انفجرت «الرياسة» في رأسي، ولم يكن قد مضى على خدمتي إلا عام أو دون ذلك بأشهر، ووقفت باحترام وأنا ابتسم كالمعتذر، وقلت بتأثر ظاهر: تفضل بالجلوس يا أفندم، أنا في خدمتك!
لكنه مشى موغلا في الحجرة الصغيرة المستطيلة، حتى وقف وراء النافذة في نهايتها يطل على ميدان الأزهار، ثم عاد إلى مكتبي وهو يسأل: ألم يحضر معالي الباشا؟ - كلا، معاليه يحضر حوالي العاشرة. - ولا مدير مكتبه؟ - المدير يحضر حوالي التاسعة.
فانحرف جانب فيه الأيسر في امتعاض، ثم مد يده إلى سركي الوارد، وراح يفره بسرعة ثم قال: خانات كثيرة لم تسدد، هاك شكوى لم يرد عليها منذ عشرين يوما!
فانقبض صدري وأنا أتساءل على وجه من أصبحت اليوم، ثم قلت: إني أوزع الشكاوى المنشورة في الصحف على الإدارات المختصة في يوم ظهور الجريدة، والإدارات هي التي تتأخر في الرد. - ولم لا تستعجلها؟ - أستعجلها طبعا، ولكن بعض الردود يستدعي التحرير إلى التفاتيش في الأقاليم.
فهز رأسه في امتعاض ، ثم أشار إلى الباب وهو يقول بلهجة آمرة: اتبعني من فضلك.
وسار في ردهات الوزارة، وأنا أسير إلى جانبه متأخرا عنه خطوة من باب التأدب، من ردهة إلى ردهة، حتى أخذنا في طريق العودة وهو لا يمسك عن نثر الملاحظات: مكاتب خالية، أين الموظفون؟! حتى السعاة، والفراشون كالذباب الغائم! ما هذه الزكائب المحشوة بالأوراق؟! وهذه الزبالة؟ وتلك الأكداس المكدسة من الملفات كالمقابر؟! ورائحة الزيت والبصل؟ ما شاء الله .. ما شاء الله!
وجعلت أبدي عن أسفي بهز الرأس والتبسم الحزين، وأنا أسأل الله أن ينهي اليوم على خير، وإذا به يقول: كل شيء في غير محله! .. لو يعلم دولة الباشا!
وعدنا إلى الحجرة، فوقفت وراء مكتبي على حين جلس على الكنبة في شبه استلقاء، ثانيا ساقه فوق ركبته، والظاهر أنه رحم ارتباكي فقال لي: اجلس!
فجلست متشجعا بنبرة رقيقة انتزعتها انتزاعا من غلظة صوته، ومضى يتفحصني من وراء نظارته الكحلية في غير مبالاة، ثم سألني: من الجامعة؟ - نعم. - لم توظفت؟
فلم أحر جوابا. فقال: قل لأعيش! كلنا يريد أن يعيش، لكن الحياة تجري على غير ما يجب!
Halaman tidak diketahui