهل ذلك العصر؛ لأن العبد الحبشي في ذلك الوقت كان الغالب أنه يُستعبد، وأن يُؤمر، لا أن يترأس ويأمر، فلما أمرهم النبي ﷺ بهذا دل على أنه يجب عليهم أن يمتثلوا أمر من ولاه الله أمرهم، وأن يكون حالهم مع أمرائهم ومن ولاّهم الله عليهم أن يكونوا بين سمعٍ وطاعة، فيسمعون ويطيعون.
وقوله: (ولو كان عبدًا حبشيًا) هذا من حيث اللون والجنس، أي: الأصل.
أما من حيث حال من تولى فهل يلزم أن يكون على طاعةٍ وبر؟ الجواب: لا يلزم، ولذلك قال النبي ﷺ في الصحيح: (من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه)، سواء فيما يتعلق به، أو فيما يتعلق بغيره أمر النبي ﷺ بأن يصبر عليه، ثم بعد هذا الأمر جاء الوعيد فقال: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) أي: مات على غير الطريقة السلفية، وعلى غير الطريقة النبوية، وهذا مما يتعلق بحال الأمير من حيث الاستقامة، ولذلك كان من عقيدة أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لولاة الأمر، ومن عقيدتهم الجهاد والصلاة والحج خلف الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا، وبهذا تستقيم أحوال الناس، بل لا استقامة لأحوال الناس إلاَّ بهذا، فإذا كره الإنسان من أميره شيئًا فالواجب عليه أن يصبر، ولذلك لما أخبر النبي ﷺ الصحابة بأنه ستكون بعده أثرة سألوه: فما الواجب؟ قال: (أدوا الحق الذي عليكم، واسألوا الله الذي لكم)، وهذا معناه أن يصبروا.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى في بيان هذا الأصل: (فبين الله له هذا بيانًا شائعًا كافيًا بوجوهٍ من أنواع البيان شرعًا وقدرًا)، فمن الشرع قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:٥٩]، وقول النبي ﷺ: (على المسلم السمع والطاعة في منشطه ومكرهه وفي عسره ويسره)، والأحاديث والأدلة في هذا كثيرة، وأما قوله: (وقدرًا) فالمراد به: بين الله هذا قدرًا.
فما من فئة خالفت هذا الأمر إلا دب فيها الخلاف، ووقعت في الفرقة والنزاع والقتال، وأكبر شاهد على هذا ما وقع في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، فعند أن خرجوا عليه وقع السيف في الأمة، ووقع القتال والخلاف المعروف المشهور، وهذه هي الحال في كل من سعى في مخالفة ما أمر به النبي ﷺ من الاجتماع على من ولاه الله أمر الأمة.
ثم قال رحمه الله تعالى: (ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به) وهذا واقع، ولذلك تجد أن كثيرًا ممن يخالف طريق أهل السنة والجماعة لا يذكرون هذا الأصل، فليس من أصولهم السمع والطاعة لولاة الأمر، بل من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني الخروج على الأئمة ومنابذتهم ومقاتلتهم، وهذا مشهور عند الخوارج والمعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
3 / 2
شرح الأصول الستة - الأصل الرابع
أول أمر أُمر به النبي ﷺ هو الأمر بالقراءة، وما ذاك إلا لبيان أن هذا الدين مبني على العلم، وقد جاءت الشريعة ببيان فضل العلم وبيان صفات حملته، حتى لا يختلط الأمر وينعكس، فيؤخذ العلم عن غير أهله.
4 / 1
بيان العلم وصفات أهله مما جاءت به الشريعة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀: [الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله تعالى في هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم﴾ [البقرة:٤٠] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم ﵇: ﴿يَا بَنِي إِسْرائيل﴾ [البقرة:١٢٢] الآية، ويزيده وضوحًا ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل، وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون، وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم] .
هذا هو الأصل الرابع في هذه الرسالة المباركة، وهذا الأصل ملخصه أن الشريعة جاءت ببيان العلم النافع وصفات حَمَلَتِه، وبينت صفات أهله بيانًا واضحًا لا لبس فيه ولا شك، ولا شبهة فيه ولا ريب، فلا يلتبس الحق بالباطل، ولا يلتبس العلم بالجهل، ولا يلتبس الفقه بغيره لمن قرأ كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
قال رحمه الله تعالى: (الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء) .
(العلم) هو موضوع هذا الأصل، (والعلماء) هم: حملة هذا العلم، (والفقه) أي أن هذا الأصل مخصوص ببيان حقيقة الفقه ومن هم الفقهاء.
وليس مراد المؤلف ﵀ بالفقه هنا معناه في الاصطلاح الخاص الذي هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بل المراد بالفقه هنا إدراك الشريعة وفهمها، وهو المقصود بقول النبي ﷺ: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، فليس المراد بذلك معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية فقط.
قال رحمه الله تعالى: (وبيان من تشبه بهم وليس منهم) .
قوله: (تشبه بهم) أي: بالعلماء والفقهاء، (وليس منهم) أي: وحاله في الحقيقة أنه ليس منهم، وذلك أن الله ﷾ بين صفات العلماء الربانيين، وبين من تشبه بهم في أخذه العلم، لكن لم يكن هذا العلم قد آتى ثماره، وحصّل به حامله مقصوده؛ لأن العلم يحمله من الناس صنفان: عامل به، فذاك الموفق المحصِّل للمقصود، ومهمل له، وذاك الخاسر المحروم؛ لأن من تعلم العلم ولم يعمل به فهو حجة عليه، كما قال النبي ﷺ: (والقرآن حجة لك أو عليك)، حجة لمن أخذ به وقرأه وعمل به، وهو حجة على من قرأه وأعرض عنه، وكذلك حجة على من أعرض ابتداءً فلم يقرأ أو يعمل، فكلاهما يدخل في كون القرآن حجة عليه، لكن من أخذ بالقرآن وأعرض عنه فإنه أعظم جرمًا ممن لم يأخذه من الأصل، والسبب أن من أخذ القرآن فقد أبصر، وصار عنده آلة الاهتداء ومعرفة سلوك الطريق المستقيم، بخلاف الذي أعرض عنه بالكلية؛ فإنه لم ينل البصيرة، ولم يحمل النور.
ولذلك كان الذم الشديد الذي ورد في القرآن هو لمن أخذ القرآن وأعرض عنه، فأسوأ مثلين ذكرهما الله ﷿ في كتابه هما فيمن أخذ العلم ولم يعمل به، قال الله ﷾ في سورة الأعراف: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ [الأعراف:١٧٥]، (آتيناه آياتنا) أي: البينات الواضحات، (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) كما يسلخ الجلد من الشاة.
أي: لم يبقَ معه شيء منها.
كما أنك إذا سلخت الشاة لا يبقى شيء من جلدها عليها، فكذلك الواقع في هذا الذي منّ الله عليه بالعلم ولم ينتفع به، ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [الأعراف:١٧٥-١٧٦]، وهذا فيه بيان أن الضلال والانحراف كان منه، مأخوذ من قوله: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا)، ومن قوله: (أَخْلَدَ) .
﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ أي: أعانه على هذا الشيطان، نعوذ بالله قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف:١٧٦] أي أنه في عناءٍ دائم ولهثٍ غير منقطع عند قيام سببه، وعند عدم قيام سببه، وذلك أنه أعرض عن النور والهدى بعد البصر، وهو من أشد ما يكون على القلب أن يعرض الإنسان بعد البصيرة.
والمثل الثاني في سورة الجمعة؛ حيث قال ﷾: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة:٥] فجعل إعراضهم عن مقتضى ما حملوه من العلم تكذيبًا، ومقتضى ذلك أنهم كذَّبوا بما حُمِّلوا من العلم؛ لأنهم لو كانوا صادقين مصدِّقين لهذا العلم لعملوا به، فلا يمكن لإنسانٍ يصدق ويعتقد ما يحمله من العلم أن يتخلى ويعرض عنه.
وهذا في الإعراض الكلي، أما كون الإنسان يخالف ما علمه في بعض الأحيان بداعي الهوى أو الشهوة فهذا يقع، ولكنه لا يستمر على الإعراض، ولا يستمر على الانسلاخ، بل يعود ويستعتب ويستغفر ويرجع.
والمهم أن كتاب الله ﷾ وسنة رسوله ﷺ بينا العلم النافع، وبينا أهله بيانًا واضحًا شافيًا، وميَّزا ذلك عما يلتبس بهما من مدعي العلم الذين هم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم يدعون الناس إلى النار بأفعالهم، بل في بعض الأحيان بآرائهم وأقوالهم؛ حيث إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسوِّغون للناس الشرّ والضلال، وبينا من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله تعالى هذا الأصل في أول سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:٤٠] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم ﵇: ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:١٢٢]، فإن الله ﷿ قص في هذه السورة نبأ اليهود، وما كان منهم من تكذيبٍ وإعراض، وما قابلوا به الدعوة، فذكّرهم جل وعلا بعظيم ما أنعم به عليهم من العلم والهدى والاصطفاء وغير ذلك، وبين ما كانوا عليه، وكيف قابلوا تلك النعم، فكانت حجةً عليهم لا حجةً لهم.
4 / 2
نصوص الوحي واضحة
ثم قال رحمه الله تعالى: (ويزيده وضوحًا ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البيِّن الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات) .
قوله: (ويزيده وضوحًا -أي: يزيد هذا الأصل وضوحًا وبيانًا- ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البيِّن الواضح للعامي البليد -أي: الذي ضعف إدراكه وقلّ ذكاؤه- ثم صار هذا أغربَ شيءٍ -يعني: أغرب الأشياء- وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات]، وهذا من الانحراف الكبير، فإن العلم واضح، وهو العلم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وما كان عليه السلف الصالح، وما عداه فهو جهل، بخلاف الحال في كثيرٍ من الأحيان، حيث يعد تشقيق الكلام بما لا يدل عليه الكتاب والسنة وتفريعه بما يحصل به قسوة القلب هو العلم، وإذا ذكَّرهم الإنسان بقول الله، أو بقول رسوله ﷺ قالوا: هذه ظاهرية، وهذا جمود على النصوص، وهذا كذا وكذا وخلعوا عليه من الألقاب والأوصاف ما يزهد الناس في الإقبال على الكتاب والسنة، وما يجرِّئُهم على الوقوع في البدعة والدعوة إلى الضلالة، وهذا منعطف خطير، ومسلك يجب على المؤمن أن يحذر منه؛ فإنه لا يحصل كمال الإيمان ولا تمام الانقياد للنبي ﷺ إلاَّ بالتسليم بالنصوص، فبقدر ما مع الإنسان من تعظيم الوحيين والعمل بهما يكون حظه ونصيبه من العلم والعمل به، ومن المهم لنا نحن -طلبةَ العلم ومن يشتغل بطلب العلم- أن نعرف ونتلمس صفاتِ العلم النافع، ولذلك ينبغي علينا أن نجمع صفات العلم النافع من خلال الكتاب والسنة وكلام السلف؛ لأن في ذلك من الإشارات إلى العلم النافع ما ينبغي لنا أن نقف عليه، حتى نعرف ما الذي ينفع فنأخذه ونُقبِل عليه، وما الذي لا يدخل في إطار العلم النافع فنشتغل بغيره عنه؛ لأن العلم كثير.
4 / 3
تخبط من أعرض عن الكتاب والسنة
ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار العلم والفقه هو: البدع والضلالات، وخيار ما عندهم: لبس الحق بالباطل) وهذا هو شأن كل من أعرض عن الكتاب والسنة؛ فإنه في لبسٍ وخلط وتخبط وتناقضٍ واضطراب.
قال: (وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلاَّ زنديقٌ أو مجنون) .
يعني: في نظر الناس، كما تقدم ذلك.
فالناس يصفون من تكلم بالعلم من الكتاب والسنة بهذين الوصفين، ولكن هذا -ولله الحمد- ليس هو الغالب، لاسيما في زماننا هذا، بل من تكلم بالحقِّ والهدى فمهما وصف به من الأوصاف المقذعة القبيحة فإن الله تعالى يدافع عنه، كما قال تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف:١٢٨] .
4 / 4
بيان الحال في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀
ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم) .
ولا يخفى أن الشيخ ﵀ عاش في عصرٍ أصبح المتكلم بالكتاب والسنة والداعي إلى نبذ الشرك والبدعة غريبًا بين الناس، بل يُتهم بما ذكره ﵀ من الزندقة والجنون والخروج عن سنن العلماء وطريقة أهل العلم، وصار الذي يؤلف في تقرير ما عليه عامة الناس من البدع والشرك وتعظيم غير الله هو العالم الجهبذ الإمام المتبع.
فالشيخ ﵀ تكلم عن زمانه، وقد فتح الله ﷿ خير كثيرًا بعد ذلك ببركة دعوته ومن تلاه من أئمة الدعوة وأهل العلم في كل عصرٍ ومصر، أعني أهل العلم المتبعين للكتاب والسنة من أهل السنة والجماعة السائرين على طريق السلف الصالح، فبدعوتهم أصبح القول بالكتاب والسنة هو الحجة والبرهان، وهو الذي تطمئن إليه النفوس.
ومن نعمة الله أن الدعوة السلفية تكتسح الدعوات اكتساحًا بالغًا واضحًا، وهذا من نعمة الله ﷿ على هذه الأمة، وهو تصديق قول النبي ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) .
فنسأل الله ﷿ أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
4 / 5
شرح الأصول الستة - الأصل الخامس
ولاية الله ﷿ لا تنال بالدعوى، وإنما تكون بالالتزام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فمن كان لله تقيًا كان لله وليًا.
5 / 1
الولاية لله ﷿ وما تحصل به
5 / 2