131

شرح العقيدة الطحاوية - خالد المصلح

شرح العقيدة الطحاوية - خالد المصلح

Genre-genre

إثبات استواء الله على عرشه
ثم قال ﵀: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) .
يشير بهذا ﵀ إلى استواء الله ﷿ على العرش، فإن الله ﷾ استوى على العرش، واستواؤه ثابت بالكتاب والسنة ثبوتًا لا ريب فيه ولا شك، فإن الله ﷾ أخبر باستوائه على العرش في مواضع عديدة من كتابه الحكيم فقال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] تكررت في سبعة مواضع من الكتاب الحكيم.
وجاء ذلك -أيضًا- في حديث عمران وفيه: (ثم استوى على العرش) وهو في الصحيحين، فاستواء الله على العرش ثابت لا مرية فيه ولا شك، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الاستواء على ما جاء في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، فقالوا: الرحمن على العرش استوى كما قال الرب جل وعلا، وأنكر هذا من أنكره من المتكلمين وعلى رأسهم الجهمية، فإنهم أنكروا استواء الله ﷿ على عرشه.
وتبعهم على هذا جماعة من مثبتة الصفات -كالأشاعرة- فأنكروا الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة، وأثبتوا الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقالوا: استوى على العرش أي: استولى عليه، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وتركوا المعنى المتبادر الذي فسره السلف وبينوه إلى معنىً غير ثابت في اللغة، بل في ثبوته في اللغة خلاف: هل يطلق استوى بمعنى استولى؟ العلماء مختلفون في ذلك، والصحيح: أن الاستواء معناه العلو والارتفاع.
وقد جمع ابن القيم ﵀ في نونيته كلام أهل العلم في تفسير الاستواء فقال: ولهم عبارت عليه أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي: استقر وقد على وكذا ار تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني فالمعاني أربعة: ارتفع، وعلا، وصعد، واستقر.
ثم اعلم أن الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة لا يلزم عليه نقص؛ لأن كلام الله حق، كما قال تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:٤٢]، وما كان حق فلا يمكن أن يلزم عليه لازم باطل مهما كان وكيفما كان، وإنما اللوازم الباطلة التي يلزم بها أهل الباطل أهل السنة والجماعة إنما جاءت من الأفهام السقيمة، والآراء الباطلة، والأقوال المنحرفة، والآراء الضالة.
فلما كان أهل السنة والجماعة على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة ﵃ سالمين من هذه البدع كانوا على الصراط المستقيم، يعملون بما في الكتاب من الهدى والحق ويقبلونه، فكانوا في روح ونور كما قال جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ﴾ [الشورى:٥٢] فالقرآن روح ونور، وأعظم الروح والنور ما كان عليه الصحابة ﵃؛ لأنهم لم تدخلهم هذه البدع التي حصل بها التحريف والتضليل، والانحراف عن الصراط المستقيم.
وكل من سار على طريقهم فله من الروح وهو: الحياة، والنور وهو: الهداية بقدر ما يستمسك بالكتاب المبين، والمؤمن إذا عمل بهذا وفق إلى خير كثير، وصرف عنه شر كثير.
أما إذا تبع هذه الأقوال الباطلة والآراء المنحرفة خفت صولة الحق في قلبه، وخفي نور الهدى من فؤاده، ووقع في أنواع الضلال والردى.
ثم قال ﵀ في الجواب عما ألزم به أهل الباطل أهل الحق من إثبات صفة الاستواء: (وهو مستغن عن العرش) سبحانه وبحمده، فهو الغني الحميد لا حاجة به إلى شيء من خلقه، وإنما استواؤه تعظيم واصطفاء، فهو دال على عظمته ﷾، وهو المتصف بصفات الكمال، ولله المثل الأعلى، وهو اصطفاء واختيار لهذا المخلوق من سائر الخلق حيث أضاف الاستواء إليه، والله جل وعلا لا معقب لحكمه يخلق ما يشاء ويختار، فمن جملة ما اختاره هذا العرش، فهو سبحانه اختاره وخصه بهذه الخاصية العظيمة وهي: أنه جل وعلا استوى عليه.
لكن لا تتوهم أنه محتاج إلى العرش، بل هو الغني عن كل شيء، فالغنى وصف له ذاتي ﷾، وكل شيء مفتقر إليه، ولا غنى للخلق عنه ﷾، وهو الغني الحميد جل وعلا؛ ولذلك قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر:٤١] فكل خلقه مفتقرون إليه، هو الصمد ﷾ الذي تذل له الرقاب، وتنزل به الحوائج مع كمال غناه ﷾، فقول المؤلف: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) أي: سائر الخلق؛ لئلا يتوهم متوهم من إثبات صفة الاستواء افتقار الله جل وعلا إلى العرش.
ولله المثل الأعلى: الآن السماء فوق الأرض فهل هي محتاجة في استقرارها إلى الأرض؟
الجواب
لا، فلا يلزم من علو المخلوق على الشيء أو استوائه عليه أن يكون محتاجًا إليه، فاقطع هذه الأوهام الباطلة، وإياك أن تصغي إلى شبه المشبهين، فإنهم يوقعون في الردى.

12 / 5