فضل رب البرية في شرح الدرر البهية
فضل رب البرية في شرح الدرر البهية
Genre-genre
- فَضْلُ رَبِّ الْبَرِيَّةِ -
في شَرْحِ
- الدُّرَرِ البَهِيَّةِ -
طبعة كاملة ومصححة
شرح
أبي الحسن علي الرملي
- عفا الله عنه بمنه وكرمه -
1 / 1
مقدمة الشارح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد منّ الله عليّ بشرح "الدرر البهية " التي ألفها محمد بن علي الشوكاني ﵀ في الفقه الشرعي شرحًا صوتيًا، وسُجلت الدروس وفُرغت، فانتفع بها الطلبة بفضل الله.
ولمّا رأيت النفع بها قد حصل، والطلبة أقبلوا عليها؛ عزمت على طباعتها؛ كي يعم النفع بها بإذن الله.
فقمت بمراجعة المفرغات، فصححتُ ما احتاجَ إلى تصحيح، وزدتُ وحذفتُ بعض الأشياء التي لابد منها، فمن المعلوم أن الشروح الصوتية ليست كالمكتوبة.
وأشكر كل من شارك في إخراج الكتاب على النحو الذي هو عليه.
وأخص بالذكر كلًّ مِن:
أبي عبد الله علي بداني الجزائري
وأبي زيد رياض الجزائري
وأبي حذيفة محمود الشيخ
وأبي حمزة محمد حرز الله
وزوجي أم الحسن بنت بسام الصادق.
وغيرهم ممن شارك في تفريغ الكتاب.
وأخيرًا، أسأل الله أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن ينفع بنا، ويجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، إنه قريب مجيب.
المؤلف
أبو الحسن علي بن مختار الرملي
يوم ٢٥/ ١/ ١٤٣٦ هـ
1 / 2
تعريف الفقه
الفقه لغةً واصطلاحًا:
الفقه لغة: الفهم، قال الله تعالى ﴿قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول﴾.
واصطلاحًا، يختلف المعنى الشرعي للفقه عن المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء والأصوليين.
فالفقه في الشرع: معرفةُ كلِّ ما جاء عن الله ﷾ سواء كان في العقيدة أو الأعمال أو الأخلاق، أي كل ما جاء به النبي ﷺ.
وأما الفقه عند الأصوليين: فهو معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
فالعقيدة عندهم ليست من الفقه، وكذلك معرفة الأحكام الشرعية العملية التي عُرِفت بالضرورة، كتحريم الزنا والربا ووجوب الصلاة، فهذه لا تسمى عند بعضهم فقهًا، وكذلك الأحكام التي عُرِفت بالتقليد، لا تسمى فقهًا عند البعض.
فعلى ذلك، فالفقيه عندهم هو من كانت له ملكة الاستنباط، أي عنده الآلة التي يتمكن بها من استنباط الأحكام الشرعية العملية من الأدلة التفصيلية، وهي أدلة الكتاب والسنة، وعنده قدرة على استعمال تلك الآلة.
وأما الفقه عند الفقهاء، فهو: معرفة الأحكام الشرعية العملية، بأدلتها التفصيلية، سواء كانت بالاستنباط أو بالتقليد أو بالضرورة، فكلها داخلة في الفقه، فهو أعم من الفقه بالمعنى الأصولي.
1 / 3
فعلى ذلك، من حفظ جملة من الأحكام الشرعية العملية، الواردة في الكتاب والسنة، والمجمع عليها؛ يسمى عند الفقهاء فقيهًا.
لكن هذا الحفظ - حفظ طائفة من الأحكام الشرعية -، غير متيسر للكثيرين في زماننا هذا، فقال بعض أهل العلم: الضابط في معرفة الفقيه في زماننا هذا أن يتمكن من معرفة موضع المسألة الفقهية، فإذا تمكن من ذلك يكون فقيهًا عند بعض الفقهاء.
ولكن الذي ينال الفضائل الواردة في تعلم العلم، ويحصل على مكانة العلماء وفضائلهم، ونرجو له أن يحشر خلف معاذ بن جبل، هو: من حقق المعنى الشرعي للفقيه، وكان عاملًا به
وأما الاصطلاحات فلا يُبنى عليها حكم شرعي، وإنما هي لتقريب العلم فقط.
ويُعَدُّ الفقه غايةً بالنسبة لعلوم الآلة، وثمرته العمل، فلا يصحّ عمل من غير علم (١)
فواجب على كل مسلم أن يتفقه قبل أن يعمل.
_________
(١) لقول النبي ﷺ: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد».
أخرجه مسلم في «صحيحه» (١٧١٨) عن عائشة، وعلقه البخاري في «صحيحه» قبل الحديث رقم (٧٣٤٩)، وأخرجه البخاري (٢٦٩٧)، ومسلم (١٧١٨) بلفظ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
1 / 4
ترجمة الشوكاني
الشوكاني: هو أبو عبد الله أو أبو علي محمد بن علي الشوكاني ثم الصنعاني، من علماء اليمن، ولد عام ١١٧٣ هـ، ومات عام ١٢٥٠ هـ، وهو من فقهاء المحدثين.
له عدة مؤلفات من أشهرها: «نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار»، وكتابه هذا «الدرر البهية» وشرحه «الدراري المضية».
1 / 5
«الدُّرَرُ البَهيَّة» للشوكاني
الدُّرر، جمع درة، وهي: اللؤلؤة العظيمة الكبيرة.
البهية: الحسنة الجميلة.
قال المؤلف ﵀: (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ)
ابتدأ المؤلف بالبسملة، اقتداء بكتاب الله ﵎، وبسنة النبي ﷺ فإنه ﵊ كان يقتصر عليها في مراسلاته من دون الحمد، كما في كتابه لهرقل عظيم الروم (١).
وأما في خطبه ﷺ فكان يبدأ بالحمد (٢).
ومعنى البسملة هنا: أكتب مستعينًا بالله ذي الرحمة.
ثم قال ﵀: (أحمدُ مَنْ أمَرَنا بالتَّفَقُّه في الدين)
الذي أمرنا بالتفقه في الدين هو الله ﵎، فقال سبحانه ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢].
وقال ﷺ: «طلبُ العلمِ فريضةٌ على كل مسلمٍ» (٣)
وقول النبي ﷺ وحي من الله، فأمره أمر من الله؛ لأن الله ﵎ يقول: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾.
والفقه في الدين يشمل علم العقيدة، وعلم الفقه، وعلم الأخلاق والآداب.
يحمدُ المؤلفُ اللهَ ﵎، وقد عدل عن قوله (أحمدُ الله ﵎ إلى قوله: (أحمدُ من أمرنا بالتفقه في الدين) مع حمده لله في بداية تأليفه، إشارة منه ﵀ إلى
_________
(١) أخرجه البخاري (٢٩٤١) عن أبي سفيان بن حرب ﵁.
(٢) أخرجه البخاري (٨٦) و(٤٦٧) و(٩٢٣)، ومسلم (٩٠١) و(٩٠٥) و(١٠١٧) عن جمع من الصحابة.
(٣) أخرجه ابن ماجه (٢٢٤) عن أنس ﵁، وروي عن جمع من الصحابة، أفضلها حديث أنس ﵁.
قال الإمام أحمد: «لا يثبت عندنا فيه شيء» «المنتخب من علل الخلال» (٦٢)
وقال البيهقي: «متنه مشهور، وأسانيده ضعيفة، لا أعرف له إسنادًا يثبت بمثله الحديث». المدخل إلى السنن الكبرى (٣٢٥).
وانظر: «المقاصد الحسنة» (٦٦٠) للسخاوي.
1 / 6
موضوع الكتاب، وهو ما يسمى عند العلماء «براعة الاستهلال»، وهي أن يقدِّم المصنفُ في ديباجة كتابه - أي في فاتحة كتابه - جملة من الألفاظ يشير بها إلى موضوع كتابه.
و«الحمد» الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله مع المحبة والتعظيم، ويكون هذا الثناء بالقلب واللسان.
ثم قال ﵀: (وأشكرُ من أرْشَدَنا إلى اتباعِ سُنَن سيدِ المرسلين)
هذا شكر من المؤلف ﵀ لله ﵎، فإنه هو من وضح وبيّن لنا طريق النبي ﷺ وأمرنا باتباعه.
ولعل المؤلف يشير بذلك إلى أن كتابه الفقهي هذا سيكون مبنيا على الكتاب والسنة، فإنه لم يذكر فيه من المسائل الفقهية إلا التي صحّ دليلها عنده أو أجمع عليها العلماء، وترك من المسائل ما استنبطه العلماء استنباطًا، أي المسائل الاجتهادية.
فقد حاول ﵀ أن يسير على طريقة أهل الحديث في الفقه، التي تقدم الكتاب والسنة على كل شيء مع اعتبارهم للمعاني.
وهذه مدرسة من مدارس الفقه، وهي أول مدرسة وأكثر مدرسة تعظم الكتاب والسنة بطريقة صحيحة، وذلك لأنهم أخذوا هذه الطريقة عن أصحاب النبي ﷺ.
ومن المدارس الفقهية أيضا، مدرسة أهل الرأي، وهذه تعتمد على الرأي كثيرًا في بناء فقهها، بل يصل الحال بالبعض إلى تقديم الرأي على النقل، أي على الكتاب والسنة، ومن هنا جاء ذم السلف للرأي.
وتعجبني كلمة قالها الإمام الأوزاعي ﵀ في بعض أهل الرأي، قال: «ما نقمنا على فلان أنه يرى، كلنا يرى - يشير إلى أن القياس واستعمال الرأي في حال الضرورة كلنا نحتاج إليه، لكن هذا عند الضرورة، عندما لا يوجد في المسألة كتاب ولا سنة ولا إجماع - قال: ولكنا نقمنا عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي ﷺ فيخالفه إلى غيره. انتهى
هنا جاء الإنكار، فمصيبة أن تترك الكتاب والسنة، وتقدم رأيك، هذا ضلال وأيما ضلال، أن تلويَ أعناق النصوص كي تتماشى مع رأيك، وعقلك، كما يفعل كثير من أهل الأهواء اليوم.
1 / 7
هذه مدرسة ثانية، تسمى عند الفقهاء: مدرسة أهل الرأي، من أئمتها أبو حنيفة وتلاميذه.
وأما مدرسة أهل الحديث فمن أئمتها: صحابة رسول الله ﷺ وأئمة التابعين كفقهاء المدينة السبعة، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وغيرهم.
وكذلك فقهاء بلادهم في أزمانهم كالأوزاعي في الشام، ومالك في المدينة، والليث في مصر، وعبد الله بن المبارك في خراسان، والثوري في الكوفة، وابن عيينة في مكة، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، كل هؤلاء من أئمة أهل الحديث، كانوا يعظّمون الكتاب والسنة، ويقدمونهما، ولا يستعملون القياس إلا عند الضرورة، حين لا يوجد كتاب ولا سنة في المسألة.
و«الشكر»: ظهور أثر النعمة على اللسان والقلب والجوارح، بأن يكون اللسان مُقِرًّا بالمعروف مثنيًا به، ويكون القلب معترفًا بالنعمة، وتكون الجوارح مسْتَعْمِلَةً النعمةَ فيما يرضاه المشكور.
والشكر لله يكون بذلك كله، فلا بد من صرف النعمة التي أنعم الله بها عليك في طاعته كي تكون شاكرًا.
قال تعالى ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: ١٣].
وقال المغيرة بن شعبة: قام رسول الله ﷺ حتى تورّمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (١).
فالشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان والقلب، وأما الحمد فلا يكون بالعمل، فالشكر أعم من هذا الوجه.
والحمد يكون من غير سبق إحسان من المحمود، أو مع الإحسان، وأما الشكر فلا يكون إلا على الإحسان، فالحمد أعم من هذا الوجه.
ثم قال المؤلف ﵀: (وأُصلّي وأُسلِّم على الرسولِ الأمينِ وآله الطّاهرين وأصحابه الأكرمين)
(وأصلي وأسلم) أي أسأل الله أن يصلي ويسلم على سيدنا محمدٍ ﷺ.
_________
(١) أخرجه البخاري (١١٣٠)، ومسلم (٢٨١٩) عن المغيرة بن شعبة ﵁.
1 / 8
وصلاة الله على نبيه، ثناؤه عليه عند الملائكة المقربين، كما قال أبو العالية (١).
و(السلام): أي يسلمه من الآفات والنقائص.
(وآله الطاهرين) الآل إذا ذكروا من غير ذكر الأصحاب معهم، فالمقصود أتباعه على دينه من قرابته وغيرهم، وأما إذا ذكر الأصحاب معهم كما فعل المؤلف، فالمقصود قرابته، المؤمنون منهم.
والمؤلف صلى وسلم على النبي ﷺ امتثالًا لقول الله ﵎: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦].
وقد صلى النبي ﷺ على نفسه وآله حين علمنا الصلاة عليه (٢).
فالآل تأتي بمعنى الأتباع، وبمعنى الأهل.
وصلاة الملائكة والعباد على النبي ﷺ، الدعاء له بالرحمة.
كتاب الطهارة
ثم قال ﵀: (كتاب الطهارة)
كتاب: مصدر، يقال: كَتَبَ يَكْتُبُ كِتابَةً وكِتابًا، ومادة كتب تدل على الجمع والضم، لذلك سميت كتيبةُ الجيش كتيبة، لأنها تجمع وتضم مجموعة من أفراد الجيش.
واستعمل العلماء ذلك فيما يجمع أشياء من الأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والجمع والضم فيه حاصل على الحروف والكلمات وعلى المعاني.
_________
(١) أخرجه البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه» قبل الحديث رقم (٤٧٩٧) معلقًا، ووصله إسماعيل القاضي وابن أبي حاتم وغيرهما من طريق أبي جعفر الرازي.
وفيه خلاف يحتج به في مثل هذه الرواية، فهو صحيح.
(٢) أخرجه البخاري (٦٣٥٧)، ومسلم (٤٠٦) عن كعب بن عجرة ﵁.
1 / 9
والمراد هنا من حيث المعنى: جمع وضم الأبواب والمسائل المتعلقة بالطهارة.
وتعريف الكتاب اصطلاحًا هو: اسم لجملة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالبًا.
وأما (الطهارة) فلغة: النظافة، والتنزّه عن الأدناس وهي الأوساخ.
وفي الشرع تطلق على معنيين:
الأول: طهارة القلب من الشرك في العبادة، والغلّ والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهذه من مباحث الاعتقاد.
والمعنى الثاني، وهو المراد هنا: رفع الحدث وإزالة النجاسة، أو ما في معناهما.
(الحدث) هو ما يوجب الوضوء أو الغسل، فما يوجب الوضوء يسمى الحدث الأصغر كخروج الريح أو قضاء الحاجة، أما ما يوجب الغسل فيسمى الحدث الأكبر كالجنابة، وقد صح عن عَبيدة السلماني أنه سئل، ما يوجب الوضوء؟ قال: الحدث، أي الأصغر (١).
و(النجاسة) في اللغة: القذر.
وفي الشرع: كل عين يجب التطهر منها، كالبول والبراز.
وقولنا: (أو ما في معناهما) كتجديد الوضوء فإنه يسمى طهارة مع أنه ليس رافعا لحدث ولا مزيلا لنجاسة.
والنجاسة إما عينية أي عين الشيء نجسة كالبراز، أو وصفية كالبول إذا وقع على الثوب، فإن الثوب يوصف بأنه نجس.
والعينية تطّهر بالاستحالة، والوصفية بتنظيفها.
فهذا معنى كتاب الطهارة، فإن المصنف قد جمع في هذا المبحث كل ما يتعلق بالطهارة من المسائل الفقهية التي صح دليلها.
_________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨/ ١٥٣ - هجر)، المائدة (٦).
1 / 10
والمؤلف ﵀ قد بدأ بكتاب الطهارة كبقية العلماء الذين ألَّفوا في الفقه، لأن النبي ﷺ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان والحج».
فبدأ بالتوحيد، وهذا قد أفردت له مصنفات خاصة، ثم بالصلاة.
ولما كانت الصلاة لا تصح إلا بالطهارة، ويجب تحقيق الطهارة قبل الدخول في الصلاة، بدأ الفقهاء بالطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم بالحج، أي بالأهم فالمهم، أو بما لا يصحّ المهم إلا به.
قال المؤلف ﵀: (باب)
الباب لغة: هو الطريق إلى الشيء والموصل إليه، وباب المسجد وباب الدار: ما يدخل منه إليه.
وفي الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من الكتاب، ويكون بين مسائل الباب ارتباط أخص من ارتباطها بمسائل الطهارة.
وهذا الباب الذي سيبدأ به المؤلف، هو باب حكم المياه
قال ﵀: (هذا البابٌ قد اشتملَ على مسائل)
(المسائل) جمع مسألة، من السؤال، وهي المطلوب الذي يحتاج إثباته إلى برهان ودليل.
قال ﵀: (الأولى)
أي المسألة الأولى من مسائل هذا الباب.
قال: (الماءُ طاهرٌ مُطَهِّرٌ)
المراد بالماء هنا الماء المطلق، والماء المطلق هو ما كفى في تعريفه اسم الماء، أي الذي لم يُضَفْ إلى شيء فليس ماء ورد مثلًا، فالماء الذي لم يضف إلى شيء، يسمى ماء مطلقًا من غير إضافة شيء آخر إليه، كالماء النازل من السماء أو النابع من الأرض، أو مياه الأنهار والبحار.
1 / 11
و(الماء طاهر) أي ليس بنجس و(مطهر) أي مجزئ في الطهارة الشرعية من رفع حدث وإزالة نجس وغيرهما كالأغسال المندوبة، فلك أن تتطهر به وتتوضأ به، كما قال ﵇ للمرأة حين سألته عن ثوبها الذي أصابه دم حيض، قال: «واقرصيه بالماء» (١) أي نظفيه بالماء.
وكقوله للصحابة: «أهريقوا عليه ذنوبًا من ماء» حين بال الأعرابي في المسجد (٢).
وأصل ذلك قول الله ﵎: ﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورًا﴾
قال ثعلب - وهو أحد أئمة اللغة -: الطَّهور: هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره، وكذا قال الأزهري ﵀ صاحب كتاب «تهذيب اللغة».
وقال تعالى: ﴿وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به﴾.
وقال: ﴿فلم تجدوا ماء فتيمموا﴾.
وقال ﷺ: «الماء طَهور لا ينجسه شيء» (٣).
وقد جاءت أحاديث كثيرة أمر فيها النبي ﷺ بتطهير النجاسات بالماء، وستأتي إن شاء الله.
ونقل ابن رشد الإجماع على أن الماء طاهر مطهر (٤).
وقال المؤلف ﵀: (لا يُخْرِجُهُ عن الوَصْفَيْن)
أي لا يَخرُج الماء عن كونه طاهرًا في نفسه - وهذا الوصف الأول - ومطهرًا لغيره - وهذا الوصف الثاني.
قال: (إلا ما غَيَّرَ ريحَهُ أو لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ من النجاساتِ)
_________
(١). أخرجه البخاري (٢٢٧)، ومسلم (٢٩١) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق ﵄.
(٢) أخرجه البخاري (٦١٢٨) عن أبي هريرة ﵁.
(٣) أخرجه أحمد (١٧/ ٣٥٩ - الرسالة)، وأبو داود (٦٦)، والترمذي (٦٦)، والنسائي (٣٢٦) عن أبي سعيد الخدري ﵁.
(٤) قال ابن رشد في «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» (١/ ٢٩): «وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافًا في الصدر الأول شاذ».
1 / 12
أي إن الماء المطلق يبقى طاهرًا مطهرًا إلى أن تخالطه نجاسة فتغير رائحته أو لونه أو طعمه، فعندئذ لا يبقى طاهرًا ولا مطهّرًا، بل يصير نجسًا، لا يجزئ في رفع الحدث وإزالة النجاسة.
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب.
فعندنا أصل وهو أن الماء طاهر مطهر، وعرفنا دليل هذا الأصل، وهو عموم الآيات والأحاديث التي تقدمت، فلا يخرج الماء عن كونه طاهرًا ومطهرًا إلا بدليل.
وذكر المؤلف أن الماء لا يخرج عن كونه طاهرًا ومطهرًا إلا إن خالطته نجاسة غيرت أحد أوصافه الثلاثة، لونه أو ريحه أو طعمه، فيصير نجسًا لا يطهر، ودليل ذلك الإجماع.
قال ابن المنذر: «وأجمعوا على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغير للماء طعمًا أو لونًا أو ريحًا أنه نجس مادام كذلك» (١).
والأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فالإجماع يخصص عموم قول النبي ﷺ: «الماء طهور لا ينجسه شيء» (٢)، ويخصص عموم الأدلة التي دلت على أن الماء طاهر مطهر.
وورد في ذلك حديث عند ابن ماجة وغيره أن النبي ﷺ قال: «إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» (٣)
ولكنه حديث ضعيف، قال النووي: «اتفقوا على ضعفه» (٤)، والضعيف منه الاستثناء، أي قوله: «إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» وأما قوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء» فقد صح من حديث أبي سعيد الخدري كما تقدم.
_________
(١) «الإجماع» (ص ٣٥). وقال البيهقي: لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافًا. والله أعلم
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) أخرجه ابن ماجه (٥٢١)، والدارقطني في «سننه» (٤٧)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (١/ ٣٩٢) عن أبي أمامة الباهلي ﵁.
قال البيهقي بعدما أخرجه موصولًا مرفوعًا، قال: «ورواه عيسى بن يونس عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد عن النبي ﷺ مرسلًا، ورواه أبو أمامة عن الأحوص عن ابن عون وراشد بن سعد من قولهما، والحديث غير قوي، إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافًا. والله أعلم
(٤) «المجموع» للنووي (١/ ١١٠).
1 / 13
ثم قال ﵀: (وعن الثاني: ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المُغَيِّراتِ الطاهرة)
قوله (عن الثاني) أي عن الوصف الثاني، وهو كونه مطهرًا، فيريد أن الماء يبقى مطهرًا لغيره إلا إذا خالطه شيء طاهرٌ فأخرجه عن كونه ماء مطلقًا، أي غير إطلاقه، فصار له اسم آخر وهذه المسألة الثالثة.
مثال ذلك: إذا أخذنا كأسًا من الماء ووضعنا فيه كيسًا من الشاي، فإن الشاي طاهرٌ نزل في الماء فغير لون الماء حتى تغيرت حقيقته، فلم يعد ماء مطلقًا، بل تغيرت حقيقته وصار شايًا، فهذا طاهر ليس بنجس، ولكنه لا يطهر، لأن الذي يطهر هو الماء المطلق، فهو ما ثبت به الدليل، وأما غيره من المائعات، فلم يثبت فيه شيء فليست من المطهرات.
قال ابن المنذر (١): «وأجمعوا على أنه لا يجوز الاغتسال ولا الوضوء بشيء من هذه الأشربة سوى النبيذ» أي أن النبيذ قد حصل خلاف في جواز الوضوء به، والصحيح أنه لا يجزئ في ذلك لعدم وجود الدليل الصحيح.
ولكن إذا كان التغير بطاهر تغيّرًا يسيرًا، فإن الماء في هذه الحالة يبقى طاهرًا مطهرًا، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال في تغسيل ابنته: «اغسلنها بماءٍ وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا» (٢).
وكذلك الماء المتغير بما لا ينفك عنه غالبًا، كالطحالب والتراب، فإنه يبقى مطهرًا بالاتفاق (٣).
ثم قال ﵀ (ولا فرق بين قليل أو كثير)
هذه المسألة الرابعة.
أي أن الماء القليل والكثير له نفس الأحكام المتقدمة، لا يختلف، وفي هذا رد لقول الذين فرّقوا، إذ إن الأدلة ليست معهم في ذلك كما سيأتي.
_________
(١) «الإجماع» لابن المنذر (ص ٣٤).
(٢) أخرجه البخاري (١٢٥٣) ومسلم (٩٣٩) عن أم عطية ﵂.
(٣) انظر «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٣٠).
1 / 14
فقالوا في تفريقهم: إذا وقعت النجاسة في الماء القليل نجسته سواء غيرت أوصافه أم لا، وأما في الماء الكثير فلا تنجسه حتى تغير أحد أوصافه. ثم اختلفوا في ضابط التفريق بين القليل والكثير، فقال بعضهم بالتفريق ما بين القلتين وما دونهما.
قال المؤلف ﵀: (وما فوقَ القُلَّتَيْنِ وما دونهما)
أي لا فرق بين الماء القليل الذي ضابطه أن يكون أقل من قلتين، وما فوقهما
والتفريق بين ما فوق القلتين وما دونهما تحديد من بعض أهل العلم، ومنهم الشافعية، فالشافعية مثلًا وغيرهم قالوا: ما كان أكثر من قلتين، إن سقطت فيه النجاسة، ولم تغير أحد أوصافه الثلاثة، يبقى طاهرًا، أما إذا كان دون القلتين، فيصير نجسًا بمجرد أن تسقط النجاسة فيه، واختلفوا في القلتين، في مقدارهما.
والقلتان: تثنية قلّة، والقلّة: الجرّة الكبيرة، وقد اختلفوا في تقديرها اختلافًا كثيرًا.
فبعضهم يقول: قدرها مائة وستون لترًا، وبعضهم قال: مائتا لتر، وبعضهم: مائتان وخمسون، ومائتان وخمسة وسبعون، والبعض: ثلاثمائة، فاختلفوا في أصل قدر القلتين واضطربوا فيه اضطرابًا كثيرًا، والنبي ﷺ لا يضع ضابطًا بمثل هذه المقادير التي يُختلف فيها، ولا يُعرف قدرها.
واعتمدوا في هذا على حديث «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» (١)،
لكن هذا الحديث في صحته خلاف ونزاع بين أهل العلم، والصحيح هو ما رجّحه الإمام المزّي، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - أنه حديث ضعيف فيه اضطراب، والأقرب إلى الصواب أن يكون موقوفًا على ابن عمر ﵁ أي من كلامه. والله أعلم.
وهذا أقوى ما يحتج به من فرَّق بين القليل والكثير. والراجح أنه لا فرق بين القليل والكثير.
ثم قال ﵀: (وَمُتَحَرِّكٍ وساكِنٍ)
الماء الساكن كماء المستنقعات، والمتحرك كماء الأنهار
_________
(١) أخرجه أحمد (٤٦٠٥)، وأبو داود (٦٥)، والترمذي (٦٧)، والنسائي (٥٢)، وابن ماجه (٥١٧) عن ابن عمر ﵁.
وهو ضعيف، والصحيح وقفه على ابن عمر ﵁.
1 / 15
أي لا فرق بين الماء المتحرك والساكن، وهذه المسألة الخامسة من مسائل الباب.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز التطهر بالماء الراكد، واحتجوا بقول النبي ﷺ: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» (١).
والرد عليه في نفس الحديث، فقد سأل السامعون أبا هريرة، فقالوا: يا أبا هريرة كيف يَفعل؟ قال: يتناوله تناولًا.
فأجاز التطهر به، وراوي الحديث أدرى بمرويه، ولو لم يكن مطهرًا لما أجاز التناول منه.
وأجاب بعض أهل العلم الذين يقولون إن الماء الساكن مطهر، بأن علة النهي عن الاغتسال فيه من الجنابة كونه يصير مستخبثًا بتوارد الاستعمال فيبطل نفعه، فالنهي لسد الذريعة لا لشيء آخر، ويدل على ذلك قول أبي هريرة السابق
ثم قال المؤلف ﵀: (وَمُسْتَعْمَلٍ وغيرِ مُسْتَعْمَلٍ)
هذه المسألة السادسة.
اختلف أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات، هل يخرج بذلك عن كونه مطهرًا؟
فلو أنك توضأت أو اغتسلت، وجمعت الماء الساقط من وضوئك أو غسلك، فهل يجوز لك أن تتوضأ بهذا الماء أو تغتسل أم لا؟ وهو ما يسمى عند العلماء بالماء المستعمل.
اختلف أهل العلم في ذلك، فالبعض قال: هو طاهر ومطهر. والبعض قال: هو نجس. والبعض قال: هو طاهر، لكنه غير مطهر.
وكل احتج بأدلة، والصحيح أنه طاهر مطهر.
والدليل على أنه طاهر أن النبي ﷺ كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه (٢)، ولو كان نجسًا لما قربوه.
_________
(١). أخرجه مسلم (٢٨٣) عن أبي هريرة ﵁.
(٢) أخرجه البخاري (١٨) و(٢٧٣١) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.
1 / 16
وقد ثبت أنه ﵇ صب على جابر من وضوئه (١)، وثبت أن أحد الصحابة شرب من وضوءه ﷺ (٢)، وبوّب البخاري بابًا في استعمال فضل الوضوء، وساق آثارًا في ذلك (٣).
وأما كونه مطهرًا، فإن الماء المستعمل ماء مطلق داخل في عموم الأدلة المتقدّمة التي تدل على أن الماء المطلق طاهر مطهر ولا يجوز إخراجه منها إلا بدليل صحيح، ولا يوجد.
وخلاصة هذا البحث:
أن الماء المطلق طاهر مطهر، والماء إما أن يخالطه شيء طاهر أو شيء نجس.
فإن خالطه طاهر، فينظر إن أخرجه عن اسم الماء المطلق، فهو طاهر غير مطهر، وإن لم يخرجه فهو طاهر مطهر.
ومخالطة الشيء الطاهر اليسير له لا تؤثر فيه كمخالطة الصابون ونحوه، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال لأم عطية في تغسيل ابنته: «اغسلنها بماء وسدر» (٤) متفق عليه، وكذلك مخالطة ما لا يمكن الاحتراز منه غالبًا كمخالطة الطحالب أو ورق الشجر، أو التراب وغيرها من الأشياء التي تختلط بالماء.
وأما الماء الذي خالطته نجاسة، فإن غيرت أحد أوصافه الثلاثة، فهو نجس لا يصح التطهر ولا التطهير به.
وإن لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة فهو طاهر مطهر ولا فرق بين القليل والكثير على الصحيح.
ومن أقوى المذاهب الفقهية في باب المياه مذهب الإمام مالك، حتى قال الغزالي أحد أئمة المذهب الشافعي: وددت لو أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك.
فإنه كان من أقوى المذاهب في المياه، وكذلك مذهبه في البيوع.
_________
(١) أخرجه البخاري (١٩٤) ومسلم (١٦١٦) عن جابر بن عبد الله ﵁.
(٢) أخرجه البخاري (١٩٠) ومسلم (٢٣٤٥) عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله ﷺ، فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وَجِعٌ، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة».
(٣) «صحيح البخاري»، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، أول حديث برقم (١٨٧).
(٤) تقدم تخريجه.
1 / 17
(فصل باب النجاسات)
قال ﵀: (والنجاساتُ هي غَائِطُ الإنسانِ مطلقًا وَبَوْلُهُ إلا الذكرَ الرَّضيعَ)
تقدم تعريف النجاسة، وأنها في اللغة: القذر.
وفي الشرع: كل عين يجب التطهر منها مثل البول والبراز.
والمؤلف ﵀ يريد هنا أن يبين لنا النجاسات التي ثبت في الشرع وصفها بذلك.
ولابد أولًا أن نذكر قاعدة في هذا الباب، وهي أن: «الأصل في الأشياء الطهارة، فإذا جاء دليل ناقل عن ذلك الأصل أُخِذ به».
وقد دلَّ على هذا الأصل كليات وجزئيات في الشريعة.
ونأخذ منه أن أي شخص يدّعي أن عينًا ما نجسة وجَبَ عليه أن يأتي بالدليل على دعواه.
وأول الأشياء التي أثبت المؤلف نجاستها، غائط الإنسان، وهو عند العرب: ما اطمأن من الأرض، أي المنخفض، فكانوا فيما مضى إذا أراد الرجل أن يقضي حاجته طلب الموضع المطمئن من الأرض، لأنه أستر له، فكثر هذا منهم حتى سمّوا الحدث الخارج من الإنسان باسم الموضع.
وقد كان عند العرب أدب في انتقاء الألفاظ والكلمات، فلما كان الخارج من الإنسان مستقذرًا، حاولوا أن ينقلوا الاسم إلى شيء قريب كي يكون مقبولًا.
والغائط نجس - كما قال المؤلف - بالاتفاق، أي المسألة محل إجماع (١)،
وإذا كانت المسألة محل إجماع فلا نقاش فيها، لأن الإجماع دليل من أدلة الشرع الصحيحة، ومعرفة الأدلة الشرعية يرجع فيها إلى علم أصول الفقه.
_________
(١). قال ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص ١٩): «واتفقوا على أن بول ابن آدم إذا كان كثيرًا ولم يكن كرؤوس الإبر، وغائطه نجس».
وانظر «بداية المجتهد» (١/ ٨٣) لابن رشد.
1 / 18
وإذا أقمنا الدليل من الكتاب والسنة مع الإجماع زادت المسألة قوة في النفس، لتعدد الأدلة.
قال النبي ﷺ «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى، فليمسحه، وليصلِّ فيهما» (١).
وكذلك البول نجس بالاتفاق (٢)، وجاء عن أبي هريرة أنه قال: إن أعرابيًا بال في المسجد فقام إليه الناس، فقال لهم رسول الله ﷺ: «دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين» (٣).
واختلفوا في بول الذكر الرضيع، والصحيح أنه نجس أيضًا إلا أن الشارع خفف في طهارته تخفيفًا على الأمة، لحديث أم قيس ﵂: «أنها أتت بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام فبال في حجر رسول الله ﷺ، فدعا رسول الله ﷺ بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلًا» (٤)
ومعنى نضحه: أي رش عليه الماء بدرجة لا تصل إلى الجريان.
وفي حديث علي: قال رسول الله ﷺ: «يُنضح بول الغلام ويُغسل بول الجارية» (٥).
وهذا لا يدل على طهارة بول الغلام، فلو كان طاهرًا لما أُمرنا بنضحه، واختلاف كيفية التطهير للنجس غير موجبة لخروجه عن النجاسة، كتطهير النعلين مثلا من الأذى، وتطهير الثوب من دم الحيض، فإنهما لما اختلفا لم يوجب هذا أنهما غير نجسين.
ثم قال المؤلف ﵀: (ولُعابُ كلبٍ)
_________
(١) أخرجه أحمد (١٧/ ٢٤٢)، وأبو داود (٦٥٠) وغيرهما.
وأما حديث أبي هريرة ﵁: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور»، فضعيف؛ رواه جمع عن الأوزاعي قال: نبئت عن سعيد بن أبي سعيد ... إلخ، وخالفهم محمد بن كثير فذكر المبهم وهو محمد بن عجلان، ولكن ابن كثير منكر الحديث، فالصواب رواية الجماعة، فالإسناد ضعيف. وله طرق أخرى ضعيفة انظرها في «البدر المنير» (٤/ ١٢٧).
(٢) قال ابن المنذر: «وأجمعوا على إثبات نجاسة البول».
«الإجماع» (ص ٣٦)، وتقدم ما قاله ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص ١٩).
(٣) أخرجه البخاري (٢٢٠).
(٤) أخرجه البخاري (٢٢٣)، ومسلم (٢٨٧) عن أم قيس بنت محصن.
(٥) أخرجه أحمد (٢/ ٧) رقم (٥٦٣)، وأبو داود (٣٧٧)، والترمذي (٦١٠)، وابن ماجه (٥٢٥) عن علي بن أبي طالب ﵁.
1 / 19
لقول النبي ﷺ: «طُهُور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (١).
والصحيح أن لعاب الكلب ليس نجسًا، والطهارة المأمور بها هنا لإزالة الجراثيم التي تكون في لعاب الكلب وتختلط بالإناء وما فيه.
وقال مالك: «الأمر تعبُّدي».
والدليل على طهارة لعاب الكلب، أن الله ﷾ أذن في الأكل مما أمسكن علينا، فصيده حلال، فلو كان الكلب نجسًا لنجّس الصيدَ بمماسته.
قال الإمام مالك ﵀: «يؤكل صيده فكيف يكره لعابه» (٢).
ولفظ الطهارة لا تدل على نجاسة الشيء دائمًا، فقد تأتي لرفع النجاسة، وقد تأتي لغير ذلك، قال الله ﵎ ﴿وإن كنتم جنبًا فاطّهروا﴾ وهنا أمر بالتطهر، و«المؤمن لا ينجس» كما قال ﵊ (٣).
فالطهارة هنا لرفع الجنابة فقط وليست لإزالة النجاسة، فالطهارة إذًا تستعمل لإزالة النجاسة، وتستعمل لغير ذلك.
وقال ﵊ في الهرة: «إنها من الطوّافين عليكم والطوّافات» (٤)، والكلاب كذلك.
وهذا قول الزهري ومالك والأوزاعي وابن المنذر وكثير من المالكية.
ثم قال ﵀: (وروثٌ)
الروث هو رجيع ذوات الحوافر.
_________
(١) أخرجه البخاري (١٧٢)، ومسلم (٢٧٩) عن أبي هريرة ﵁، واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا».
(٢) «المدونة» (١/ ١١٦).
(٣) أخرجه البخاري (٢٨٣)، ومسلم (٣٧١) عن أبي هريرة ﵁.
(٤) أخرجه أحمد (٣٧/ ٢١١) رقم (٢٢٥٢٨)، وأبو داود (٧٥)، والترمذي (٩٢)، والنسائي (٦٨) وابن ماجه (٣٦٧) عن أبي قتادة ﵁.
1 / 20