أراد لها أن تسعد كما يسعد، وكان من قبل يسير مطرق الرأس، لا يرى من الدنيا إلا التراب والطين. أو لا يرى إلا شواغله وهمومه. أما هنا فرأى ما لم يكن يراه؛ رأى الفجر في طلعته السحرية، والغروب في عجائب ألوانه التي تنساب عن الشفق، ورأى النجوم الساهرة والقمر الساطع والآفاق اللامتناهية. رأى ذلك كله بقوة الحب الخالقة حتى عجب كيف يوجد بعد ذلك النكد!
وفي أوائل يونيو ظهرت على الساحل أول أسرة جاءت مبكرة للتصييف، فانقبض قلب عم إبراهيم، وشعر بدنو الشقاء كالأجل. ستولي السعادة قريبا وإلى الأبد. وزاده ذلك إصرارا على السعادة المتاحة، فأشعل سجائره تباعا. ويوما كان عند البقال، فلمح في آخر الطريق السيد لطفي الموظف بالسكرتارية بصحبة سمسار من سماسرة المساكن. سقط قلبه خوفا، فمضى مسرعا إلى عطفة جانبية، ثم تسلل منها إلى حجرته. جاء لطفي ليؤجر مسكنا لشهري يوليو وأغسطس كعادته كل صيف. وما هي إلا أسابيع حتى يجوب الشاطئ بالطول والعرض، ولا يبقى له هو مكان. إن يد الخيبة تطرق بابه ولن يجد له مكانا. سينقضي الحلم مثل هذه السحابة المسرعة. وستغادره محبوبته كزفيره. محبوبته التي يحبها رغم تململها وحدتها ولسانها المفلفل. يحبها، ويشكر لها ما وهبته من سعادة، ونفخت فيه من روح الشباب. فليسامحها الله وليسعدها الله. ووجد نفسه في حجرته منفردا، فراح يعد ما تبقى من النقود ثم لفها حول صدره. وسمع حركة عند الباب، فالتفت نحوه فرآها قادمة. تساءل ترى هل رأته؟ وقرأ في عينيها نظرة ماكرة؛ لذلك طار النوم من عينيه عندما استلقى إلى جانبها على الفراش. ومضى الليل في أرق وفكر، وسمع صوتا حنونا في أعماقه يقول له: أوهبها النقود وسرحها. فقال له: لم تزل لي أيام. فقال له: أوهبها النقود وسرحها. الطفلة الجميلة المشردة! من أبوها؟ .. من أمها؟ قالت له مرة بكل بساطة: لا أحد لي في الدنيا!
كذلك هو! وأحس بشيء يلمسه كثعبان في الظلام. تركز إحساسه في يدها المتلصصة. تسعى إلى سرقته! ألذلك بالغت في إنهاكه الماكرة حتى يغرق في النوم؟! يا للتعاسة! وقبض على يدها. ندت عنها شهقة في الظلام، ثم ساد الصمت. وتساءل بحزن: لم؟
ثم معاتبا: متى رفضت لك طلبا؟
وهوت على يده فعضتها بوحشية، حتى تأوه ودفعها بقوة. كانت أول حركة قاسية تبدر منه نحوها. ووثب إلى مفتاح الكهرباء، فأضاء الحجرة. نظر أول ما نظر إلى معصمه الملطخ بالدم، وقال: صغيرة، وبك هذا الشر كله؟!
رمقته بنظرة مستخزية لحظة، ثم ولته ظهرها. وتساءل: كيف تسعين إلى سرقة مالك؟
فقطبت تقطيبة نمت عن حنق وضيق، لكنها لم تنبس. فعاد يقول: لا مطمع لي في أكثر مما نلت!
وضحك ضحكة مريرة وقال: ليجزك الله عني خير الجزاء!
وفي الصباح أعطاها أكثر ما تبقى لديه من مال، وحزم متاعها ووصلها إلى المحطة.
ومن ثم أقفرت أبو قير. وتغير الحال رويدا وتقاطر المصيفون. وانتقل إلى الإسكندرية ليهيم على وجهه دون مبالاة. ومرة وجد نفسه أمام جامع أبي العباس فدخل. صلى ركعتين تحية للمسجد، ثم جلس موليا وجهه نحو الجدار. كان يعاني حزنا جليلا ويأسا رائعا. وناجى ربه همسا: لا يمكن أن يرضيك ما حصل لي، ولا ما يحصل في كل مكان. صغيرة وجميلة وشريرة أيرضيك هذا؟! وأبنائي أين هم؟ .. أيرضيك هذا؟ والعالم يطاردني لا لشيء إلا أنني أحبك فهل يرضيك هذا؟ وأشعر وأنا بين الملايين بوحدة قاتلة .. أيرضيك هذا؟ وأجهش في البكاء. ولما أخذ يبتعد عن الجامع فاجأه صوت ينادي: «عم إبراهيم!» فالتفت مندهشا بلا إرادة، فرأى جبارا يتقدم منه في ظفر وتشف، فأدرك من منظره أنه مخبر فتوقف مستسلما. قبض الرجل على منكبه، وهو يقول: أتعبتنا في البحث عنك .. الله يتعبك!
Halaman tidak diketahui