ما أشد كتمانهما لعواطفهما! وما أعجب قوة ضبطهما لنفسيهما!
وقف الفتى ينظر إليها بعينيه النجلاوين نظرة بث ولوعة، فكان فيما نطقت به عيناه من كربة الوجد الأليم، والغليل المحرق، وحسرة اليأس المضاض، والقنوط المبرح، ما قدح في قلب الفتاة، وحز في أحشائها، حتى أحست أن مهجتها قد ذابت وأنها تسيل بين جوانحها نهرا فياضا من الحنان والعطف، وطوفانا دافقا من الشوق والصبابة.
هل به كمد ولوعة؟ أجل لشد ما يبدو عليه البث واللوعة والكرب والشقاء. أما إنها لتتلهف لهفا أحر من الضرام، وأحز من الحسام، على أن تعبر له عما يخالج ضميرها من فرط رثائها له، وحزنها عليه.
فهي تناجي نفسها بهذه الكلمة: «يا أحب الناس إلي وأعزهم علي، بودي لو أطلعك ... ولو على أقل ما ...».
ويرنو إصطفيان إلى ذلك الوجه الذي يقطر منه ماء الملاحة والحسن، وتترقرق في مرآته عواطف الحب والحنان والرحمة وإلى تينك الشفتين الحارتين، وبه كالجنون توقا إلى لثمهما ... أي لذة في قبلة يطبعها على تينك الشفتين! وما عسى يكون طعم هذه القبلة؟ وإذا جادت عليه هاتان الشفتان ب ... وهنا تمر فترة سكوت قصير مفعمة بسيل جياش من الوجد الأليم المبرح، ولكن كلاهما يكتمه بين أحناء ضلوعه وفي سويداء لبه، فلا تنتثر منه قطرة، ثم يضحك الفتى ضحكة فجائية سوداء.
ويقول بصوت متكلف مصطنع: «لقد تباحثنا في مسألة معضلة، ومشكلة عويصة.»
قالت الفتاة همسا، وصوتها لا يكاد يسمع من شدة جفاف حلقها وفرط يبسه: «يظهر لي أن الموضوع غاية في البساطة.»
يسمع الفتى قولها هذا، ولكن لا يرد عليه بأكثر من ضحكة سوداء أخرى، ثم يمد يده لسلام الوداع، فتضع فيها الغادة كفها، ويتبادلان ضغطة خفيفة، ثم يخرج ويغلق الباب تاركا الفتاة واقفة مسلوبة الحركة، وقد جمدت ضحكته السوداء الأخيرة كل ما كان يتدفق في قلبها من ينابيع الحب والحنان الحارة.
يهبط إصطفيان السلم ويسلم نفسه إلى جو أكتوبر القار القارس.
ثم ينحدر في الطريق، وهو يشعر أنه قد سبب آلاما وأوجاعا، وخلف هموما وأحزانا وراءه. ولكن هذا الشعور كان يتغلب عليه، ويكاد يمحوه شعور أشد منه وأعظم؛ شعور سخطه على حظه التعس وطالعه النحس، وحنقه على الدهر الظالم، والقدر المجحف.
Halaman tidak diketahui