Air Mata Bilyatcu
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genre-genre
كان الشيخ عبد الغني مقرئا من هؤلاء المشايخ الذين تكتظ بهم القرية حتى لتكاد أن تكون صناعة من لا صناعة له. صحبته زينب منذ تعلمت كيف تسير على قدميها، فقد كان رجلا ضريرا. تلك سنوات طويلة قضتها وهي تجره إلى حيث يريد لها أن تسير، غير أنها لا تذكر من ذلك كله إلا الوجه الصلب، والسحنة المتجهمة، والوقار الذي يتكلف الجد حتى يصير طبيعة لازمة، والفم المغلق الذي لا ينفتح إلا عند تلاوة القرآن، ولقد عرفت مداخل البيوت جميعا، ولكن قدميها لم تكونا تتعديانها أبدا. - بيت من هذا؟ - الشيخ منصور ناظر الوقف.
ثم يضرب أبوها الباب بعصاه مرة أو مرتين، ويمد يده إلى حبل قصير فيجذبه إليه، ويتحرك الترباس الغليظ، ثم يدلف من العتبة إلى الداخل وهو يطلق صوته القوي الواضح: يا ساتر. ويكرره مرة أو مرتين، ثم يميل على ابنته: ألا ترين أحدا؟ وحين ترد عليه بالسلب يضع جسده المتعب الثقيل على الكنبة ويتربع ثم يبدأ في قراءته، وهي تذكر الآن مجلسها هناك، عند هذا المدخل الذي لم تجتزه أبدا إلى ما وراءه، وهي تذكر أن عينيها لم تكونا تستقران، فقد كانت ترسلهما في قلب البيت تنقبان عن سر مجهول في داخله، ولكنها كانت تخرج من البيوت جميعا كما دخلتها، لم تتخط العتبات إلى ما وراءها، ولقد كان أبوها يتوقف عن قراءته ويميل عليها مستفسرا بسؤال لم يكن يتمه أبدا: ألم يأت أحد بالراتب؟ ثم لا ينتظر منها جوابا، بل يمضي في قراءته ليعود بسؤاله لها: العيش، ألا ترين دخانا يتصاعد؟ ولكنها لم تكن تجيبه أبدا، بل ترسل عينيها الباحثتين أمامها، وحين ينتهي أبوها يشد من جلبابها ويقول لها: إلى دكان الأسطى السيد.
وكان الأسطى السيد هذا سمكريا في الشارع الضيق القريب، ولقد كانت تبلغها دقات القواديم وأصوات الصفيح المطروق وتصليح البوابير وهي في طريقها إليه، وكان الشيخ لا يسألها عن مكانه أبدا، فكان يرفع صوته في جهد قائلا: «السلام عليكم ورحمة الله.» فكانت ابنته تنبه إلى أنهما لم يدركاه بعد، حتى إذا اقترب منه صاح قائلا: «السلام عليكم.» فتعود ابنته لتقول له وهي شبه غاضبة: «لسه شوية.» ويزمجر الرجل، وتتمتم شفتاه باستغفاره المألوف.
ويتخذ الشيخ عبد الغني مكانه المنزوي في داخل الدكان، ويظل يرفع في صوته ويجود في قراءته، ويدخل عليها هذا الإيقاع المنغم الذي لا يحسنه إلا قارئو المآتم، ويشق على حنجرته المتعبة لكي ينفذ صوته من خلال الطرقات الصاخبة إلى الآذان، وحين ينتهي من قراءته ويتأهب لوضع حذائه المتهالك في قدميه يصيح به الأسطى سيد مستغربا: «يا شيخ عبد الغني أفلا قرأت علينا شيئا من كتاب الله؟» - ولكن يا أسطى سيد، لقد قرأت عليك جزء عم بأكمله. - آه، إنني لم أسمع منه حرفا. - لقد كنت أصيح كلما ازدادت القواديم لجبا أن استمعوا. - إذن فمر بنا غدا. - ولكن ...
ويقاطعه الأسطى سيد ويصيح: «نحن معذورون يا شيخ عبد الغني، غدا، غدا، يا لله.»
وكانت زينب حين يدور هذا الحوار اليومي بين الرجلين تحرص على أن تكون يدها الهزيلة الخائفة ممدودة نحو السمكري، وكيف تنسى أن تفعل؟ وهل تهمل تعليم أبيها لها؟ يدك، يدك يا زينب، لا تريحها أبدا، لا أريدك أن تضعيها إلى جانبك كما يفعل بقية الناس، بل مديها إلى إمام، إن الرزق لا يهبط على الأيدي المنقبضة المقفولة.
5
وعاد أبوها يوما إلى بيته مهرولا، فكانت زينب تلتقط أنفاسها في صعوبة وهي تلهث وتجري لتلحق به، وحين دفع الباب صاح وهو يكح في عنف ويستعيذ من الشيطان: «الموت حق، الموت حق.» واندفعت نحوه امرأته قائلة: «ما لك يا شيخ عبد الغني؟» ثم مرت بكفها على جبهته وتلمست يديه ومسحت على رأسه وهي تستعيذ بالملائكة من كل شيطان، وقالت في أسى: «أنت دافئ الليلة.» وأمر الرجل بمخدته، فأخرجت من مكمنها ووضعت له، وحين استراح عليها اطمأن إلى أنه سعيد حقا، وأنه مرتفع عن الأرض كثيرا، وأنه أعلى من سواه شأنا.
هذه المخدة الطرية الناعمة تبعده عن عذابه الخشن القاسي، أولم ينس حياته البائسة حين يعود إلى بيته فيستند عليها ويتلمسها؟ ثم يهتف عاليا: «ما أكثر نعمك يا رب!» وتحسس الرجل حذاءه واطمأن إلى أنه قد وضع أمامه، ثم هتف بامرأته وابنته أن اقتربا مني، ونفخ يده كما يفعل كل مساء، وأخذ يقرأ آيات كثيرة مما ألف أن يتلو قبل نومه، ثم مر بيديه على رأسه ومسح بهما وجهه وجسده حتى قدميه.
وحين تم أوراده مد يده في حذر إلى جلبابه فرفعها، ثم غاص إلى حزام عريض من الصوف قد لفه على بطنه، ودسها فيه وقتا غير قصير، ثم اتجه إلى امرأته وهمس في أذنها: «هل أنت شجاعة يا امرأة؟» ولكنها لم تقل شيئا، فعاد يسألها: «هل أنت شجاعة يا امرأة؟» ولم تدر كيف تجيب، فلقد تعلقت عيناها باليدين القابضتين على شيء لا تدريه تمتدان إليها في حذر وإبطاء لكي تلقيه في حجرها. - ما هذا يا شيخ عبد الغني؟
Halaman tidak diketahui