فحاول أن ينسى فيه ألمه. ومر الوقت أثقل من الخوف، وجثم الليل، وأفصحت طقطقة الكنبة والمقعدين عن تململ الجالسين. وما لبث أن مال رأس العجوز إلى مسند الكنبة، وراحت تشخر شخيرا ضاعف من البلوى. وتمتم عبد العظيم: كيف يمكن أن يمضي هذا الليل الطويل؟
فقالت تفيدة بعطف: ارجع إلى البيت.
فقال بلهفة: تعالي معي! - هبها ماتت أثناء غيابنا؛ فماذا يقول الناس؟!
فأبى أن يذهب وحده. وبدا أن المريضة هي الوحيدة التي ترقد في سلام. ومضى الليل يعد ذرات رمال الدنيا. واضطر الأخ وأخته إلى الانتقال إلى الكنبة؛ التماسا لمجلس أطرى وتمهيدا لنعاس متقطع متعب على مرمى أنفاس الموت المترددة. ولم يجد الرجل ما يتسلى به سوى التفكير في الميراث المنتظر، في نصيبه من مال البريد، ومن إيراد البيت الشهري الذي لا يقل عن عشرة جنيهات. ألا يضمن على الأقل مقدار علاوتين شهريتين؟ لعله يتمكن من شراء معطف، فما يجوز أن يلقى الشتاء كل عام بلا معطف في مثل هذه السن، ولعله يستطيع أن يرفه عن أسرته بشيء من الفاكهة الممتازة من حين لآخر، أو بنوع من الطيور ولو مرة في الشهر. لا شك أن الحياة ستكون أجمل مما كانت حتى الآن. وغلبه النوم وهو يناجي أحلامه، واستيقظ هو وأخته في الصباح الباكر بجسدين متوعكين في أكثر من موضع. واقتربت تفيدة من فراش العمة، وانحنت فوقها متفحصة، ثم عادت إلى أخيها وهي تقول: ينبغي أن نذهب إلى البيت، ولو لبضع ساعات.
فقالت ست نفيسة التي ظناها نائمة: تذهبان وترجعان بالسلامة!
فتلقت مجاملة العجوز كأنها بودرة عفريت رشت في قفاها، وذهبا معا واجمين. وفي الطريق قال عبد العظيم لأخته: لي صديق محام سيحل لي ألغاز الميراث في أقرب وقت.
وعادا قبيل الظهر بقليل. وأرهفا السمع وهما يقتربان من البيت، ولكنهما لم يسمعا شيئا مما كانا يتوقعان. كل شيء هادئ في البيت. والدجاج يتمشى فوق السطح في غبطة ظاهرة ويميل برأسه إلى الوراء؛ لينظر إلى القادمين. ووجدا في الحجرة العجوز وابنتها والحاج مصطفى والفراش المنعزل الصامت، حاملا العمة المصابة وكفنها المكوم عند القدمين. سلما ثم اتخذا مجلسيهما على المقعدين كالأمس، وهما يكابدان إحساسا بالخيبة، وخوفا من أن يتكرر عذاب الليلة الماضية. وخيل إليهما أن الحاج مصطفى هم بالكلام لكنه عدل عنه، ماذا كان يريد أن يقول؟ لعله يشعر بما يشعر به أي سمسار انكشف خداعه! والحق أن الحياة لا يمكن أن تحتمل على هذا النحو الأليم من الانتظار فوق مقعد خشبي على كثب من كفن. وكم من مشلول عاش دهرا طويلا! وربما وجبت عليهم خدمة المريض زمنا لا يدري مداه أحد. وقال الحاج مصطفى بلهجة ذات معنى: نحن نشتري الحقن حقنة بعد حقنة!
ألا خيبة الله! أنت وطبيبك نفسه! ولم يعلق عبد العظيم لا بكلمة ولا بنظرة. وراح الحاج يقص القصص عن الشلل والمشلولين. جدكما مثلا مات بمجرد إصابته. أبوكما لم يلبث إلا ساعات. وصاحب العمارة في أول الطريق سقط في القهوة، ولفظ أنفاسه قبل أن يجد من ينقله إلى البيت. وعشرات غيرهم، أي نعم عشرات. وما لبث أن قام قائلا: استدعوني إذا جد جديد.
وغادر الحجرة. وعقب ذهابه مباشرة أقبلت مجموعة من الجارات، فاستحسن عبد العظيم أن يذهب أيضا. مضى إلى قهوة بالأزهر، ثم تناول غداءه عند العاجاتي، وعاد إلى الحجرة فوجد الحال كما تركه. ولبث دقائق ثم مضى مرة أخرى إلى القهوة، فبقي بها حتى أتى المساء فعاد إلى الحجرة بأمل جديد، ولكنه وجد الحال كما تركه. وقالت له تفيدة بحزم: لن تستطيع المبيت هنا ليلة أخرى، ارجع إلى البيت وسأبقى أنا.
وغمغم بشيء لم يتبينه أحد ثم ذهب. رجع إلى أسرته، واطمأن في مجلسه أمام الراديو بين الأولاد، وتأرجح قلبه بين الطرب وبين عواطف الأبوة الأصيلة العميقة التي يلهمها كل ولد بطريقته الخاصة. وعمقت تجربة الليلة الماضية من مسرته بالمجلس، كأنما هو عائد إليه من مرض أو سجن. وسألته زوجته: أليس من الواجب أن أذهب معك غدا؟
Halaman tidak diketahui