غير أن أتباعه ومريديه توسعوا في تفسير أفكاره، حتى إن بعض النساء نشرن جريدة فوضوية بعنوان «المشعل»، ولكن هذا المشعل ما عتم أن انطفأ في الضباب اللندني؛ لأن الفكرة الواقعية غالبة في الإنكليز. وهذا وليم موريس الشاعر المزوق مات مؤخرا عن نصف مليون من الجنيهات تركها لورثته الأقربين دون أن يستفيد منها أحد من العامة.
لقد نظر روسكين إلى الطبيعة بعاطفة محب للفن مؤمن به، فلم ير منها سوى مظاهرها الغرارة. وإن الإنسان، عندما يفكر بهذه المأساة الأزلية الغامضة الأسرار التي تمر بنا على مسرح الحياة، وهذه الحرب الدائمة التي لا هوادة فيها ونتيجتها أبدا انتصار القوي وانهزام الضعف، وهذه المذبحة التي تولد وتموت فيها مواكب الناس بعد تهاويل الحياة وشقاء التقلبات، لأميل إلى تشاؤم دارون الطبيعي منه إلى تفاؤل روسكين السماوي. إن دارون وروسكين على طرفي نقيض في فهم الإنسان والطبيعة؛ ولهذا كان روسكين يكره دارون.
إن عبادة الجمال طريق لعبادة الله، وهذه النظرة إلى الجمال كانت تلائم - كما يقول تين - إنكليز ذلك العهد المحافظين المتزمتين، فكان روسكين يشعر بالحنين إلى العصور الماضية، عصور الحرارة والإيمان، ويثني على معابد الطراز القوطي في فرنسا وإنكلترا؛ لأنها تمثل تلك العصور، وكان يعجب بالقدامى من أهل الفن؛ لطهارة الشعور فيهم. وفي رأيه أن التقهقر في الفن بدأ من عهد رفائيل؛ فقد كان الفن من قبل وسيلة لإظهار الدين، فصار الدين وسيلة لإظهار الفن. وبلغ به التعصب في هذا الباب أنه لو استطاع لأحرق جميع النساء العاريات لروبنسن وجوردانس؛ ولهذا سماه بعضهم «توركمادا جمال».
ويطول بي الشرح لو أردت تعداد كل ما فكر به روسكين أو قاله أو عمله. ومن عادة الناس أن يستهزئوا بالخارجين على التقاليد والعادات، وينعتوهم بالمتهوسين، غير أن ذلك لا يمنعهم غالبا من أن يتبعوهم مأخوذين بحرارة القلب والإيمان والكلام، وعلى هذا الوجه قاد روسكين الرأي العام. وفي هذيانه الشعري المبعثر في ثمانين مجلدا كان يشعر بأخطار الحالة الاجتماعية، ويرى ما في حرب الطبقات والديمقراطية من الأسباب المؤذنة بانهيار المدنية. وجاءت ثورة الكومون في باريس وحرق باريس بعد الحصار «وقد ساهم بسخاء في إنعاشها» فثبتت روسكين في مخاوفه، على أن تفاؤله السماوي لم يفارقه يوما؛ ولهذا ظل رسول ألفة وسلام بين الطبقات. •••
هكذا كان حب الطبيعة الألف والياء في حياة روسكين، فظهرت آثاره في قسمات وجهه، وتجعدات جبينه، وأملى عليه كل حرف من كلماته، ووجه كل خطوة من خطواته، وأجرى كل معين من أفكاره. وكان له النور الذي يضيء، والنار التي تعطي الحرارة وتطهر؛ فأقصاه عن صغائر البغضاء وعن عذاب الحب، وأطلقه في ميادين الأبحاث العلمية؛ لأن العلم وحده يساعد على الدخول على الطبيعة في هيكل أسرارها.
ولا عجب إذا اعتبره الناس رجل أسطورة وهو الذي حارب وحده عالما بأسره، لا من أجل الحقيقة التي لها أنبياؤها، ولا من أجل العدالة التي لها رسلها، ولا من أجل الدين الذي له شهداؤه، بل من أجل ما هو فوق هذه الأشياء، وربما اجتمعت كلها فيه: الجمال.
نيتشه
دين القوة
لقد شبه بعضهم المذاهب الفلسفية بالأزياء العصرية، وهذا التشبيه على ما فيه من قلة الاحترام إذا قابلنا بين الهدف الأسمى الذي ترمي إليه الفلسفة، وهي الحقائق الخالدة، وما تمثل الأزياء من أباطيل العالم الزائلة، لا يخلو من الحقيقة؛ لأننا نرى الفلسفة تتبدل كالثياب والقبعات وربطات العنق؛ ذلك لأن الإنسان مطبوع على حب الجديد والرغبة في التنقل، فترى كل جيل يسعى إلى معارضة الجيل السابق، وكل فرد يحاول أن يتخذ مكانه تحت الشمس، فينكر أقوال من تقدمه، ويثور على أفكار السلف وعاداته وأذواقه، منزلا عن العروش آلهتها ليقيم بدلا منها هياكل أخرى.
بالأمس جاء شوبنهور فصور الحياة في أسوأ مظاهرها، وأشدها ظلاما، وأبعدها يأسا، وطلع علينا تولستوي يحمل غصن الزيتون، ويبشر بديانة الإنسانية المتألمة، وهي كلمات كانت لها روعتها عندما قيلت للمرة الأولى، صادرة عن ضمير حي واحترام صادق. أما اليوم فقد أصبحت تردد على كل لسان بحكم العادة دون إخلاص أو اقتناع. وبعد شوبنهور وتولستوي لفت أنظار الناس في العالم القديم والجديد تعاليم سترنر ونيتشه ، وهي تناقض كل المناقضة ما ألفوه. ولقد كان المعروف عن الفلسفة أنها محبة الحكمة، فجاء سترنر ونيتشه يجردان الحكمة من الآداب والأخلاق. وبينما الناس تردد مع الشاعر العربي:
Halaman tidak diketahui