Air Mata Bilyatcu
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genre-genre
صاحت منتصرة: ماما، ماما حكت لي كل شيء، الفندق والكافيتيريا وصالة الديسكو، كل شيء، أريد أن أتعلم الرقص يا بابا، قلت لك أريد أن أتعلم الباليه.
وقامت تطوح ذراعيها وساقيها على بقايا العشب، بدت له كجنية صغيرة خرجت من الكهف المسحور وراحت ترفرف مع البجعات المجنحة، وتذكر أنه شرح لها القصة أمام التلفاز وسمعها تعبر عن نفس الرغبة في تعلم الباليه، ولا يدري لماذا تراءت له في نفس اللحظة صورة أبيه وهو يدخل من باب الحديقة وكأنه يفتش في جنباتها عن مكانه في صدر الجلسة العائلية. أخذ يهيم هنا وهناك وصورته تتغير مع اقترابه وبعده: مرة في شكل سائح يرتدي بذلة جينز، وأخرى في شكل إخناتون الضامر الوجه المنتفخ الكرش خارجا من بين خرائب تل العمارنة وفي يده عنخ علامة الحياة، وثالثة في زي بدوي يلبس الغترة والعقال ويقلب سبحة طويلة في يده. نهض على الفور من جلسته وأمسك بيدها وهو يقول: تعالي يا حبيبتي، يجب أن نصعد الآن ونبعد عن كل الكوابيس. وعندما دخلا من باب البيت ووضع يده على حافة الترابزين الخشبي قال لها وهو يساعدها على الصعود: سنصحو مبكرين ولا بد أن ننام. ثم وهو يتحسس موضع قدميه في الظلام المنتشر في بئر السلم: ربما تكون آخر مرة نقف فيها في هذه الحديقة. هتفت نورة: ونخرج من هذه الحديقة؟ هذه المقبرة؟ ضغط يدها وهو يقول: هذه المقبرة فيها عرق أهلك وأجدادك ودموعهم، هيا يا حبيبتي، ربما تكون آخر مرة. هتفت وهي تلتصق به في صوت لم يدر هل ينم على الشفقة أم الرعب أم المكر: صحيح يا بابا؟ ونتخلص من الكابوس؟!
9 - أبي، يا أبي، يا أبي!
انتفض في فراشه فجأة وزلزال خفي يرج جسده وسريره وجدران غرفة النوم حتى خشي أن يقع البيت العجوز المقوس الظهر على رأسه. كانت آثار الارتجاج لا تزال حاضرة في اختلاج شفتيه المرتعشتين وعينيه وخفقات قلبه المتلاحقة والرؤى المفزعة التي طفقت تحوم حول وجهه وتكاد تصدم رأسه وشعره المضطرب وأعضاءه المرتجفة كالخفافيش السوداء المذعورة. فتح عينيه على اتساعهما وأغمضهما أكثر من مرة، وضم كفيه على وجهه وأخذ يقرأ الشهادتين ويستعيذ بالرحمن من الشيطان، وبقيت الاستغاثة التي أطلقها تدوي في سمعه: أبي، يا أبي، يا أبي. تلتف حوله فلم يجد أحدا إلى جواره. أنيسة صحت كعادتها مبكرة، ونورة التي تملأ البيت جلبة وضحكا وصياحا لم يسمع لها صوت. ما الذي حدث؟ هل خرجتا من البيت لقضاء حاجة ملحة؟ هل ذهبتا فجأة إلى المستشفى؟ هل نزلتا إلى الحديقة؟ أيمكن أن تلقيا نظرة على الخرابة كما سمتها أنيسة، أو المقبرة كما وصفتها نورة قبل أن يصعدا السلم في الليلة الماضية، ربما لآخر مرة كما قال لها وهو يضمها ويشدها إلى صدره؟
وبدأت الصور تتوافد عليه. إنه الكابوس الذي كلمته عنه نورة أكثر من مرة، أعدته الجنية الحبيبة فتغلغل فيه وأطلق عليه وحوشه وبومه وغربانه، والوحوش والبوم والغربان تدور في فراغ رأسه المظلم المتعب، وترفرف وتحوم أمامه كما رآها في الكابوس تماما، لكن ما أكثر وجوهها القبيحة وما أفظع أجنحتها المخيفة التي يرتفع طنينها في سمعه كجيوش بربرية تهجم على مدينة قديمة ولا تتركها حتى تحرقها وتسحقها وتذبح أهلها عن آخرهم! وعاد يضم رأسه بين كفيه ويتطلع في وجه أبيه الذي يناديه ويضيء وجهه كالبدر وسط سماء تراكمت السحب كالقطعان الهائجة على صفحتها.
أسند ظهره إلى ظهر السرير وأحكم وضع المخدة وراء ظهره، كانت أول صور الكابوس محتفظة بحيويتها ورعبها وحلكة سوادها: رأى نفسه على حافة بئر سحيقة محفورة في بئر السلم، وهو ينحني عليها بجذعه كله ويدلي رأسه في داخلها كأنه يسقط فيها دلوا يريد أن يملأه بالماء ليروي ظمأه ويبلل جوفه وفمه اللذين أحرقهما الجفاف، وها هو يرى وجه أبيه الذي يضيء جوف البئر كشمس صغيرة فوق سطح ماء راكد، والوجه يطفو ويغطس وإن كان الصوت يستغيث بلا انقطاع: يا ولدي، أخرجني من هذا البئر. - سأحاول يا أبي، انتظر، انتظر.
مد ذراعه بطولها فلم تصل إلا إلى الحافة، وأخذ يحني جذعه ويدلي ذراعه لعل يده تلامس يد الأب المستغيث، لكن اليد كانت تبتعد، والشمس الصغيرة تطفو وتغطس في لجج من السحب التي تزداد كثافة والزوابع التي تتجمع وتهب مطاردة لها، صاح به انتظر يا أبي، سأبحث عن حبل، انتظر!
هتف به الصوت الغاضب الذي تلفع في عباءة سحابة بشعة القسمات: بل انتظر أنت! من الذي نقلني من قبري إلى هنا؟ من رماني وسط الطين والظلام والأنقاض والأشواك والأعشاب والأوراق الجافة؟ قلت لك من؟
أنزل رأسه في فوهة البئر بقدر ما استطاع، أراد أن يعزيه عن فشله في الوصول إليه فزعق وردد البئر الأصداء المجوفة: لا تبتئس يا أبي، نحن مثلك في الطين والفوضى والظلام، العالم كله يا أبي، سأله الصوت الغاضب وقد ارتفعت درجة حدته حتى اقترب من الزئير أو الهدير أو الخوار الجريح: أهكذا تفعلون بآبائكم؟ أهذا تهيلون عليهم التراب والحجار؟ قال له وهو يكتم سخرية كادت تصبح ضحكة: نحن في عصر اغتيال الآباء يا أبي. - ومن أنت حتى تخاطبني بأبي؟ - أنا ابنك يا أبي، ابنك محمود.
سأل الصوت مستنكرا كأنه يخرج الكلمات من تنور مشتعل: ماذا؟ وأين إخوتك؟ أين عباس وحامد ومصطفى وفاطمة وخديجة؟ لماذا لم يحضروا لاجتماع شمل العائلة في الحديقة؟
Halaman tidak diketahui