Explanation of Lāmiyya by Ibn Taymiyyah
شرح لامية ابن تيمية
Genre-genre
ثناء الله ورسوله على الصحابة والنهي عن سبهم
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا نزال في مبحث أصحاب رسول الله ﷺ، وإن المتتبع لنصوص الكتاب والسنة يجد أن الأدلة الواردة في فضائلهم منها ما ورد ورودًا عامًا بالثناء عليهم جميعًا، كقوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح:٢٩] والذين كانوا مع النبي ﷺ هم جميع أصحابه ﵃ وأرضاهم، وفي سنة النبي ﷺ قوله: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في منهاج السنة: "وإنا لنعلم أن أصحاب رسول الله ﷺ قد أنفقوا المد والمدين وأكثر، ولكننا لم نجد على مر التاريخ من أنفق مثل أحدٍ ذهبًا في سبيل الله تعالى" وكأن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يريد أن يقطع الآمال في أن يوجد أفضل من أصحاب رسول الله ﷺ، وإنما لهم المنازل العليا التي أدت للثناء عليهم على وجه العموم.
والناظر لسبب ورود هذا الحديث يعلم تلك المزية العظمى التي تميز بها هؤلاء الأخيار ﵃ وأرضاهم، إذ أن سبب ورود هذا الحديث: أنه اختصم عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد في سلب قتيل، وكان خالد رفض أن يعطي عبد الرحمن بن عوف سلب القتيل، ولعل خالدًا رد على عبد الرحمن بغلظة أو بنوع من الشدة، فذهب عبد الرحمن يشتكيه إلى النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ هذا الحديث العظيم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد) الحديث، وإذا كان هذا الكلام يقال لـ خالد بن الوليد مع أنه ممن أسلم متأخرًا وعبد الرحمن بن عوف من السابقين للإسلام، فمن بباب أولى أن يقال لمن بعدهم ممن لم يحصل لهم شرف الصحبة، ولهذا يقول أهل السنة والجماعة: إن أصحاب رسول الله ﷺ هم أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل، بل هم أفضل أتباع الأنبياء على الإطلاق.
ولذلك تميزوا بخصائص، فكلهم عدول لئلا يقدح أحد في روايتهم ونقلهم، ولهذا لا يوجد في أمة محمدٍ ﷺ أفضل من الصحابة، ولا يوجد في الأمم السابقة من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هو أفضل من أصحاب رسول الله ﷺ، وهذا أمر مقرر متفق عليه بين أهل السنة والجماعة؛ وذلك لأنهم أنفقوا أموالهم لنصرة دين الله تعالى، وصحبوا رسول الله ﷺ، وأثنى عليهم النبي ﷺ: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ثناءً عامًا مطلقًا على هؤلاء الصحابة ﵃ وأرضاهم.
أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة ﵂ وأرضاها أنها قالت لـ عروة بن الزبير: [يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله ﷺ فسبوهم] والأمر بالاستغفار لهم في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ﴾ [الحشر:١٠] .
فمن أول من سبقنا بالإيمان؟ إنهم أصحاب رسول الله ﷺ.
ولعل عائشة إنما قالت هذه المقالة: [أمروا بالاستغفار فسبوهم] لأنها سمعت أن أهل العراق أو النواصب يسبون عليّ بن أبي طالب، وكذلك الطائفة الأخرى تسب عثمان ﵁ وأرضاه، وهؤلاء كلهم من أجهل الناس، فأرادت أن تبين منهجهم ﵃ وأرضاهم، وأن الواجب علينا أن نثني عليهم ونستغفر لهم ونترحم عليهم.
وورد أيضًا حديث: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ولكن هذا الحديث ضعيف لا يعول عليه، ولا شك بأن أصحاب رسول الله يؤخذ منهم ويستفاد من علمهم، ويؤخذ من فقههم، وفقههم أرجح من فقه غيرهم كما سنبين ذلك.
يقول الإمام السفاريني رحمه الله تعالى في الثناء عليهم على وجه العموم: ولا يرتاب أحد من ذوي الألباب أن أصحاب رسول الله ﷺ هم الذين حازوا قصب السبق، واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق، فالسعيد من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهجهم القويم، والتعيس من عدل عن طريقهم ولم يتحقق بتحقيقهم، فأي خطة رشد لم يستولِ عليها هؤلاء الصحابة؟! وأي خصلة خير لم يسبقوا إليها ﵃؟! تالله لقد وردوا ينبوع الحياة عذبًا صافيًا زلالًا، ووطدوا قواعد الدين والمعروف، ولم يدعوا لأحد بعدهم مقالًا، فتحوا القلوب بالقرآن والذكر والإيمان، والقرى بالسيف والسنان ﵃ وأرضاهم، بذلوا النفوس النفيسة في مرضاة الرحيم الرحمن، فلا معروف إلا ما عرف عنهم، ولا برهان إلا ما بعلومهم انكشف، ولا سبيل ولا نجاة إلا لما سلكوه، ولهذا تميزوا بمزايا عجيبة لم تكن في غيرهم من الأمم التي جاءت من بعدهم.
ولهذا لما أثني عليهم، ذكروا من سعة علمهم ﵃ وأرضاهم أشياء، فهم من أفضل الناس على الإطلاق توقدًا في الأذهان، وفصاحة في اللسان، وسعة في العلم، وسهولة في الأخذ والإدراك، وسرعة في الاستنباط والفهم، ولا شك أنه لم يوجد لهم في قضايا العرض والطرح معارض منهم، بل كلهم متفقون على الأخذ بالمنهج وهو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
وكانت بذلك أقوالهم أرجح ممن بعدهم، وهذا أمر يتفقون عليه ﵃ وأرضاهم، إذ أن من بعدهم لن يكون أفقه ولا أعلم منهم، وإذا قلنا للناس جميعًا: من أعلم الناس على الإطلاق؟ قالوا: أصحاب رسول الله ﷺ.
وإذا قلنا: من أكثر الناس عبادة؟ قالوا: أصحاب رسول الله ﷺ.
وإذا قلنا: من أكثر الناس إنفاقًا في سبيل الله؟ من أكثر الناس جهادًا؟ من؟ من؟ إلى آخره، لن يشيروا بالبنان إلا لأصحاب رسول الله ﷺ لما تميزوا به، ولهذا أمرنا بالاستغفار والدعاء لهم، وما ذلك إلا لما حازوه من المناقب الحميدة، والسوابق القديمة، والمحاسن المشهورة، ولما لهم من الفضل الكبير لمن بعدهم، فما وصلنا الدين إلا على أكتافهم ﵃ وأرضاهم، ولذلك أمرنا الله بالاستغفار لهم في غير ما آية: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ﴾ [الحشر:١٠] .
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ﵏ أن عائشة ﵂ قالت: [أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله ﷺ فسبوهم] .
ونقل الإمام النووي ﵁ ورحمه عن القاضي عياض أنه قال: الظاهر أنها إنما قالت ذلك حين سمعت أهل مصر يسبون عثمان، وسمعت أهل الشام يقدحون في علي بن أبي طالب.
يقول ابن عباس رحمه الله تعالى ورضي عنه كما في الشرح والإبانة على أصول الديانة لـ ابن بطة العكبري ﵀: [لا تسبوا أصحاب رسول الله، فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم، وهو يعلم أنهم سيقتتلون] بمعنى أن ما حدث بينهم من الخلاف لا يجيز لنا أبدًا أن نتعرض لهم بسب أو نقد أو غير ذلك.
وذكروا أن عامر بن شراحيل الشعبي ﵀ قال: [يا مالك! فُضلت اليهود والنصارى على الطائفة التي تعتقد محبة علي بن أبي طالب وتعظمه وتجله بخصلة وهي: أنها عندما سئلت اليهود: من أفضلكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من أفضلكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وسئلت الطائفة التي تدعي محبة علي بن أبي طالب: من شركم؟ قالوا: شرنا أصحاب محمد ﷺ] .
روى أبو نعيم بإسناده إلى عمر بن ذر قال: أقبلت أنا وأبي إلى دار عامر، فقال لأبي: يا أبا عمر! قال: لبيك، قلت: ما تقول في هذين الرجلين؟ فسأل من هذين الرجلين؟ قال: ما تقول في علي وعثمان؟ قال: والله إني لعلي أن أجيء يوم القيامة خصيمًا لـ علي بن أبي طالب وعثمان وقد غفر الله لهما.
كيف غفر الله لهما؟ لأن الرسول ﷺ شهد لهما بجنات عدن في غير ما موقف وفي غير ما حدث، وليس في حدث واحد.
7 / 2