شرح العقيدة الطحاوية - يوسف الغفيص
شرح العقيدة الطحاوية - يوسف الغفيص
Genre-genre
الخلاف بين أهل السنة والمتكلمين في دليل النبوة
وإنما المسألة التي تكلم أهل السنة فيها كثيرًا وخالف فيها طوائف من المتكلمين، هي مسألة دليل النبوة؛ فإن جماهير طوائف المتكلمين يقولون: إن دليل النبوة هو المعجزة، ويفسرونها بما هو خارق للعادة على جهة التحدي، وقولهم هذا غلط من جهتين:
الأولى: أنهم قصروا دليل النبوة على المعجزة.
الثانية: أنهم فسروا معجزات الأنبياء بالخوارق التي تقع على جهة التحدي.
والذي اتفق عليه السلف ﵏ أن النبوة لا يختص دليلها بالمعجزات، بل تثبت النبوة بالمعجزة التي تذكر في القرآن وتسمى (آية)، وتثبت بغير ذلك، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة ﵁، أن النبي ﷺ قال: (ما من الأنبياء نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة).
والدليل على فساد قول المتكلمين: أن الجماهير من المسلمين آمنوا بالنبي ﷺ ولم يبلغهم عند إيمانهم معجزة له، وإنما آمنوا بما بعث به من الحق، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس ﵄ لما كتب النبي ﷺ إلى هرقل كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، قال ابن عباس: (حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيَّ، قال: انطلقت بالمدة التي كانت بيني وبين رسول الله ﷺ إلى الشام)، وفيه أن هرقل قال: (هل هنا أحد -أي: بالشام- من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فدعيت في نفر من قريش، فأجلسني بين يديه، وأجلس أصحابي خلفي، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا -يعني: أبا سفيان - عن الرجل الذي يزعم فيكم أنه نبي، فإن صدقني فصدقوه، وإن كذبني فكذبوه، فكان في أسئلة هرقل:
هل كان من أبيه ملك؟
فقال أبو سفيان: لا.
فقال هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقال أبو سفيان: لا.
فقال هرقل: هل قال هذا القول أحد قبله؟
فقال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: من يتبعه؛ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟
قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
قال هرقل: يزيدون أم ينقصون؟
قال أبو سفيان: بل يزيدون.
قال هرقل: أيرتد أحدهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: هل يغدر؟
فقال أبو سفيان: لا يغدر، ونحن منه في مدة -أي: في صلح- لا ندري ما هو صانع فيها.
ثم قال أبو سفيان: فوالله ما أمكنني أن أدخل كلمة إلا هذه -أي: تشكيكًا بالدعوة-.
ثم قال: بم يأمركم؟
قال أبو سفيان: يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والصلة، والعفاف).
فهذه الأسئلة ليس فيها سؤال عن المعجزات، وبعدها قال هرقل: (إن يكن ما تقوله فيه حقًا فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه).
ثم بيّن هرقل معنى هذه السؤالات، فقال: (سألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فلو كان من آبائه ملك، لقلت: رجلٌ يطلب ملك آبائه، وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فلو قاله أحدٌ قبله فيكم، لقلت: رجلٌ ائتم بقول قيل قبله ..) إلى غير ذلك.
فالمقصود: أن هرقل عرف نبوة النبي ﷺ بدلائل ليس منها المعجزات، مما يدل على أن دليل النبوة ليس مقصورًا على المعجزة.
وكان النبي ﷺ يأتيه الوفود وتأتيه الأعراب، وآمن به من آمن من عبدة الأوثان، ومن اليهود والنصارى، مع أن جمهور من آمن به لم ينظروا معجزة وقت إيمانهم، وإنما صدقوه بما يقوله من الحق، ولهذا فإن أعظم ما بُعث به النبي ﷺ وأخص دلائل النبوة هو القرآن.
والقرآن من حيث الحقائق والنظم، فإن الله ﷾ تحدى العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
5 / 5