أثر ظن السوء على المجتمع ووحدته
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:١٢] .
تأملوا هذا النسق القرآني العظيم، بعد ذكره ﷾ السخرية وما يتعلق بها من اللمز والنبز بالألقاب يأتي بقسم آخر من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع المسلم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا﴾ هذه الخطوات الثلاث وما بعدها إيضاح لجريمة الغيبة.
قوله سبحانه: (اجْتَنِبُوا) بدل اتركوا أو لا تظنوا، يقول فيه والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: قال في الخمر: (فاجتنبوه) أبلغ في الزجر من اتركوه، أو لا تشربوه؛ لأن (تتركوه) قد يتركه وهو جنبه محتفظ به لكن (فاجتنبوه) .
أي: جنبوه عنكم بعيدًا، وكونوا عنه عن بعد فإذا كان عنك بعيدًا فلا أنت شارب له ولا محتفظ به.
وهنا: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ﴾، أي: كونوا على جانب من البعد من كثير من الظن، وهذا أبلغ من: لا تظنوا، و(كَثِيرًا) مفهومه: لو كان هناك ظن قليل وكان الظن للخير فلا مانع، كما قال تعالى: ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:١٢] .
جلس أبو أيوب وأم أيوب في تلك الحالة فقال: يا أم أيوب! لو كنت مكان عائشة أتفعلين ما يقال عنها؟ قالت: لا والله.
ولا أرضاه لنفسي، فقال: لـ عائشة خير منك، فقالت: وأنت يا أبا أيوب لو كنت مكان صفوان بن المعطل، أكنت تفعل ما يقال عنه؟ قال: لا والله، ولا أرضاه لنفسي، فقالت: لهو خير منكم، فظنوا بأنفسهم خيرًا، وكذلك ظنوا بأم المؤمنين أنها لا تفعل ذلك، فهذا ظن في الخير، فالظن في الخير كله خير، أما في الشر فلا.
إذًا: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ﴾ ولا مانع أن يكون هناك بعض الظن في الخير، والظن هو: التوجس والتحسب، وأن يكون فقه على غير علم، لا عن محسوس بسمع ورؤيا.
ثم هذه السخرية وما يتبعها من الهمز واللمز والنبز بالألقاب جاء هنا مرة أخرى، فقال: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ﴾، فإذا لم تجتنب وغلبتك النفس، ورأيت بعض العلامات أو الأمارات ورأيت أن بعض الناس يدخلون ويخرجون من بيت ما، فتقول: ماذا عند هؤلاء؟ وذهبت تقدر بأنهم يجتمعون على كذا، وأنهم يعملون كذا، فظننت بهم شرًا، فقلت: لماذا الظن؟ لم لا أتأكد؟ فذهبت تتجسس عليهم لتتحقق ما ظننته فيهم.
إذًا: التجسس مبني على سوء الظن، فجاء الترتيب منسقًا، ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ﴾ فإذا ظننتم ولا بينة عندكم فلا تتبعوا سوء الظن بالتجسس لتتحققوا فيما ظننتم فيه، وهذا في غاية من البلاغة والتنسيق القرآني الكريم، ظننت ثم ذهبت فتجسست لحب الاستطلاع، فستجد نتيجة إما سلبًا أو إيجابًا، فلما لم تجد شيئًا رجعت بخفي حنين، أو أنك وجدت شيئًا مما كنت تظن، فماذا يكون موقفك؟ قف عند هذا ولا تذهب تغتاب أخاك فيما رأيته من تحقيق ظنك السابق.
إذًا: يبدأ سوء الظن وهو عمل القلب، ثم تأتي الخطوة الثانية وهي: التجسس وهو عمل الجوارح، وتأتي الخطوة الثالثة بمقتضى تجسسك بأن تغتابه بذكر ما رأيت من معايب.
أرأيتم هذا النسق القرآني العجيب؟ هذا هو الإعجاز.
ثم يأتي تصوير القبح في هذا العمل: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ﴾ [الحجرات:١٢]، أي: بما رأى من تجسسه، أو كما بين الحديث بصفة عامة: (ما الغيبة يا رسول الله؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أرأيت إن كان حقًا ما ذكرته فيه؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول: فقد بهته)؛ ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٥٨]، فقد وسع الرسول ﷺ في موضوع الغيبة إما ابتداء وإما نتيجة للتجسس لا يغتب بعضكم بعضًا.
ثم جاء بالصورة التوضيحية: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ [الحجرات:١٢]، هذا التمثيل التصويري صورة بصورة، جعل القرآن العظيم أن ذكرك أخاك في غيبته بما يكره كأن تنهش لحم أخيك الميت، بجامع أن الغائب لا يملك أن يرد عن نفسه حال غيبته، والميت لا يملك الدفاع عن نفسه لموته، وقبح الفعل يأتي بالتعبير عنه بقوله: (فَكَرِهْتُمُوهُ) .
هذا أكل لحم أخيه لا لحم الغير، وهنا يبرز معنى الأخوة؛ لأن معنى الأخوة: العاطفة والرحمة والتآلف والتراحم، أما أن تغمز وتلمز وتغتاب أخاك وتصفه بما يكره، فهذه ليست من معاني الأخوة في شيء، ويذكرون الحديث النبوي الشريف في قصة ماعز لما اعترف وأمر الرسول ﷺ برجمه، فسمع الرسول ﷺ شخصين يتحدثان ويقولان: (ما فتئ ستر الله عليه حتى جاء وفضح نفسه، حتى رجم رجم الكلب، فلما سمعها رسول الله ﷺ سكت عنهما، حتى إذا مر بجيفة حمار) وفي رواية: (تيس أسك ميت قد انتفخ فوقف عنده وقال: يا فلان ويا فلان -وسماهما- تعالا كلا من هذه الجيفة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، وهل هذه تؤكل؟ قال: والذي نفسي بيده! للذي قلتماه في أخيكم أشد عند الله من أكل هذه الجيفة، والله إنه الآن ليمرح في متع الجنة) .
إذًا: هذه صورة يجعلها القرآن الكريم لمن اغتاب أخاه في غيبته سواء كان فيه ما قال أو لا؛ ما دام أنه يكره ذكر هذا فلا تذكره له، وهو تابع للتنابز بالألقاب المنهي عنه؛ كل ذلك إبقاء على وحدة المسلمين ووحدة الأمة ووحدة الصف؛ لأن هذه التوافه هي التي تمخض القلوب وتنفر بعضها من بعض، وتأتي بالفرقة بعد الألفة، فبين الله ﷾ أن هذا الفعل كريه: (فَكَرِهْتُمُوهُ) وهذا فعلًا شيء مكروه، فما دمتم تكرهون الأكل من جيفة الميت فكيف ترضون ذلك من لحم أخيكم؟ وكيف ترضون بالغيبة التي تعادل ذلك بالصورة والإنكار.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) اتقوا: الوقاية مما عند الله بترككم ذلك وبالعودة إلى الله بالتوبة، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:١٢] سبحان الله! ما قال: أنا الغفور الرحيم، وإنما قال: (توبوا) وهذا يرجع إلى أحد أمرين: إما أن تكون راجعة لهذا الذي ظننت به السوء ونصبت نفسك شرطيًا تتجسس عليه، فاعلم أن الله تواب رحيم، فإذا كان المولى ستر عليه ولم يفضحه فكن أنت صاحب سلطان؛ فالله الذي خلقه وخلقك تواب يتوب عليه ومرجعه إليه وأنت تذهب وتكشف سريرته، لا.
وإما راجعة إلى هذا الذي اغتاب وتجسس وسخر أنه إذا رجع إلى الله تاب الله عليه مما فعل.
فـ (تواب رحيم) صالحة أن ترجع إلى الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
7 / 11